قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في تفسير هذه الآية: كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً، فاختار سبعين رجلاً فبرز بهم ليدعوا ربهم، وكان فيما دعوا الله أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، قال موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ الآية.
وقال السدي: إن الله أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً على عينيه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلما أتوا ذلك المكان، قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته فأرناه، فأخذتهم الصاعقة، فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم، رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ.
وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخيّرَ فالخيّرَ، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سينا؛ لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال السبعون - فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه - لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا: يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:78]، وهي الصاعقة، فافتُلتتْ أراحهم فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ قد سفهوا، أفتهلك مَن ورائي من بني إسرائيل.
وقال ابن عباس - ا - وقتادة ومجاهد وابن جرير: إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادة العجل ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول بقول موسى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا، وقوله: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ.
فقوله - تبارك وتعالى - : وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً أي: اختار من قومه سبعين رجلاً، لِّمِيقَاتِنَا أي: للموعد والوقت الذي وقّته الله له لتكليمه ومناجاته، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، الرجفة هي: الزلزلة الشديدة، وفي سورة البقرة فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [سورة البقرة:55].
وقوله: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن كثير عن جماعة من السلف فمن بعدهم ليس فيها شيء تقوم به حجة؛ لأنها من الإسرائيليات، والأمور الغيبية لا تتلقى من مثل هذه الروايات، بل تحتاج إلى خبر عن المعصوم ، وهذه القضايا لا يدخلها الاجتهاد، فاختيار الموعد والميقات وسبب صعقهم قد يكون بسبب قولهم: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، أو بسبب أنهم طلبوا رؤية الله لما سمعوه يكلم موسى طمعوا في الرؤية، ويكون هذا المقام هو المذكور في سورة البقرة وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:55]، أو أن هؤلاء لما سمعوه يأمر موسى وينهاه قالوا: سمعناه يقول كذا وكذا وكذا ثم قال: إن شئتم فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، فبدلوا وغيروا وهم على الطور، أو أن هؤلاء جاءوا للاعتذار من عبادة العجل، والتوبة إلى الله - تبارك وتعالى - كما قاله بعض السلف وهو اختيار ابن جرير، فهذا كله يحتمل، أو أخذتهم الرجفة؛ لأنهم لم يزايلوا عبادة العجل، لم يفارقوهم ويفاصلوهم، وإنما بقوا معهم ينتظرون حتى رجع موسى ، فهؤلاء خيارهم، قال: ولم يزايلوهم فعاقبهم الله بهذا، وهكذا قوله: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا، وهنا قد يكون إشكال وهو أن هؤلاء وهم خيار بني إسرائيل، أمة عظيمة جداً يختار منها في زمن موسى ، والذي يصطفيهم هو نبي الله ﷺ مؤيداً بالوحي، ثم بعد ذلك يكونون سفهاء، أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا، هذا باعتبار أن الصاعقة أو الرجفة التي وقعت بسبب سؤال هؤلاء عما لا يليق، إما بسبب سؤال الرؤية، أو بسبب سؤالهم أن يعطيهم ما لم يعطِ أحدا قبلهم أو بعدهم، أو أن قولهم: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا أي: الذين عبدوا العجل، ولعل هذا أقرب - والله أعلم - ، وتكون الرجفة بسبب ما وقع من عبادة العجل، يبينه أن موسى قال: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ، والله يقول لموسى ﷺ قبل ذلك: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [سورة طـه:85]، فهنا يقول: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ، فالله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فلو قال قائل: إن هذا القول هو أقرب هذه الأقوال، وإن هذه الرجفة وقعت بسبب هذا، لم يكن ذلك بعيداً، لكنه يحتمل غير هذا أيضاً، والقطع والجزم في مثل هذا يصعب؛ لأنه قد يكون بسبب سؤالهم كما قال الله : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ [سورة البقرة:55] وكل هذا من تفسير القرآن بالقرآن، فيحتمل أن يكون المراد بهذا الموطن هو المشار إليه في سورة البقرة، ويحتمل غيره، فمن أهل العلم من يقول: هو نفسه، الرجفة بسبب سؤالهم الرؤية، فالعلم عند الله ، ومثل هذا لا شك أنه وقع بسبب إساءة وذنب، فكان عقوبة لهم، أما تحديد السبب ما هو، فمثل هذا بالنسبة إلينا لا يترتب عليه عمل، وليس من الصواب الدخول في مزيد من التفصيلات، وليس عندنا فيها مستند، - والله أعلم -.
وقوله: أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ الغفر: هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ: أي لا يغفر الذنب إلا أنت.