إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ: أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك، قاله ابن عباس - ا - وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وإبراهيم التيمي والسدي وقتادة وغير واحد، وهو كذلك لغة.
قوله: أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا [سورة الأعراف:155]، قال: الغفر هو الستر وترك المؤاخذة، هو كذلك يتضمن أمرين، إذا قلت: رب اغفر لي، يعني أنك تطلب الستر وعدم الفضيحة، والتجاوز عن الذنب، وعدم المؤاخذة، والوقاية من شؤم المعصية، كما يقال: المِغْفَر للذي يستر الرأس ويقي لابسه من الضرب، قال: وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا يقول: والرحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل، هذا جزء من الرحمة، من رحمة الله بالعبد، الغفر: ستر الذنب وعدم المؤاخذة به، والرحمة أعم من هذا، فستره وعدم المؤاخذة به من الرحمة، وَارْحَمْنَا معناه أن يفيض عليهم ألوان الإفضال في الدنيا والآخرة فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، فيهدي قلوبهم، ويصلح أحوالهم، ويدخلهم الجنة ويباعدهم من النار، يرفع لهم الدرجات، كل هذا داخل في الرحمة، فالعبد لا يستغني عن رحمة الله ، فطلبوا السلامة من آفة هذا الذنب وتبعته، وطلبوا أمراً أكبر من هذا وهو الرحمة العامة الشاملة التي تحصل لهم في الدنيا والآخرة، يقول: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً، يقول: تقدم تفسير الحسنة في البقرة، الحسنة كل ما يُسرّ به الإنسان في الدنيا والآخرة من إفضال الله وإنعامه من النصر والتمكين، وكل ألوان الفلاح فذلك من الحسنات، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ [سورة النساء:79]، وكذلك في الآخرة دخول الجنة، والسيئة: كل ما يسوء الإنسان في الدنيا والآخرة، إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ من هاد يهود إذا رجع، يا أيها المذنب هدْ هدْ، يعني: ارجع ارجع، قالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ : يعني رجعنا إليك، قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا [سورة الجمعة:6] سُموا بذلك لتوبتهم العظيمة المعروفة في التاريخ التي قصها القرآن كما قاله بعض العلماء - والله تعالى أعلم -، وذلك حينما عبدوا العجل فكانت توبتهم كما ذكر الله في سورة البقرة فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54]، فصار يقتل بعضهم بعضاً، اقتلوا أنفسكم، أي: ليقتل بعضكم بعضاً، فقُتل منهم خلق كثير، جاء في بعض المرويات عن بعض السلف - وهي من المأخوذ عن بني إسرائيل - أنه قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفاً، حيث ألقي عليهم الغمام، فكان الرجل يضرب وجه أبيه بالسيف، وأقرب الناس إليه، فحصلت فيهم مقتلة عظيمة، حتى رفع الله ذلك عنهم وتاب عليهم، وقبل توبتهم.
يقول تعالى مجيباً لنفسه في قوله: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ الآية، قال: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ: أي أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله تعالى إخباراً عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا [سورة غافر:7]، وروى الإمام أحمد عن جندب وهو ابن عبد الله البجلي قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها، ثم صلى خلف رسول الله ﷺ فلما صلى رسول الله ﷺ أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً، فقال رسول الله ﷺ: أتقولون هذا أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟ قالوا: بلى، قال: لقد حظرْتَ رحمة الله واسعة، إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها، وبهائمها، وعنده تسعٌ وتسعون، أتقولون هو أضل أم بعيره؟[1]، رواه أحمد وأبو داود.
هذا الحديث في إسناده ضعف، لكن بعض ما ورد فيه يوجد من الصحيح ما يشهد له، مثل، أصل الخبر، خبر الأعرابي الذي بال في المسجد، فزجروه ونهروه، والنبي ﷺ قال: لا تُزْرِموه بوله[2] ثم علّمه: أن هذه المساجد لا تصلح لشيء من أذى الناس، الشاهد أن الرجل قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا، وقال له النبي ﷺ: لقد حجرت واسعاً[3] أو كما قال ، وكذلك في الرحمة خلق مائة رحمة.
وقوله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية، يعني: فسأوجب حصول رحمتي منّة مني وإحساناً إليهم كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54]، وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ: أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهي أمة محمد ﷺ، لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ: أي الشرك والعظائم من الذنوب.
قوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ قيل: زكاة النفوس، وقيل الأموال، ويحتمل أن تكون عامة لهما، فإن الآية مكية، وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ: أي: يصدقون.
وقوله:وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ قال قوم: المقصود زكاة النفوس، فيكون كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [سورة الأعلى:14]، باعتبار أن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ولا إشكال أن يفسر ذلك في الزكاة؛ لأن الزكاة فرضت في المدينة هذا على القول بأن الزكاة لم تفرض بمكة، والراجح - والله أعلم - أن أصل الزكاة فرض بمكة، وأن تفاصيل الزكاة كان في المدينة، ففي سورة الأنعام وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141]، فالذين قالوا: المقصود زكاة النفوس، قالوا: لأن الزكاة لم تفرض أصلاً بمكة والسورة مكية، ومن أهل العلم من ينحو منحىً آخر في مثل هذا، فيقول: هذه الآية مدنية، ويخرج من هذا الإشكال، وهو ليس بإشكال في الواقع، ويمكن أن يقال: هذا مما نزل قبل فرض الحكم، على فرض أن الزكاة فرضت بالمدينة، والخطاب في قوله: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ لموسى ، وهو يشمل هؤلاء من بني إسرائيل، ويشمل كل من كان متصفاً بهذه الأوصاف.
- رواه أحمد في المسند برقم(18322)، واللفظ له، وقال محققوه: إسناده ضعيف لاضطرابه، وأبو داود برقم (4885)، كتاب الأدب، باب من ليست له غيبة، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (1041).
- رواه البخاري برقم(5679)، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، ومسلم برقم (285)، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها.
- رواه البخاري برقم(5664)، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
- رواه مسلم برقم (2752)، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، وأحمد في المسند برقم(9607)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الملك فمن رجال مسلم.