الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلْأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ ۙ أُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف:157].
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [سورة الأعراف:157]، وهذه صفة محمد ﷺ في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم، كما روى الإمام أحمد عن أبي صخر العقيلي حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله ﷺ فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود، ناشراً التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها، فقال رسول الله ﷺ: أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه هكذا، أي لا، فقال ابنه: إي، والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فقال: أقيموا اليهودي عن أخيكم، ثم تولى كفنه والصلاة عليه[1]. هذا حديث جيد قوي، له شاهد في الصحيح عن أنس .
وروى ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو -ا- فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، قال: "أجل، والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عميا، قال عطاء: ثم لقيت كعباً فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفاً إلا أن كعباً قال بلغته قال: قلوباً غلوفياً وآذاناً صمومياً وأعيناً عمومياً"[2]. وقد رواه البخاري في صحيحه وزاد بعد قوله: "ليس بفظ ولا غليظ": "ولا سخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح"[3].
وذكر حديث عبد الله بن عمرو - ا - ، ثم قال: ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا والله أعلم.

بعد أن ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعض الآثار في التبشير ببعثة النبي ﷺ قال: "ثم يقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب"، وهذا جواب على إشكال وارد، وهو أن هذه الآثار قد لا توجد في التوراة؛ لأن العلماء يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب كلها، وهذه الكتب قد حرفت وفي نسخها تباين كبير، وقد سبق الكلام على هذه المسألة عند تفسير قول الله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، والراجح في هذه الكتب أنها محرفة، ولا يعني هذا أن ناقل هذه الروايات كذاب، ككعب الأحبار وغيره من الرواة.
وقد اعتنى غير واحد من علماء التفسير بنقل المبشرات ببعثة النبي ﷺ فقد ذكر الرازي عند قول الله - تبارك وتعالى - : وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6] بعض هذه المبشرات.
ومن الكُتاب الذين اهتموا بنقل المبشرات صديق حسن خان في فتح البيان، والكرواني الهندي في إظهار الحق، وغيرها من الكتب.
وقوله تعالى: يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة الأعراف:157] هذه صفة الرسول ﷺ في الكتب المتقدمة، وهكذا كانت حاله لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود : إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فأَرْعها سمعك، فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه[4]، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36]، وقوله: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث [سورة الأعراف:157]، أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث [سورة الأعراف:157]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.

قوله: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ لا يلزم أن يكون ذلك بمقابل ما حرموه على أنفسهم، فيدخل فيه ما حرموه على أنفسهم ويدخل فيه كل ما أباحه الشارع للناس من أكل الطيبات، وما كان نفعه غالباً وإن وجد فيه بعض الضرر فهو من جملة الطيبات، فالنبي ﷺ أخبر أن ألبان البقر شفاء لحومها داء، فعن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: عليكم بألبان البقر وسمنانها، وإياكم ولحومها، فإن ألبانها وسمنانها دواء وشفاء، ولحومها داء[5]، وليس معناه أن هذا هو الغالب عليها، ومن المعلوم أن المصالح الخالصة هي في الجنة، أما في الدنيا فسائر اللحوم وسائر المطعومات لا بد أن تشتمل على بعض الآثار السلبية.
وقوله: يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [سورة الأعراف:157]، دليل على تحريم الحشرات، وكل ما يستخبث، كالخنافس والوزغ والحيات والعقارب، وعلى جواز أكل الأمة الكنغر والجربوع؛ لأنها من جملة الطيبات.
وقد قال بعض أهل العلم: ضابط الخبائث ما استخبثته العرب؛ لأنهم أعدل الناس ذوقاً وطبعاً، أما غيرهم فأذواقهم منكوسة معكوسة، فمن الناس في بعض البلدان من يأكل الكلاب، ويفضلونها على سائر الأطعمة، ويأكلون الحيات والضفادع، ويأكلون مخ القرد وهو حي، ويأكلون الحيات وهي حية، ويصل الطبق الواحد من لحم الحية إلى ثلاثين دولاراً، ولهم أسواق واسعة لبيع وشراء هذه المستخبثات.
وقوله: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف:157]، أي: أنه جاء بالتيسير والسماحة، وقال ﷺ لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري - ا - لما بعثهما إلى اليمن: بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا[6].
وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي : إني صحبت رسول الله ﷺ وشهدت تيسيره، وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضُيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم، ولهذا قال رسول الله ﷺ: إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل[7]، وقال: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه[8]، ولهذا قال: أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وارحمنا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:286]، وثبت في صحيح مسلم أن الله قال بعد كل سؤال من هذا: قد فعلت، قد فعلت[9].

قوله: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [سورة الأعراف:157]، الآصار هي التكاليف الشاقية الثقيلة على النفوس، فتوبة بني إسرائيل كانت بقتل أنفسهم، أما في هذه الأمة فالتوبة بالندم والإقلاع عن الذنب والعزم على ألا يعود إلى الذنب، وإن كان الذنب يتعلق بالمخلوقين فيرد المظالم إلى أهلها.
وكان اليهودي يقطع ثوبه الذي أصابته نجاسة، وأما في هذه الأمة فيكفي المسلم أن يغسل ثوبه بالماء، وكانت اليهود لا يجالسون المرأة الحائض ولا يأكلون معها ولا يخالطونها، أما المسلم فيأكل مع المرأة ويجالسها ويباشرها وهذا كله من يسر هذه الشريعة.
وقوله: فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ [سورة الأعراف:157] أي: عظموه ووقروه.

أصل العزر المنع، ومعنى عزروه أي: منعوه من عدوه، والنصر أبلغ من المنع من العدو، ولذلك استشار النبي ﷺ الناس وسألهم عدة مرات لما جاء يوم بدر، وأراد ﷺ أن يعرف ما يقول الأنصار؛ لأن مبايعته لهم كانت للدفاع عنه من عدوه.
وقوله: وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ [سورة الأعراف:157]، أي: القرآن والوحي الذي جاء به مبلغاً إلى الناس، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف:157] أي في الدنيا والآخرة.
  1. رواه الإمام أحمد برقم : (23539) (5/411).
  2. رواه البخاري، كتاب البيوع وقول الله : وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، وقوله: إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [سورة البقرة:282]، بَاب كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ في السُّوقِ (2/747)، برقم: (2018)، بلفظ: عن عبد الله بن عمرو بن العاص ا أن هذه الآية التي في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، قال: (في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً).
  3. رواه البخاري (4/1831)، برقم: (4558) كتاب المغازي -بَاب إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
  4. حلية الأولياء (1 / 130).
  5. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم: (8232)، (4 / 448)، وحسنه الألباني في السلسلة ( 1/ 8 ).
  6. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير- بَاب ما يُكْرَهُ من التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ في الْحَرْبِ وَعُقُوبَةِ من عَصَى إِمَامَهُ وقال الله تَعَالَى: ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (2873) (3/1104)،  ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (3/1359) برقم: (1733)، بلفظ: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا
  7. رواه البخاري، كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق إلا لوجه الله وقال النبي ﷺ: لكل امرئ ما نوى ولا نية للناسي والمخطئ، (2/894)، برقم: (2391)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر (1/116)، برقم: (127)، بلفظ: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم.
  8. رواه ابن ماجه (2045)، (1/659)، بلفظ: إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل(1 / 123).
  9. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر (1/116)، برقم: (126).

مرات الإستماع: 0

"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ [الأعراف: 157] هذا الوصف خصص أمَّة محمد ﷺ."

قائل هذا أبو بكر الهذلي[1] وجاء نحو ذلك عن قتادة، وابن جُريج[2].

"قال بعضهم: لما قال الله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ طمع فيها كل أحد حتى إبليس، فلما قال: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يئس إبليس، وبقيت اليهود، والنصارى فلما قال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ يئس اليهود، والنصارى.

قوله تعالى: النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لا يقرأ، ولا يكتب، وذلك من أعظم دلائل نبوة محمد ﷺ لأنه أتى بالعلوم الجمَّة من غير قراءة، ولا كتابة، ولذلك قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] قال بعضهم: الأميّ منسوب إلى الأم، وقيل: إلى الأمة."

منسوب إلى الأم لكونه باقيًا على الحالة التي وُلِدَ عليها، لا يكتب، ولا يقرأ، أو منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا باعتبار أنه على عادتهم النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ منسوب إلى الأمة التي لا عهد لها بالكتابة.

وبعضهم يقول: نسبة إلى أم القرى، وهذا لا يخلوا من بُعد النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ فالنبي ﷺ أمي لا يقرأ، ولا يكتب، والأمي هو الباقي على حاله الأولى نسبة إلى الأم، هذا هو المشهور، رجل أمي هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة: 2] هل المقصود بالأميين هنا الذين ينسبون إلى الأمة التي لا تقرأ، ولا تكتب؟ أو المقصود بذلك نسبة إلى الأم، باعتبار أن الإنسان يكون على حاله التي وُلِدَ عليها؟

"قوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل، وكذلك الضمير في عندهم، ومعنى يجدونه، يجدون نعته، وصفته."

هنا أورد عبارات كثيرة فيما ورد في كتب أهل الكتاب، وما جاء عن أحبارهم، ونحو ذلك مما يكون موافقا لقوله: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ كلام طويل.

"ولنذكر هنا ما ورد في التوراة، والإنجيل، وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا ﷺ فمن ذلك ما ورد في البخاري، وغيره أنّ في التوراة من صفة النبي ﷺ: يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهدًا، ومبشرًا، ونذيرًا، وحرزًا للأمّيين، أنت عبدي، ورسولي، أسميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به عيونًا عُميًا، وآذانًا صُمًا، وقلوبًا غُلفًا[3]."

هذا في البخاري عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، وكان عبد الله بن عمرو - ا - قد أصاب زملتين يوم اليرموك، فكان يقرأ فيها من كتب أهل الكتاب، فجاء ذلك عنه، وليس بمرفوع إلى النبي ﷺ فهذا مما وجده في كتابهم.

ومثل هذه المرويات، أو الأخبار، ونحو ذلك تجدونها في بعض كتب التفسير في هذا الموضع، وكذلك في قوله تعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] تجدون هذا في تفسير "فتح البيان" للصدِّيق حسن خان، وكذلك صاحب "التفسير الكبير" للرازي، ذكر أشياء من هذا، كذلك تجدون في كتب الشمائل، والخصائص، وتجدون أيضًا في مثل كتاب "إظهار الحق" وهو من الكتب البديعة في الرد على النصارى في مجلدين، وله مختصر، هذا الكتاب ذُكِرَ فيه من هذه الشواهد الشيء الكثير، للكرواني - رحمه الله - عالم هندي متأخر، وهذا الكتاب من أنفس الكتب فيما أعلم في الرد عليهم.

"ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق بأيديهم إلى الآن: إنّ الملك نزل على إبراهيم، فقال له: في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم: يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك، فقال الله لإبراهيم: ذلك لك، قد استجيب لك في إسماعيل، وأنا أباركه، وأنميه، وأُكَبِّره، وأُعظِّمه بماذ ماذ، وتفسير هذه الحروف محمد.

ومن ذلك في التوراة إنَّ الرب تعالى جاء في طور سيناء، وطلع من ساعر، وظهر من جبال فاران، ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى وساعر موضع عيسى وفاران هي: مكة موضع مولد نبينا محمد ﷺ ومبعثه، ومعنى ما ذُكِرَ من مجيء الله، وطلوعه، وظهوره هو: ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع، وتفسير ذلك ما في كتاب أشعيا خطابا لمكّة: قومي فأزهري مصباحك فقد دنا، وقتك، وكرامة الله طالعة عليكِ، فقد تجلل الأرض الظلام، وغطا على الأمم المصاب، والرب يُشرق عليك إشراقًا، ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك، وتحج إليك عساكر الأمم، وفي بعض كتبهم: لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود، وامتلأت الأرض من حمده؛ لأنه ظهر بخلاص أمته.

ومن ذلك في التوراة أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك، فقال لها: يا هاجر أين تريدين؟ ومن أين أقبلت؟ فقالت: أهرب من سيدتي سارة، فقال لها: ارجعي إلى سارة، وستحبلين، وتلدين ولدا اسمه إسماعيل، وهو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد ﷺ أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع، وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد ﷺ وظهور دينه، وعلو كلمته، ولم يكن ذلك لإسماعيل، ولا لغيره قبل محمد ﷺ.

ومن ذلك أيضا في التوراة أن الرب يقيم لهم نبيًا من إخوتهم، وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه، ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق، وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد ﷺ كبني قريظة، وبني قينقاع، وغيرهم.

ومن ذلك في التوراة: إن الله أوحى إلى إبراهيم قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه، وسيلد اثني عشر عظيمًا، وأجعله لأمة عظيمة.

ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: أنا ذاهب عنكم، وسيأتيكم البارقليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يُقال له، وبهذا، وصف الله سبحانه نبينا محمد ﷺ في قوله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3 - 4] وتفسير البارقليط أنه مشتق من الحمد، واسم نبينا محمد ﷺ محمد، وأحمد، وقيل: معنى البارقليط الشافع الـمُشفَّع.

ومن ذلك في التوراة: أن مولده بمكة، ومسكنه بطيبة، وأمته الحمَّادون، وبيان ذلك أن أمته يقرءون: الحمد لله في صلاتهم مرارًا كثيرة في كل يوم، وليلة.

وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير أن كعبًا أخبره بأمره، وكيف كان ذلك، وقال: كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله ﷺ وكان من عظمائهم، وخيارهم، قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدَّخر عني شيئًا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني، فقال يا بني: قد علمت أني لم أكن أدَّخر عنك شيئًا مما كنت أعلم، إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يُبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذَّابين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابك، وجعلتهما في هذه الكوّة التي ترى، وطيَّنت عليهما، فلا تتعرض لهما، ولا تنظرهما زمانك هذا، وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتبعه، وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بهذا خيرًا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلى من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين.

فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة، ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله ﷺ خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو، ويغفر، ويصفح، أمته الحمَّادون الذين يحمدون الله على كل شرف، وعلى كل حال، وتذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء، ويأتزرون على أوساطهم، وأناجيلهم في صدورهم، ويأكلون قربانهم في بطونهم، ويؤجرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم، والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون الـمُقرَّبون، والشافعون الـمُشفَّع لهم، فلما قرأت هذا قلت في نفسي:

والله ما علَّمني شيئًا خيرًا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بُعِثَ النبي ﷺ وبيني، وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه، وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة، ويستخفي مرة، فقلت: هو هذا، وتخوفت ما كان والدي حذرني، وخوفني من ذكر الكذَّابين، وجعلت أحب أن أتبين، وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة، فقلت في نفسي: إنّي لأرجو أن يكون إياه، وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يُقدِّر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله ﷺ فقلت: في نفسي: لعله لم يكن الذي كنت أظن.

ثم بلغني أن خليفة قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلاً حتى جاءتنا جنوده، فقلت في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو، وأنتظر، وأنظر كيف سيرتهم، وأعمالهم، وإلى ما تكون عاقبتهم، فلم أزل أدفع ذلك، وأؤخره لأتبين، وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين، وصيامهم، وبرهم، ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذي كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام."

هنا قوله: حتى قدم علينا عمر بن الخطاب لا يقصد أنه قَدِمَ اليمن، لأن عمر بن الخطاب ما أتى اليمن في خلافته، وإنما جاء إلى الشام لاستلام مفاتيح بيت المقدس، فكان كعب الأحبار حينها في الشام، كان قد ذهب إلى الشام فجاء عمر فكان ما كان.هذا في هذه الرواية من طريق شهر بن حوشب كما رأيتم، وجاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قد أسلم في زمن أبي بكر أعني كعب الأحبار.

"فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام، فو الله إني ذات ليلة فوق سطح لي إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [النساء: 47] فلما سمعت هذه الآية خشيت، والله ألا أصبح حتى يُحوَّل، وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح، فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت.

وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام: يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب، والبعيد عنده في الحق سواء، وأتباعه رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون، فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحقٌ ما تقول؟ قال: أي والذي أنزل التوراة على موسى، والذي يسمع ما تقول إنه لحق، فقال عمر: الحمد لله الذي أعزنا، وشرفنا، وأكرمنا، ورحمنا بمحمد ﷺ وبرحمته التي وسعت كل شيء.

ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجُذامي إلى رسول الله ﷺ وكان من ملوك العرب بالشام، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد رسول الله من فروة بن عمر، إني مُقرِّ بالإسلام مصدق، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبد الله، ورسوله، وأنه الذي بشَّر به عيسى بن مريم فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه، وسجنه فقال: والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف أنه النبي الذي بشَّر به عيسى بن مريم، ولكنك حرصت على ملكك، وأحببت بقاءه، فقال قيصر: صدق، والإنجيل[4].

ويشهد لهذا ما خرَّجه البخاري، ومسلم من كتاب رسول الله ﷺ إلى هرقل، وسؤال هرقل عن أحواله، وأخلاقه ﷺ فلما أُخبِرَ بها علم أنه رسول الله، وقال: إنه يملك موضع قدميَّ، ولو خلصت إليه لغسلت قدميه[5].

ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه، وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام، فقال: فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصف لك مني، فأدخلني كنيسةً فإذا ترابٌ عظيمٌ، وقال: وجاءني بزنبيلٍ، ومجرفةٍ فقال لي انقل ما ها هنا.

فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان من الهاجرة، وافاني، وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أإنك على ما أرى ما نقلت شيئًا، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي، فقلت: واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته، فنشرت دماغه ثم، واريته في التراب، وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي، وليلتي من الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه، فخرج إليّ رجل منه، فقال لي: يا عبد الله ما يُقعِدك هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي، فقال لي: ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام، واسترح.

فدخلت فأتاني بطعام، وشراب، وأطعمني، ثم صعَّد فيَّ النظر، وصوّبه، فقال: قد علم، والله أهل الكتاب، أو الكتب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب، أو بالكتب مني، وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت: يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: عمر بن الخطاب، فقال: أنت، والله صاحبنا، فاكتب لي على ديري هذا، وما فيه، فقلت: يا هذا إنك قد صنعت إليَّ صنيعة فلا تُكدِّرها، فقال: إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذلك، وإلا لم يضرك شيء، فكتب له على ديره، وما فيه، فأتاني بثياب، ودراهم، فدفعها إليَّ، ثم أوكف أتانًا فقال لي:

أتراها، فقلت: نعم، قال: سِرْ عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها، وعلفوها، وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك، فاضرب، وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إليَّ، قال: فركبتها فكان كما قال، حتى لحقت بأصحابي، وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة، وانطلقت معهم."

هنا في قوله: ثم أوكف أتانًا يعني، وضع عليها الإكاف، بمنزلة السرج من الفرس، هذا الذي يوضع على الحمار، يقال له: البردعة، والإكاف، أوكف أتانًا.

"فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب، وهو صاحب دير العُرْسِ، أو العِرْسِ فلما رآه عرفه، فقال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه، فحدَّثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: إن أضفتم المسلمين، ومرضتموهم، وأرشدتموهم فعلنا ذلك، قال: نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر - ، ورحمه -[6].

وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء، والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء[7].

ومن ذلك أن عمرو بن العاصي قَدِمَ المدينة بعد، وفاة رسول الله ﷺ وكان رسول الله ﷺ قد أرسله إلى عُمَان واليًا عليها، فجاءه يوما يهودي من يهود عُمَان فقال له: أنشدك بالله، من أرسلك إلينا؟ فقال له: رسول الله ﷺ فقال اليهودي: والله إنك لتعلم أنه رسول الله، قال عمرو: نعم، فقال اليهودي: لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم.

فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه، وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهوديّ أن النبيّ ﷺ مات فيه. ثم خرج فأُخبر بموت النبي ﷺ وهو في الطريق، ووجده قد مات في ذلك اليوم - صلَّى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه  وبارك، وشرَّف، وكرَّم -[8].

ومن ذلك أن وفد غسَّان قدموا على رسول الله ﷺ فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: رهط من غسَّان قدمنا على محمد لنسمع كلامه، فقال لهم: انزلوا حيث تنزل الوفود، ثم ائتوا رسول الله ﷺ فكلموه، فقالوا: وهل نقدر على كلامه كما أردنا؟ فتبسم أبو بكر وقال: إنه ليطوف بالأسواق، ويمشي وحده، ولا شرطة معه، ويرعب من يراه منه، فقالوا لأبي بكر: من أنت أيها الرجل؟ قال: فقال: أنا أبو بكر بن أبي قحافة، فقالوا: أنت تقوم بهذا الأمر بعده، فقال أبو بكر: الأمر إلى الله، فقال لهم: كيف تُخدعون عن الإسلام، وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء، ثم لقوا رسول الله ﷺ فأسلموا.

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157] يحتمل: أن يكون هذا من وصف النبي ﷺ في التوراة، فتكون الجملة في موضع الحال، من ضمير المفعول في يَجِدُونَهُ [الأعراف: 157] أو تفسير لما كتب من ذكره، أو يكون استئناف وصفٍ من الله - تعالى - غير مذكور في التوراة، والإنجيل."

هذه الاحتمالات الثلاثة واردة لهذا الموضع - والله تعالى أعلم - بأن يكون ذلك من جملة ما يجدونه في التوراة، والإنجيل في وصف النبي ﷺ أي: يجدونه آمرًا لهم بالمعروف، ناهيًا لهم عن المنكر، أو يكون من قبيل التفسير لما كُتِب من ذكره، فهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، والإنجيل، ففسر ذلك بأنه يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، أي: يكون استئنافًا من الله - تبارك، وتعالى - بمعنى أنه انتهى الكلام عن ذكر وصفه في التوراة، والإنجيل، ثم بعد ذلك ذكر الله من صفة نبيه ﷺ أنه يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر؛ لأنه ذكر قبل ذلك الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الأعراف: 157] فهو يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر - والله أعلم -.

"قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] مذهب مالك[9]: أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام، ومذهب الشافعي[10]: أن الطيبات هي المستلذات، إلا ما حرمه الشرع منها، كالخمر، والخنزير، وأن الخبائث هي المستقذرات، كالخنافس، والعقارب، وغيرها."

قال: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ الطيبات هي الحلال، وبعضهم يقول: أو ما استطابته العرب مما لم يحرم؛ لأن الأصل في الأطعمة الحِل، وهذا باعتبار أن أصل الطيب ما تستلذه، وتستطيبه الحواس، والنفس، وأن الخبائث هي الحرام، أو ما لا يوافق النفس من المحذورات، فالخبيث هو ما يُكره رداءةً، وخساسةً، فأصله الرديء الجاري مجرى خبث الحديد.

وهذه المسألة على كل حال ذكر المؤلف - رحمه الله - فيها مذهب الإمام مالك: وهو أن الطبيات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام، يعني، وما عدا ذلك مما لم يُحرِّمه الشارع من الأطعمة فهو حلال، ولذلك كان مذهب المالكية من أوسع المذاهب، في باب الأطعمة، وتجد تفاصيل هذا في الكتب المدونة في الفقه المالكي، حيث يذكرون تفاصيل كثيرة مثلاً في أكل الحيَّات، والعقارب، والخنافس، وغير ذلك مما أُنزه أسماعكم عن ذكره، يذكر الفقهاء من المالكية - رحمهم الله - في أحكام هذا مما لم يرد فيه نص، فمذهبهم في هذا واسع.

ثم ذكر مذهب الشافعي: هو أن المراد بالطيبات هي المستلذات، إلا ما حرمه الشرع منها، كالخمر، والخنزير، وأن الخبائث هي المستقذرات، كالخنافس، والعقارب، وغيرها، يعني على عكس مذهب المالكية، فتكون كل هذه الحشرات، والمستقذرات، ونحو ذلك، محرمة؛ لكن عند ما يقال بأن هذا مستقذر فتختلف أنظار الناس، وأذواقهم في ذلك، تعرفون أمم شرقية يأكلون كل شيء، فهم يأكلون الحشرات، ويتلذذون في أكلها، وربما شاركهم في أكلها بعض من يرد بلادهم من غير المسلمين، فهذه بأي ذوق يقال بأنها مستقذرة؟ يقولون: أعدل الأذواق، وهو ذوق العرب، فما استقذره العرب فهو داخلٌ في الخبائث، وإلا فهو من الطيبات، ولا عبرة بما شذَّ عن ذوق العرب.

وذكرتُ في بعض المناسبات قول الأصمعي - رحمه الله - لما سأل أعرابيًا: ما تأكلون في الصحراء؟

قال: نأكل ما هبَّ، ودبَّ، ودرج إلا أم حُبين، قال: فلتهنأ أم حُبين العافية[11] يعني أن سلمت منكم، فهم يأكلون كل شيء، إلا أم حُبين، وهي دويبة مثل الوزغ هذه التي يتقونها، وما عدا ذلك فهم يأكلونه، فيدخل في ذلك جميع أنواع الحشرات، وبعض الناس يقول: كل ما كان أصغر منك فكل، وهذا لا عبرة به.

فالأقرب أن الطيبات هي الحلال، والحلال بابه واسع، فالحلال ما أحلَّه الله مما لم يكن محرمًا، ولا ضارًا، ولا مستقذرًا، فهذا هو الحلال - والله أعلم -.

وأما الخبائث فهو ما حرمه الشارع، والمستقذرات، وما ثبت أن ضرره أغلب من نفعه، فهذا لا يجوز أكله، وهو من جملة الخبائث.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - حمل ذلك على أنه يُحل لهم ما كانوا حرَّموه على أنفسهم من البحائر، والسوائب، والوصائل، والحام[12] ونحو ذلك، فهم قد كانوا حرَّموا أشياء، فقال: يُحل لهم الطيبات، يعني التي حرَّموها على أنفسهم، ويحرِّم عليهم الخبائث، باعتبار أن الطيبات أصلاً حلال، فكيف يحلَّها لهم، وهي حلال؟ هذا باعتبار أنهم حرَّموا ذلك على أنفسهم، أي أهل الجاهلية؛ لأن السورة مكية، لكن الآية تتحدث عن أهل الكتاب: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فالله - تبارك، وتعالى - حرَّم على اليهود طيبات أُحلَّت لهم عقوبةً لهم، فيكون هذا التحليل لتلك الطيبات التي حُرِّمت عليهم.

ولا يبعد أن يكون المعنى أعم من هذا، فهو يحل لهم الطيبات التي حرَّموها على أنفسهم، وكذلك سائر الطيبات؛ لأن التحليل إنما يرجع إلى الشرع، وإذا قلنا: إنه يرجع ذلك إلى الشرع فبأي اعتبار قلنا بأن الخبائث يدخل فيها المستقذرات؟ باعتبار أنها مستخبثة؛ لأن ذلك يُؤخذ من وصف وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ.

والله تعالى يقول: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة: 4] وهذا في المائدة، وهي من أواخر ما نزل في المدينة الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة: 5] فاستعمل لفظ التحليل (أُحِلَّ) وهكذا يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ فالحلال هو أحد أقسام الحكم التكليفي الخمسة، فهو حكم شرعي قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا الآية [الأنعام: 145] فدلَّ على أن الأصل في المطعومات الحِل، وهذا غير القاعدة المعروفة أن الأصل في الذبائح المنع، فذاك في الذبائح، وهنا في عموم المطعومات، والله - تبارك، وتعالى - يقول: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] الآية، فهذا من الطيبات التي حرمها الله عليهم فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء: 160].

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الخبائث نوعان:

وذكر النوع الأول: وهو ما كان خبثه لعينه، لمعنًى قام به، مثل الدم، والميتة، ولحم الخنزير، وما خبثه لكسبه، كالمأخوذ ظلمًا، أو بعقدٍ محرَّم، كالربا، والميسر، ونحو ذلك[13].

وهذا في عموم المحرمات، يعني المحرم لذاته، والمحرم لكسبه، فلذلك يقولون: المحرم لذاته لا يحل بأي طريقٍ كان، لا بالهبة، ولا بالبيع، ولا بالميراث، وأما المحرم لكسبه فهو محرم على من اكتسبه بطريقٍ محرم، لكن من وصل إليه بطريقٍ صحيح فليس بحرامٍ عليه؛ ولذلك كان اليهود يتعاملون بالربا، وكان النبي ﷺ يتعامل معهم بالبيع، والشراء، والقرض، ونحو ذلك.

"قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [الأعراف: 157] هي مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات، كقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة من الثوب."

قال: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الإصر: هو العهد الثقيل الذي أخذه الله عليهم من العمل بما في التوراة من الواجبات الثقيلة، والمحرمات الشديدة، التي كانت كالقيود على أعناقهم.

وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالغُل ما يوضع في العنق، وذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - نحو ما ذكرت، وأن الإصر هو الشيء الثقيل، والشدة، وأن هذا شأن ما وجب، وأن الغُل يمنع المغلول من الانطلاق[14] وهذا شأن المحذور، يعني شيخ الإسلام كأنه اعتبر بأن الإصر هو الشيء الثقيل، الشديد، وأن هذا يتصل بالواجبات، والمأمورات، وأن الأغلال هي التي تُقيِّد المغلول، ومن ثمَّ فهذا شأن المحذورات، فكان عليهم من الواجبات ما هو ثقيل، وأيضًا وُجِد من المحذورات ما هو شديد أيضًا؛ فقال: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فهذا كله يدل على أن المراد بأهل الكتاب، وليس بالمشركين، كما قال ابن كثير - رحمه الله - بأن ذلك يرجع إلى ما حرَّموه على أنفسهم من السائبة، والبحيرة، والحام، ونحو ذلك[15].

وأصل الإصر يدل على العهد، يقول: "هي مثل ما كلفوا في شرعهم من المشقات، كقتل الأنفس في التوبة" وهذا في عبادتهم للعجل، حيث قال: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة: 54] يعني فليقتل بعضكم بعضًا. 

"وقطع موضع النجاسة من الثوب" حيث كان لا يُغسل، وإنما يُقطع، فهذا من التكاليف الشاقة التي كانت عليهم.

"وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم، كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت، وشبه ذلك."

الأغلال هنا أشار إلى المنع، والآصار ذكر أنها التكاليف الشاقة، وهذا مثل كلام شيخ الإسلام - رحمه الله -.

فالغُل مختص - كما سبق - بما يُقيَّد به، بحيث تُجعل الأعضاء مثلاً في وسطه، أو في الرقبة، أو في اليدين.

"قوله تعالى: وَعَزَّرُوهُ [الأعراف: 157] أي: منعوه بالنصر، حتى لا يقوى عليه عدو."

وَعَزَّرُوهُ أي: منعوه بالنصر، والتعزير يأتي بمعنى النصرة مع التعظيم، وقد ذكر بعض أهل العلم أن أصل العزر: المنع، أي: منعوه من عدوه.

وأبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - فسَّره بالتوقير، والتعظيم، والحماية من الناس[16] فجمع بين المعنين، وهذا أحسن؛ لأن التعزير يتضمن هذا، وهذا، ففيه معنى التعظيم، وفيه معنى المنع، فهم عظَّموه، وحموه، ومن العلماء من نظر منهم إلى معنى المنع فسَّره بما يرجع إلى ذلك، يعنى بعضهم مثلاً يقول: أيَّدوه، وقووه بما تضمنته كتبهم من البشارة بصفاته، وصفات شريعته، كما يقول صاحب التحرير، والتنوير[17].

فهو يُفرِّق بين التعزير، والنصر، باعتبار أن النصر هو الإعانة في الحرب بالسلاح، قال: "من أجل هذا عُطف عليه وَنَصَرُوهُ [الأعراف: 157]" فالعطف يقتضي المغايرة، فالنصر غير التعزير.

ولكن أصل العزر فيه معنى المنع؛ ولذلك في العقوبات غير الحدود التعزير؛ ولماذا قيل له ذلك؟ باعتبار أنه يمنع من وقع عليه ذلك، أو يمنع غيره أيضًا، فيردعهم عن مواقعة ما لا يليق، فهذا معنى المنع وَعَزَّرُوهُ يعني منعوه، بمعنى حموه، وعظَّموه، والقرآن يعبَّر به بالألفاظ القليلة، الدالة على المعاني الكثيرة، فكل ذلك - والله أعلم - داخلٌ فيه.

وهنا فسَّره بالمنع، والتعزير يأتي بمعنى النصرة أيضًا مع التعظيم، كما سبق، لكن لما ذكر النصر بعده كان التعزير - والله أعلم - بمعنى الحماية، والتعظيم، أنهم منعوه من عدوه، ومنعه من عدوه يقتضي النصر، فيكون هذا في المنع، وذاك - أعني النصر - في التأييد، ونحو هذا.

"قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: 157] هو القرآن، أو الشرع كله، ومعنى مَعَهُ مع بعثه، ورسالته."

مع بعثه، ومع نبوته، والقرآن، وصفه الله بأنه نور، كما قال: وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا [الشورى: 52].

قال: "أو الشرع كله" باعتبار أن الشرع يرجع إلى القرآن، فلا منافاة، ومعنى مَعَهُ قال: "مع بعثه، ورسالته" قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [المائدة: 15] فالنور هنا عطف عليه الكتاب، فما هذا النور؟ هل هو الشرع، أو أن هذا من باب عطف الأوصاف؟

فهذا كله يرجع إلى القرآن، فذكر أوصافه، كقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى: 1 - 2] بدون عطف، ثم جاء بالعطف وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى: 3 - 4] فالأوصاف قد تتوارد بذكر العطف، وبدونه، كما قال الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم[18]

وابن الهمام هو الملك، وهو القرم ذكرها بدون عطف، فكل هذا معروف يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء: 174] هو هذا القرآن وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن: 8] وهو القرآن.

  1.  تفسير الطبري (10/484).
  2.  انظر: تفسير الطبري (10/484).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في السوق، برقم (2125).
  4.  انظر: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ﷺ والثلاثة الخلفاء (2/27).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، والسير، باب دعاء النبي ﷺ الناس إلى الإسلام، والنبوة، وألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، برقم (2941).
  6.  الديارات للأصبهاني (ص: 18 - 19، بترقيم الشاملة آليا).
  7.  البداية، والنهاية ط هجر (9/663).
  8.  مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (7/31).
  9. شرح زروق على متن الرسالة (2/1000).
  10.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/393) والبحر المحيط في التفسير (4/179).
  11. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/536).
  12.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/488).
  13. مجموع الفتاوى (20/334).
  14.  اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/324).
  15.  تفسير ابن كثير (3/488).
  16.  تفسير الطبري (13/168).
  17.  التحرير، والتنوير (9/138).
  18. البيت بلا نسبة في حياة الحيوان الكبرى (2/339) وخزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب للبغدادي (1/451).