الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
قُلْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىِّ ٱلْأُمِّىِّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة الأعراف:158]، يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد ﷺ: قل يا محمد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي، إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، أي: جميعكم وهذا من شرفه وعظمته  ﷺ أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال الله تعالى: قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِه وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19]، وقال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17]، وقال تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ [سورة آل عمران:20]، والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه ﷺ رسول الله إلى الناس كلهم، روى البخاري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية عن أبي الدرداء قال: "كانت بين أبي بكر وعمر - ا - محاورة، فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضباً، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله ﷺ فقال أبو الدرداء: ونحن عنده - فقال رسول الله ﷺ: أما صاحبكم هذا فقد غامر، أي غاضب وحاقد، قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي ﷺ، وقص على رسول الله ﷺ الخبر، قال أبو الدرداء: فغضب رسول الله ﷺ وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله ﷺ: هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت[1]. انفرد به البخاري.
قوله ﷺ: أما صاحبكم هذا فقد غامر يعني أبا بكر لما أقبل ورأى هيئته، وقد عرف ذلك ﷺ بالفراسة، ومعنى قوله: "غامر" أي غاضب، ويحتمل أن يكون المعنى أنه بذل جهده وفعل ما عليه في استدراك التقصير والاعتذار.
ومن محبة أبي بكر لعمر أنه اعتذر له، وخاف أن يسبق من النبي ﷺ إلى عمر شيء بسببه فأراد أن يهدئ من غضب النبي ﷺ فقال: أنا أظلم، أي: أنا المخطئ.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - مرفوعاً: أن رسول الله ﷺ قال: أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخراً، بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً[2]، إسناده جيد ولم يخرجوه.
وقوله: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [سورة الأعراف:158] صفة الله تعالى في قوله: رَسُولُ اللّهِ أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة وله الحكم.
وقوله: فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ [سورة الأعراف:158] أخبرهم أنه رسول الله إليهم ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، النَّبِيِّ الأُمِّيِّ أي: الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت بذلك في كتبهم، ولهذا قال: النَّبِيِّ الأُمِّيِّ.
وَاتَّبِعُوهُ، أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، لعلكم تهتدون: أي إلى الصراط المستقيم.

قوله - تبارك وتعالى - : فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ [سورة الأعراف:158]، اختلف أهل العلم في معنى الأمي، على أقوال:
الأول: الأمي منسوب إلى هذه الأمة الأمية التي لا تعرف الكتابة.
الثاني: نسبة إلى الأم، أي: أن الله تعالى أخرج الإنسان من بطن أمه وهو لا يعرف شيئاً، قال : وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل:78].
الثالث: الأمي نسبة إلى أم القرى، وهذا بعيد.
وقد امتن الله تعالى ببعثة النبي ﷺ بهذه الصفة؛ تحقيقاً للمعجزة، وحتى لا يقال: إنه ﷺ تعلم على يد أحد الناس، وتصديقاً للأخبار التي وردت في الكتب السماوية.
وقوله: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ [سورة الأعراف:158]، أي: يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه.

اختلف أهل العلم في تفسير الكلمات على أقول:
الأول: الكلمات هي الكتب المنزلة.
الثاني: المقصود بالكلمات هو عيسى لأنه كان بكلمة "كن" قال : وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171].
الثالث: من أهل العلم من فسر الكلمات بقوله - تبارك وتعالى - : قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [سورة الكهف:109]، وبقوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة لقمان:27] فهذا يشمل الكلمات الكونية والكلمات الشرعية.
والكلمات جمع مضاف إلى معرفة، فيفيد العموم، فمن قال: إن الكلمات هي الكلمات الشرعية والكونية لم يكن  بعيداً عن الصواب - والله أعلم -.
وقول النبي ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[3]، هي الكلمات الكونية، ولهذا ورد في بعض الروايات، أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر[4]، فالتي لا يجاوزها بر ولا فاجر هي الكلمات الكونية، وهي المعبَّر عنها في مراتب القدر بالخلق.                                                                           
  1. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ ولو كنت متخذا خليلاً (3/1339)، برقم: (3461).
  2. رواه أحمد في مسنده (1/301)، برقم: (2742)، ورواه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا (1/168)، برقم: (427)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة  (1/370)، برقم: (521) من حديث جابر بن عبد الله ا قال: قال رسول الله ﷺ: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة
  3. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره (4/2080)، برقم: (2708).
  4. رواه أحمد في مسنده (24 / 202)، برقم: (15461).

مرات الإستماع: 0

"إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] تفسيره: قوله ﷺ: وكان كل نبيّ يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس كافة[1] فإعراب جَمِيعًا حال من الضمير في إِلَيْكُمْ."

إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا كما قال الله : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ [سبأ: 28] وكذلك قوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1].

وقوله هنا: "قال ﷺ: وكان كل نبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة[2] وهذا من حديث جابر - ا - في الصحيحين.

وقوله: أعطيت خمسًا لم يُعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي[3] فهذا من خصائصه ﷺ أن دعوته عامة للثقلين، وفي حديث أبي هريرة أيضًا عن النبي ﷺ: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار[4] فهذا يدل أيضًا على هذا المعنى، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة.

يقول: "جَمِيعًا حال من الضمير في إِلَيْكُمْ" الذي هو الكاف.

"قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 158] نعت لله، أو منصوب على المدح، بإضمار فعل، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر."

اسم الجلالة في قوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا من الناحية لإعرابية مجرور، والَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نعت له، في محل جر "أو منصوب على المدح بإضمار فعل" مثل: أعني، والتقدير: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا أعني الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.

"أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر" يعني مبتدأ مقدَّر إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا هو الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ونحو ذلك - والله أعلم -.

"قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الأعراف: 158] هي الكتب التي أنزلها الله عليه، وعلى غيره من الأنبياء."

والشيخ أمين الشنقيطي - رحمه الله - عمم ذلك، وقال: بأن ذلك لا يختص بالكتب[5] وإنما كما قال الله : قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف: 109] وقوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان: 27] وقد ذكرت في بعض المناسبات بأن الكلمات تارةً يُراد بها الكلمات الكونية، التي يحصل بها الخلق، والإيجاد، والتدبير، وأمر الخليقة، ونحو ذلك، والنوع الثاني، وهي الكلمات الشرعية، آيات القرآن، والكتب المنزلة، فهذه كلماتٌ شرعية، فهنا: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ كلمات جمع مضاف إلى المعرفة، وهو الضمير، فهو يفيد العموم، ومن هنا حمله الشيخ أمين الشنقيطي - رحمه الله - على أعم معانيه، باعتبار أن الصيغة هنا صيغة عموم، فالكلمات تشمل الكونية، والكلمات الشرعية.

وذكرت في بعض المناسبات أن الكلمات الكونية أليق بمثل ما جاء في الحديث: أعوذ بكلمات الله التامات[6] يصح أن يكون المراد الشرعية؛ لأنه استعاذ بها، فالاستعاذة تكون بالصفة، وتكون بالله تقول: أعوذ بالله، أعوذ بعزة الله، فهذا لا إشكال فيه؛ لأن الصفات غير مخلوقة، لكنه لا تُدعى الصفة، فلا تقول: يا عزة الله، يا رحمة الله، ونحو ذلك، وإنما يُستعاذ بها، فتقول: أعوذ بوجه الله، أعوذ: بعزته، أعوذ بقدرته، أعوذ بعزة الله، وقدرته، من شر ما أجد، وأحاذر، ونحو ذلك، هذا لا إشكال فيه.

ويحتمل أن يكون المراد الكلمات الكونية، وهو أليق، لماذا؟ لأنه يريد الحفظ، والمنع، فهذا أعلق بالكلمات الكونية، من حيث المراد - والله تعالى أعلم -.

وهكذا في قوله تعالى: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي [الكهف: 109] ولا يبعد هنا أن يراد بها: الكلمات الكونية، والكلمات الشرعية؛ لأنه يفيد العموم.

وبعضهم فسَّر يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الأعراف: 158] أي: بآياته، وهكذا قول من قال بأنها القرآن، فهو بنفس المعنى، وبعضه فسَّره بعيسى - عليه الصلاة، والسلام - باعتبار أنه كلمة، فإذا حملناه على أعم معانيه، فيدخل فيه الكلمات الكونية، وعيسى قيل عنه: أنه كلمة باعتبار أنه وُجِد بها - والله تعالى أعلم -.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (335) ومسلم في أول كتاب المساجد، ومواضع الصلاة برقم: (521).
  2.  سبق تخريجه.
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجداً، وطهوراً برقم: (438) ومسلم في أوائل المساجد، ومواضع الصلاة برقم: (521).
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته برقم: (153).
  5.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/221).
  6.  أخرجه مسلم في كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وغيره برقم: (2708).