السبت 17 / ذو الحجة / 1446 - 14 / يونيو 2025
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأعراف:167].
تأذن: تفعَّل من الأذان، أي: أعلم، قاله مجاهد وقال غيره: أمر.

وَإِذْ تَأَذَّنَ قال: أعلم، يعني آذن فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء [سورة الأنبياء:109]، أي: أعلمتكم، الإيذان هو الإعلام، والأذان هو الإعلام بالصلاة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة الأعراف:167] قال: وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ، كما تقول: علم الله، شهد الله، تقول: شهد الله أني ما قلت كذا، علم الله أني ما ذهبت إليه، فهو في قوة القسم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ.
وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا تُلُقِّيَت باللام في قوله:لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أي: على اليهود، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [سورة الأعراف:167]، أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم.

قوله: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ: يعني يذيقهم سُوءَ الْعَذَابِ.
ويقال: إن موسى ضرب عليهم الخراج سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم، وأخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام ومحمد ﷺ فكانوا تحت قهره وذمته، يؤدون الخراج والجزية.

تاريخ اليهود مليء بهذا، ولذلكم لا تكاد تجد بقعة في العالم إلا وفيها حفنة من اليهود، قطّعهم في الأرض أمماً كما أخبر، وحصل لهم من العذاب والقتل الشيء الكثير، حتى إنه كان ينادى في ممالك الروم في أوقات مختلفة بقتل اليهود، ولربما قام عليهم بعض الأمراء من الرومان، في بعض النواحي بالشام، ونادوا على كل من في البلد من اليهود لمَا كانوا يلقون منهم من الدسائس والفساد والشر، وكانوا أقذر الناس في ممالكهم وأسوأ الناس طوية وخلقاً، وإفساداً في الأرض، كان أولئك لا يطيقون ما يرونه منهم، فكانوا يأمرون بقتل كل اليهود، والله المستعان.
سبب قِلة اليهود:
السبب في قِلتهم ليس القتل لهم؛ ولكن هم ديانة ليسوا كالنصارى، النصارى ينشرون دينهم، فنشروه في جميع البلدان، وقد روي أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- قال: إنما بعثت لهداية خراف بني إسرائيل الضالة، وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة آل عمران:49]، أما اليهود فهم منطوون على أنفسهم، وحتى من يدعي اليهودية منهم، لا يعترفون به، لأنهم يشترطون أن تكون أم هذا الإنسان يهودية؛ ولذلك هم لا يدْعون إلى دينهم، هم يرون أن هذا شرف حُبي به الإسرائيليون، ولذلك لا يخاطبون بدينهم سائر الناس؛ فالذين يأتون إلى فلسطين شُذّاذ الآفاق وعندهم مشكلات، فمنهم من لا يُعترف به بأنه يهودي إلى الآن، لأنه لم يثبت أن أمه يهودية، أبوه يهودي لكن أمه ليست يهودية، جاءوا من بيئات شتى ليكونوا دولة، هذا جاء من أمريكا وهذا جاء من روسيا، وهذا جاء من أثيوبيا وهذا جاء من اليمن، وهذا جاء من الهند، ومن كل مكان، ولذلك تجد يهود العرب يعملون في النظافة، والأعمال المهنية الوضيعة، ويعاملونهم بشيء من الازدراء والاحتقار، والأوروبي تجد أن منزلته والوظائف التي يتقلدها تختلف عن الآخرين، هذا هو المجتمع عندهم هناك، يُرون من بعيد أنهم دولة متقدمة وحضارية، وهم بينهم ما بينهم من الشر وأسباب التفكك والتشرذم، إضافة إلى التشرذم الذي داخل اليهود أصلاً، فالسبب في قلتهم أنهم أصحاب ديانة مغلقة.
قال العوفي عن ابن عباس - ا - في تفسير هذه الآية، قال: هي المسكنة وأخذ الجزية منهم.
وروى عبد الرزاق وسعيد بن المسيب قال: يستحب أن يبعث الأنباط في الجزية، قلت: ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصاراً للدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم ، وذلك آخر الزمان.
وقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ أي: لمن عصاه وخالف شرعه، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ أي: لمن تاب إليه وأناب، وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة، لئلا يحصل اليأس، فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيراً، لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ [الأعراف: 166] أي لما تكبروا عما نهوا عنه."

العتو: النبو عن الطاعة، أصله يدل على استكبار، يعني تمردوا، وتجاوزوا ما نهوا عنه، في صيد السمك يوم السبت، كما قال ابن جرير، والنحاس، والقرطبي فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تمردوا، تكبروا، واجترأوا على الصيد في ذلك اليوم.

"قوله تعالى: قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف: 166]."

ذُكِرَ في البقرة، يعني ذليلين، حقيرين، مهانين.

"ذُكِرَ في البقرة، والمعنى أنهم عُذِّبوا أولاً بعذاب شديد، فعتوا بذلك فمسخوا قردة، وقيل: فلما عتوا تكرار لقوله فلما نسوا، والعذاب البيس هو المسخ.

قوله تعالى: تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف: 167] عزم، وهو من الإيذان بمعنى الإعلام."

تأذَّنَ يعني قال: عَزَمَ، يقول مجاهد: يعني أعلم وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ يعني أعلم، يقول ابن جرير: آذن، وأعلم، فالإيذان بمعنى الإعلام، آذنتكم على سواء بمعنى أعلمتكم، آذنتك بالأمر، والتأذن من قولك: لأفعلن كذا تريد به إيجاب الفعل يعني سأفعله لا محالة، ومن هنا فسَّره من فسره بالعزم.

 آذنتك بكذا، من قولك: لأفعلن الشيء الفلاني يعني كأنك تريد بذلك إيجاب الفعل أنك ستفعل ذلك جزمًا.

وأصل هذه المادة بمعنى العلم، يعني المعنى: واذكر حين أعلم ربك اليهود، ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، فالإيذان بمعنى الإعلام، والأذان يقولون: هو الإعلام بالوقت، وقت الصلاة، وذكرت في بعض المناسبات أن هذا، وإن كان من معناه، ولكنه لا يلزم أن يكون إعلام بوقت الصلاة، فهو عبادة، ولذلك يجمع في الصلاتين في الجمع التأخير مثلاً، وقد لا يؤذن للصلاة في غير الجمع إلا مثل حال الإبراد مثلاً قد يؤذن لها في آخر الوقت، الصلاة أمامك، لما استأذن النبي ﷺ بالآذان لصلاة الظهر فما أذَّن إلا بعد دخول الوقت بكثير، يعني قبل العصر بمدة يسيرة، فلا يلزم أن يكون بكل حال هو إعلام بدخول الوقت، وهو عبادة بين يدي الصلاة، ففيه معنى الإعلام لكن ذلك غير لازم في كل الأحوال، وإن كان الفقهاء يذكرون هذا الكلام على الأذان، فقد يكون إعلام من قبيل الإعلام بالصلاة من غير الإعلام بالوقت، ولذلك لو فاتت الصلاة، وخرج الوقت، بأنهم ناموا عنها ما قاموا إلا بعد طلوع الشمس، يؤذنون، ولا ما يؤذنون؟ يؤذن، كذلك الأذان أيضًا في أحوال طرد الشيطان مثلاً هذا ليس بإعلام بوقت الصلاة، وكذلك من كان في فلاة ذكرها النبي ﷺ مثل هذا، وهو يؤذَّن، وهو واحد، ولا يسمعه، يعني لا يرجو أن يجاب، ولا يسمعه الناس، ومع ذلك يؤذَّن، فهذه عبادة بين يدي الصلاة، يعني لا يلزم أن يكون ذلك من قبيل الإعلام بدخول الوقت في كل حال - والله أعلم -. 

"لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 167] الآية، أي يسلط عليهم، ومن ذلك أخذ الجزية، وهوانهم في جميع البلاد."

أي نعم وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أي يُسلط عليهم، ومن ذلك أخذ الجزية كما قال الله : وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء: 4] الآية، أي كأنه أعلمهم مؤكدًا لهم بأنه يُرسل، ويُسلط عليهم في الدنيا إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وهذا مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسُدِّي، ومجاهد[1].

وهذا التسليط بعضهم يقول بما وقع من بختنصر، وبعضهم يقول: بغلبة العرب، أو أمة محمد ﷺ باعتبار أنهم الباقون إلى يوم القيامة إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف: 167] هكذا ذكر بعض أهل العلم كما ذكر ذلك القرطبي[2] والأحسن منه ما ذكره ابن عطية[3] أنها عامة في كل من حال اليهود معه هذه الحال، فلا يختص به العرب، وإنما وقع ذلك قبلهم لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ فهي عامة.

يقول ابن كثير - رحمه الله - يقال إن موسى - عليه الصلاة، والسلام - ضرب عليهم الخراج سبع سنين - لاحظ ابن كثير يستعرض ما وقع لهم قبل أمة محمد ﷺ وقيل ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين، والكشدانيين، والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى، وإذلالهم إياهم، وأخذهم منهم الجزية، والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمد ﷺ فكانوا تحت قهره، وذمته يؤدون الخراج، والجزية[4].

ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصارًا للدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى بن مريم - عليه الصلاة، والسلام - وذلك في آخر الزمان.

فبعضهم يفسر العذاب هذا يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ الجزية، والإذلال.

وعلى كل حال هذا، وإن قال به بعض السلف كابن عباس، وسعيد بن جبير، والسُدِّي، ومجاهد[5] إلا أن ذلك قد يقع بالقتل أيضًا كما وقع من بختنصر مثلاً، أو غيره، كان ينادى عليهم في ممالك النصارى حينا بعد حين، فيُقتَل من في القرية، أو البلدة، أو المدينة عن بكرة أبيهم لكثرة ما كان يقع منهم من الإفساد، فضج بهم النصارى من الروم، وغيرهم فكان هذا يقع حينا بعد حين.

وذكر الطاهر بن عاشور أن معنى البعث الإرسال[6] لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ وأن هذا يؤذن بأن ذلك في أوقات مختلفة، وليس مستمرًا في كل يوم، وفي كل حين، كأن ذلك أصبح مما يلزمهم، يعني بمعنى لا تغتر بحالهم الآن، هذا لا ينافي ما جاء في الآية، لكن هذا يتكرر مرةً بعد مرة، وتتوالى عليهم المصائب، وكان أعظم ذلك خراب بيت المقدس، هذا ذكره ابن عاشور.

وذكر الشنقيطي - رحمه الله - بأن تأذَّن، وأعلم بأنه سلط عليهم من يسومهم سوء العذاب[7] إلا أنه يرد الله لهم الكرة حتى يجتمعوا، ويكونوا أمة؛ لأنهم لو بقوا مقطعين في الأرض لن تقوم لهم قائمة كما قال الله : وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا [الأعراف: 168] فلم يكن العذاب، والهلاك، ولم يجد موقعًا يقع عليه، فصار من عادة الله أن يرد لهم الكرة، ويجعلهم أمة حتى يكونوا أمة يُسلط عليهم من يعذبهم يكون العذاب واقعًا موقعه.

يقصد الشنقيطي - رحمه الله - أن تجمعهم الآن في فلسطين أن ذلك تهيئة لوقوع كرة أخرى من العذاب؛ لأنهم لو كانوا مفرقين فقد يقع العذاب في ناحية، ويسلم الآخرون، لكن حينما يجتمعون يكون العذاب واقعًا موقعه.

وعلى كل حال حتى مع تفرقهم فيُسلط عليهم في كل مكان، وهذا موجود في التاريخ حتى مع تفرقهم في كل أرجاء المعمورة كان يُسلط عليهم في كل ناحية من يسومهم سوء العذاب، وقد وقع لهم في هذا العصر ما هو معلوم من القتل، وغير ذلك، يقال: أن هتلر لما قتَّل خلقا كثيرًا منهم ألقى بقية قليلة في ألمانيا، وأنه قال: إنما أبقيت هؤلاء ليعرف الناس لماذا قتلت أولئك.

يعني أبقى عينة ليعرف الناس أن هذه عينة أصلاً فاسدة، خامة فاسدة، فيعرف السبب في قتلهم، يقول: أبقيتهم عمدًا ليعرف الناس سبب القتل إذا شاهدوا هؤلاء الناس. 

  1. تفسير ابن كثير (3/497).
  2.  تفسير القرطبي (7/310).
  3.  تفسير ابن عطية (2/471).
  4.  تفسير ابن كثير (3/497).
  5.  المصدر السابق.
  6.  التحرير، والتنوير (9/155).
  7. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/290).