يذكر تعالى أنه فرّقهم في الأرض أمماً، أي: طوائف وفرقا، كما قال: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [سورة الإسراء:104].
مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ أي: فيهم الصالح وغير ذلك، كقول الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [سورة الجن:11].
وَبَلَوْنَاهُمْ: أي: اختبرناهم، بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ: أي: بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة والعافية والبلاء لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
ثم قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى الآية، يقول تعالى: فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح خلف آخر لا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة، وقال مجاهد في قوله تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال: لا يشرف لهم شيء في الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً، ويتمنون المغفرة، ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه.
وقال قتادة في قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى: أي والله لخلف سوء، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، أورثهم الله وعهد إليهم.
قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى ما يتاح لهم من الدنيا، ويتيسر ويتحصل لهم فإنهم يأخذونه غير مبالين بحله أو بحرمته، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى فالحلال عندهم ما حل باليد، ينظرون إلى المتاع القريب غير عابئين بحساب الله ، ومن أهل العلم من فسر الأدنى هنا بما يدل على معنى الدناءة، أي: يأخذون العرض الدنيء مستعيضين به عما عند الله ، فالذي يلوح لهم من الطمع في هذه الحياة الدنيا العاجلة المتقضية الفانية يأخذوه ويقولون: سيغفر لنا، ولا يكتفون بهذا بل إذا حصل لهم مرة أخرى لا يترددون في أخذه وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ، ليست مرة واحدة ثم يتوبون، ومن أهل العلم من يقول: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي: أنه إذا جاء بعدهم قوم ورثوهم فيعملون كعملهم، بل هم أنفسهم كلما لاح لهم طمع سارعوا إلى أخذه، وتهافتوا عليه، والخَلْف والخَلَف من أهل العلم من فرق بينهما، فقال: الخَلَف للوارث الطيب، والخَلْف للوارث السيئ، لحديث النبي ﷺ: ثم إنها تَخْلف من بعدهم خُلُوفٌ يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون..[1]، ومن أهل العلم من لم يفرق بينهما.
كلما هف لهم، يعني: خف لهم وأسرع إليهم، أي: كلما أتيح لهم، هف: خف.
وقال السدي: قوله: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ إلى قوله: وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ [سورة الأعراف:169]، قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم، وإنّ خيارهم اجتمعوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى، فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول: سيغفر لي، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات أو نُزع، وجُعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي، يقول: وإن يأتِ الآخرين عرضُ الدنيا يأخذوه.
قوله: وَإِنْ يَأْتِهِمْ يعني: الذي يأتي بعده يرتشي، ثم الذي يأتي بعدهم يفعل كفعلهم؛ لترحل التقوى من قلوبهم.
- رواه مسلم برقم (50)، من حديث عبدالله بن مسعود ، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.