الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْءَاصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [سورة الأعراف:205-206].
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [سورة ق:39] وقد كان هذا.


كلام ابن كثير - رحمه الله - هو المتبادر من السياق، في قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً، وهو ظاهر القرآن، وابن جرير - رحمه الله - حمل ربط هذه الآية بالتي قبلها، قال: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً عند سماع القرآن، في حال سماع القرآن، يقول: إذا قرئ القرآن فاذكر ربك في نفسك أي: عظّمه، فإذا كان في الآيات تخويف تخاف، وإذا كان في الآيات تعظيم لله فإنك تعظمه، وتذكره في نفسك وتتذلل، وتستجيب وتنقاد وتؤمن بهذا الذي سمعته من كلام الله  ، وهذا فيه بعد، فالآية في الذكر، وليس في حال سماع قراءة القرآن وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً اذكر ربك في نفسك يعني: سراً، وليس المعنى أن الإنسان يذكر في قلبه، وإنما يحرك الإنسان لسانه وشفتيه في الذكر، أما الذكر بإمرار ذلك بالقلب فقط، فإن هذا لا يكون من الذكر الذي يجزيه في القراءة، وقول الأذكار التي أمره الشارع بها، وليس كما يقال: يقرأ بعينه، أو يقول الأذكار في نفسه فقط دون أن يحرك لسانه بها، فلا يكون الذكر إلا بتواطؤ القلب واللسان.
وقوله: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً يعني بضراعة وتذلل وخضوع وإخبات مع الخوف من الله ، لا تدعُ أو تذكر في حال كأنك مُدل ومتفضل على الله ، وإنما ذكْر المتضرع الذليل الخائف.

وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وهذه الآية مكية.


يحتمل أن الصلاة كانت في أول النهار وفي آخره، ويحتمل أن يكون المقصود به الذكر عموماً.

وقال هاهنا: بِالْغُدُوِّ وهو أول النهار.


الغدو معناه ما بعد الفجر وطلوع الشمس، ثم أطلق بعد ذلك بتوسع على أول النهار، فبعض أهل العلم وقف عند المعنى اللغوي في الألفاظ فقال في التهجير يوم الجمعة: يبدأ من الزوال، فالساعة الأولى تبدأ من بعد الزوال، والساعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، قال بهذا جماعة من أهل العلم فأخذوا لفظ التهجير من الهاجرة، ثم صارت تطلق بمعنى أوسع من مجرد المعنى الأصلي الذي وضعت له ابتداء.

وَالآصَالِ جمع أصيل، كما أن الإيمان جمع يمين.


الآصال جمع أصيل وأُصل وهو ما بعد العصر، ويكون ذلك بصورة أوضح من بعد اصفرار الشمس.

وقفتُ فيها أُصَيْلاناً أسائلها عَيّتْ جواباً وما بالربع من أحد

بمعنى وقت الأصيل، بعد اصفرار الشمس، وهذا أفضل ما يكون في وقت الذكر، بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ فالغدو بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وَالآصَالِ يقول أذكار المساء، المساء يبدأ من بعد زوال الشمس، هذا كله يقال له مساء، فلو قال الإنسان الأذكار بعد الظهر - أذكار المساء - لأجزأه؛ لأن هذا مساء، لكن الذكر كما قال الله : وَالآصَالِ وهو بعد العصر، وآكد ما يكون ذلك وأحسن ما يقع فيه هو عند ذبول الشمس.

وأما قوله: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي: اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول لا جهراً، ولهذا قال: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ، وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداءً وجهراً بليغاً.


الذكر يكون بصوت خافت بحيث يسمع الإنسان نفسه، ولا يؤذي الآخرين، فقد صح عن النبي ﷺ :  الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة[1].

  1. رواه أبو داود برقم (1333)، كتاب التطوع، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، والنسائي برقم (2561) كتاب الزكاة، باب المسر بالصدقة، والترمذي برقم (2919) وقال: هذا حديث حسن غريب، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، كلهم من حديث عقبة بن عامر ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1204)، وفي صحيح الجامع برقم (3105).

مرات الإستماع: 0

"وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان."

يعني بالتدبر، والاعتبار، والتفكر هذا عمل القلب، وهذا اختاره أبو حيان[1] ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[2] أن الذكر بالقلب وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يعني بالتفكر، والاعتبار، والتدبر.

"أو الذكر باللسان سرا."

هذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[3] ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[4] وغير هؤلاء، بل نسبه ابن عطية[5] إلى الجمهور باعتبار أن الذكر لا يكون في النفس، وأنه لا يراعى إلا بحركة اللسان؛ لأنه لا يكون ذكرا معتبرًا في الشرع وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ إلا إذا كان معه حركة اللسان، وما يتبع ذلك من الشفتين، وإلا فلا يكون ذكرًا معتبرًا في الشرع يعني حتى القراءة إذا كان يقرأ بعينه فقط فإن ذلك لا يكون قراءة معتبرة شرعا، ولا تصح الصلاة بذلك.

وهكذا الأذكار المشروعة لا بد فيها من حركة اللسان، وجاء في الحديث: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ...[6] فيدل على أن المقصود ذكره في نفسه يعني سرًا بحركة اللسان، فقابله بالذكر بالملأ يقول شيخ الإسلام: فهذا نظير الآية، يعني الحديث نظير الآية إضافة إلى أن الذكر الذي يكون بالغدو، والآصال في الصلاة، وخارجها يكون باللسان مع القلب، يعني مع مواطأة القلب.

ثم ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن الذكر قد يكون بالقلب لكن لا يكون كاملاً[7] أكمل ما يكون من الذكر هو ما حصل به مواطأة القلب، واللسان هذا أكمل ما يكون، والذكر باللسان من غير مواطأة القلب كأن يكون يعني بحال من الشرود، أو نحو ذلك هذا ذكر، لكنه دون الأول.

"فعلى الأول يكون قوله: ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى، وعلى الثاني يكون بيانا، وتفسيرا للأول.

قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الأعراف: 205] أي: في الصباح، والعشي، والآصال جمع أصل، والأصل جمع أصيل، قيل: المراد صلاة الصبح، والعصر، وقيل: فرض الخمس، والأظهر الإطلاق."

الغدو ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، هذا معنى مشهور، ثم استعمل في الذهاب، والانطلاق في أي وقت، غدو يقال: غدا الأصل أنه ذهب في أول النهار.

وبعضهم: فسر الغدو بما هو أوسع من هذا، يعني أول النهار مطلقًا لا يقيد بطلوع الشمس، ويقال: غدا للذهاب، ولو كان في أي: وقت كان الغدو، وكذلك الرواح الأصل أنه لا يكون إلا بعد الزوال لكن صار يستعمل بإطلاق أوسع الذهاب، والانطلاق عموما، ولو كان قبله قبل الزوال، ولهذا في حديث الجمعة من راح[8] الرواح لا يكون إلا بعد الزوال لهذا جاء عن الإمام مالك - رحمه الله -[9] أنه اختار أن الساعة الأولى تبدأ بعد الزوال، وأن التبكير إلى الجمعة يكون من أول الزوال، وهذا خلاف قول الجمهور، لكنه أخذ ذلك من راح في الساعة الأولى فالرواح يكون بعد الزوال بهذا الاعتبار، لكن إذا عرفت هذا المعنى أن الرواح يتوسع فيه فيقال: للذهاب مطلقًا، ولو كان قبل الزوال، وكذلك الغدو انحل الإشكال. 

فهذا الذكر في الغدو، والآصال يعني في أول النهار، وفي آخر النهار، ويدخل فيه الأذكار المشروعة في أول النهار، وآخر النهار بلا شك، ويدخل فيه الصلوات الواقعة في هذه الأوقات صلاة الصبح، والعصر؛ لأن الأصيل يكون بعد العصر يعني بعد دخول وقت العصر، وقد يطلق على معنى أخص، يعني بعد اصفرار الشمس. 

  1.  البحر المحيط في التفسير (5/262 - 263).
  2.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/461).
  3.  انظر: مجموع الفتاوى (7/135 - 136).
  4.  التحرير، والتنوير (9/241).
  5.  تفسير ابن عطية = (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/494).
  6.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (8650) وقال محققوه: "حديث صحيح".
  7.  انظر: مجموع الفتاوى (10/566) ومختصر الفتاوى المصرية (ص: 43).
  8.  أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم (881) ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب، والسواك يوم الجمعة، برقم (850).
  9.  انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني، والأسانيد (22/22).