يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [سورة ق:39] وقد كان هذا.
كلام ابن كثير - رحمه الله - هو المتبادر من السياق، في قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً، وهو ظاهر القرآن، وابن جرير - رحمه الله - حمل ربط هذه الآية بالتي قبلها، قال: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً عند سماع القرآن، في حال سماع القرآن، يقول: إذا قرئ القرآن فاذكر ربك في نفسك أي: عظّمه، فإذا كان في الآيات تخويف تخاف، وإذا كان في الآيات تعظيم لله فإنك تعظمه، وتذكره في نفسك وتتذلل، وتستجيب وتنقاد وتؤمن بهذا الذي سمعته من كلام الله ، وهذا فيه بعد، فالآية في الذكر، وليس في حال سماع قراءة القرآن وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً اذكر ربك في نفسك يعني: سراً، وليس المعنى أن الإنسان يذكر في قلبه، وإنما يحرك الإنسان لسانه وشفتيه في الذكر، أما الذكر بإمرار ذلك بالقلب فقط، فإن هذا لا يكون من الذكر الذي يجزيه في القراءة، وقول الأذكار التي أمره الشارع بها، وليس كما يقال: يقرأ بعينه، أو يقول الأذكار في نفسه فقط دون أن يحرك لسانه بها، فلا يكون الذكر إلا بتواطؤ القلب واللسان.
وقوله: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً يعني بضراعة وتذلل وخضوع وإخبات مع الخوف من الله ، لا تدعُ أو تذكر في حال كأنك مُدل ومتفضل على الله ، وإنما ذكْر المتضرع الذليل الخائف.
يحتمل أن الصلاة كانت في أول النهار وفي آخره، ويحتمل أن يكون المقصود به الذكر عموماً.
الغدو معناه ما بعد الفجر وطلوع الشمس، ثم أطلق بعد ذلك بتوسع على أول النهار، فبعض أهل العلم وقف عند المعنى اللغوي في الألفاظ فقال في التهجير يوم الجمعة: يبدأ من الزوال، فالساعة الأولى تبدأ من بعد الزوال، والساعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، قال بهذا جماعة من أهل العلم فأخذوا لفظ التهجير من الهاجرة، ثم صارت تطلق بمعنى أوسع من مجرد المعنى الأصلي الذي وضعت له ابتداء.
الآصال جمع أصيل وأُصل وهو ما بعد العصر، ويكون ذلك بصورة أوضح من بعد اصفرار الشمس.
وقفتُ فيها أُصَيْلاناً أسائلها | عَيّتْ جواباً وما بالربع من أحد |
بمعنى وقت الأصيل، بعد اصفرار الشمس، وهذا أفضل ما يكون في وقت الذكر، بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ فالغدو بعد الفجر إلى طلوع الشمس، وَالآصَالِ يقول أذكار المساء، المساء يبدأ من بعد زوال الشمس، هذا كله يقال له مساء، فلو قال الإنسان الأذكار بعد الظهر - أذكار المساء - لأجزأه؛ لأن هذا مساء، لكن الذكر كما قال الله : وَالآصَالِ وهو بعد العصر، وآكد ما يكون ذلك وأحسن ما يقع فيه هو عند ذبول الشمس.
الذكر يكون بصوت خافت بحيث يسمع الإنسان نفسه، ولا يؤذي الآخرين، فقد صح عن النبي ﷺ : الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة[1].
- رواه أبو داود برقم (1333)، كتاب التطوع، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، والنسائي برقم (2561) كتاب الزكاة، باب المسر بالصدقة، والترمذي برقم (2919) وقال: هذا حديث حسن غريب، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله ﷺ، كلهم من حديث عقبة بن عامر ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1204)، وفي صحيح الجامع برقم (3105).