ابن كثير - رحمه الله - يوافق ابن جرير على أن هذا من هذا القبيل أي مما أسقط فيه "لا"؛ لأن المعنى معلوم.
المفاعلة مثل المكاتبة والمقاتلة والمجاهدة وما أشبه ذلك الأصل أن تكون بين طرفين، لكن قد تأتي أحياناً ولا يراد بها ذلك وإنما هي من طرف واحد، مثل قوله هنا: وَقَاسَمَهُمَا [سورة الأعراف:21] فالقسم صدر من طرف وهو إبليس، وإن كان بعض أهل العلم يذكر أن آدم وحواء أقسما له بالطاعة، وهو أقسم لهما بأنه صادق وأنه ناصح وعلى هذا يكون القسم قد صدر من طرفين لكن هذا لا دليل عليه فهو بعيد، وإنما صدر القسم من إبليس وحده وإن جاء بصيغة المفاعلة فهذا سائغ كما سبق بيانه.
ابن القيم - رحمه الله - ذكر تأويل آدم ﷺ أنه كان من هذه الحيثية بمعنى أنه ما كان يتصور أن أحداً يحلف بالله كاذباًَ، فانظر إلى هذه الأشياء التي جاء بها إبليس يؤكد هذا الكلام، حيث جاء بمؤكدات متعددة، وهي أنه قاسمهما، أي أقسم بالله، ثم أتى بـ"إنَّ" المؤكدة، وجاء باللام في قوله: "لمن الناصحين" وجاء بلفظ النصح، وكل هذه الأشياء يؤكد بها قوله، وما كان آدم يتصور أن أحداً يحلف بهذه الطريقة بالله وهو يكذب، فصدقه، وعلى كل حال مهما يكن فالله قد قدر هذا وقضاه، وهذا الذي وقع من آدم لا شك أنه معصية كما قال الله - تبارك وتعالى - : وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طـه:121] وهذا أحد الأدلة التي يستدل بها أهل السنة على أن المعاصي تقع من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - تقع منهم المعاصي، لكن بالنسبة لمسألة الشرك، هل يقع منهم قبل البعثة أو لا يقع؟ فقد قلنا سابقاً: إن الراجح أنهم لا يقعون فيه، حيث ذكرنا ذلك عند الكلام على قول إبراهيم ﷺعلى الكوكب: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76].
وأما الكبائر فإنها لا تقع منهم، وإنما التي تقع منهم هي الصغائر لكن لا يصرون عليها، ثم إن هذه الصغائر التي تقع منهم ليست هي الصغائر المدنِّسة التي تخل بالمروءات، التي يسمونها صغائر الخسة وهي التي تنبئ عن لؤم، فهذه لا تقع من الأنبياء؛ لأنهم أشرف الناس نفساً - عليهم الصلاة والسلام - ولا حاجة للتكلف في دفع المعاصي عنهم مطلقاً كتكلف من يتأولون معصية آدم بقولهم: إن قوله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طـه:121] هذا من غوى الفصيل، يعني ولد الناقة، بمعنى أنه بشمَ من كثرة ما رضع من الحليب، أي أن آدم أكل من الشجرة حتى انتفخ بطنه من كثرة الأكل، فهذا كلام غير صحيح، ثم إن قيل هذا في "غوى" فأين يذهبون بقوله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ [سورة طـه:121].