الأربعاء 23 / ذو القعدة / 1446 - 21 / مايو 2025
وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَقَاسَمَهُمَا [سورة الأعراف:21] أي: حلف لهما بالله إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21].

ابن كثير - رحمه الله - يوافق ابن جرير على أن هذا من هذا القبيل أي مما أسقط فيه "لا"؛ لأن المعنى معلوم.
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21] فإني من قبلكما هنا وأعلم بهذا المكان، وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين.

المفاعلة مثل المكاتبة والمقاتلة والمجاهدة وما أشبه ذلك الأصل أن تكون بين طرفين، لكن قد تأتي أحياناً ولا يراد بها ذلك وإنما هي من طرف واحد، مثل قوله هنا: وَقَاسَمَهُمَا [سورة الأعراف:21] فالقسم صدر من طرف وهو إبليس، وإن كان بعض أهل العلم يذكر أن آدم وحواء أقسما له بالطاعة، وهو أقسم لهما بأنه صادق وأنه ناصح وعلى هذا يكون القسم قد صدر من طرفين لكن هذا لا دليل عليه فهو بعيد، وإنما صدر القسم من إبليس وحده وإن جاء بصيغة المفاعلة فهذا سائغ كما سبق بيانه.
أي: حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما، وقد يُخدع المؤمن بالله، وقال قتادة في الآية: حلف بالله إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما.

ابن القيم - رحمه الله - ذكر تأويل آدم ﷺ أنه كان من هذه الحيثية بمعنى أنه ما كان يتصور أن أحداً يحلف بالله كاذباًَ، فانظر إلى هذه الأشياء التي جاء بها إبليس يؤكد هذا الكلام، حيث جاء بمؤكدات متعددة، وهي أنه قاسمهما، أي أقسم بالله، ثم أتى بـ"إنَّ" المؤكدة، وجاء باللام في قوله: "لمن الناصحين" وجاء بلفظ النصح، وكل هذه الأشياء يؤكد بها قوله، وما كان آدم يتصور أن أحداً يحلف بهذه الطريقة بالله وهو يكذب، فصدقه، وعلى كل حال مهما يكن فالله قد قدر هذا وقضاه، وهذا الذي وقع من آدم لا شك أنه معصية كما قال الله - تبارك وتعالى - : وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طـه:121] وهذا أحد الأدلة التي يستدل بها أهل السنة على أن المعاصي تقع من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - تقع منهم المعاصي، لكن بالنسبة لمسألة الشرك، هل يقع منهم قبل البعثة أو لا يقع؟ فقد قلنا سابقاً: إن الراجح أنهم لا يقعون فيه، حيث ذكرنا ذلك عند الكلام على قول إبراهيم ﷺعلى الكوكب: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76].
وأما الكبائر فإنها لا تقع منهم، وإنما التي تقع منهم هي الصغائر لكن لا يصرون عليها، ثم إن هذه الصغائر التي تقع منهم ليست هي الصغائر المدنِّسة التي تخل بالمروءات، التي يسمونها صغائر الخسة وهي التي تنبئ عن لؤم، فهذه لا تقع من الأنبياء؛ لأنهم أشرف الناس نفساً - عليهم الصلاة والسلام - ولا حاجة للتكلف في دفع المعاصي عنهم مطلقاً كتكلف من يتأولون معصية آدم بقولهم: إن قوله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طـه:121] هذا من غوى الفصيل، يعني ولد الناقة، بمعنى أنه بشمَ من كثرة ما رضع من الحليب، أي أن آدم أكل من الشجرة حتى انتفخ بطنه من كثرة الأكل، فهذا كلام غير صحيح، ثم إن قيل هذا في "غوى" فأين يذهبون بقوله: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ [سورة طـه:121].

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَقَاسَمَهُمَا أي: حلف لهما: إنه لمن الناصحين، وذكر قسم إبليس."

حلف لهما أنه من الناصحين وَقَاسَمَهُمَا أصله من القسامة، القسامة معروفة أيمان تقسم على أولياء المقتول، ثم صار اسمًا لكل حلف، يعني سواء كان من قبيل القسامة، أو من غيرها، كما يقال في اليمين بأن أصله أن كان الواحد عند العهد، والحلف، أو التأكيد يأخذ بيمين صاحبه مع القول، ثم تنوسي ذلك، فصار إلقاء اليمين لكل حلف، ويقال العهد المؤكد، ونحو هذا.

"وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين؛ لأنه اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما، وأقسما له أن يقبلا نصيحته."

يعني: هذا بأي اعتبار الآن، قاسم على، وزن فاعل، والمفاعلة في الأصل تكون بين طرفين، فهنا من الذي أقسم هو إبليس فهي من طرف واحد، فكيف جاءت صيغة المفاعلة؟

ذكرت لكم من قبل بأن صيغة المفاعلة الأصل أن تكون بين طرفين، لكن قد تأتي من طرف واحد، وذكرت لكم أمثلة مثل تثائب، تقاعس، تحامل على نفسه، تقاعد، فهذا من طرف واحد فلتأتي هكذا.

فهنا يقول بأن المفاعلة يعني باعتبار المبالغة مثلاً؛ لأنه اجتهد في القسم، أو لأنه أقسم لهما، وأقسما له، يعني: وجدت فعلاً من الطرفين، لكن هذا لا حاجة إليه، ولا دليل على أن هذا أقسم له إطلاقًا، وكان الذي حمل هذا القائل على هذا القول وجود لفظ المفاعلة، ولفظ المفاعلة كما ذكرت لا يلزم أن يكون بين طرفين دائمًا، فهي للمبالغة، هنا - والله أعلم - ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك، كما يقول بعض أهل العلم مراوغات، ومحاولات بذل فيها الجهد، يعني: ما استجابا له مباشرة، وإنما كان يوسوس، ويحاول إقناعهما بطرق مختلفة، وذكر ابن كثير - رحمه الله - أنه من باب المفاعلة، والمراد أحد الطرفين[1] يعني ما ذكرت لكم أن المفاعلة تأتي مرادة بها، تأتي، وتستعمل من طرف واحد، وهذا هو الأقرب - والله أعلم -.

  1. تفسير ابن كثير (3/397).