الثلاثاء 22 / ذو القعدة / 1446 - 20 / مايو 2025
يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِى سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [سورة الأعراف:26] يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس المذكور هنا لستر العورات، وهي السوءات، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهراً، فالأول من الضروريات، والريش من التكميلات والزيادات، قال ابن جرير: الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب.


ما ذكره الله هنا من اللباس والرياش، هذا أحد الأوجه المعروفة في تفسيره أي أن اللباس ما يحصل به ستر العورات وليس بزائد عن القدر المحتاج إليه، وأما الرياش فهو ما يتجمل به، يعني أن العمامة بهذا الاعتبار تكون من الرياش، فاللباس الزائد عن قدر الحاجة الضرورية يكون من الرياش بهذا الاعتبار.
وكلام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير الرياش أوسع من هذا، أي أنه لا يختص بالثياب فقط وإنما في الأمور التكميلية، والأمر التكميلي من اللباس هو ما كان خارجاً عن الضروري مما يتزين به الإنسان، ومن غير اللباس أيضاً كالأشياء التي يتخذها الإنسان لراحته في تقلباته المختلفة من فراش وما يعد للجلوس من الأرائك ونحوها، كل ذلك من الرياش.
وبعضهم يفسر الرياش أيضاً باللباس، لكنه بهذا الاعتبار سيكون تكراراً، وهذا بعيد.
وبعضهم يفسره بمعنى أعم مما ذكره ابن جرير فيقول: إن الرياش يدخل فيه ما يحصل به السعة لهم من الخصب في أرضهم والرفاهية والرغد في العيش، وما إلى ذلك، فلا يختص بالثياب، وهذا المعنى الذي ذكره هؤلاء - أعني المعنى الأخير - معنى معروف عند العرب، وقد اشتهر عند كثير من أهل اللغة أي أن الرياش يقال للثياب التي يستتر بها الإنسان، ويقال لما زاد على ذلك، وما يحصل به التوسع للإنسان في أمور معيشته.
وبعضهم يفسر الرياش بالمال، وهذا مقارب للذي قبله؛ لأن التوسعة إنما تحصل بالمال، ومثل هذا المعنى لا زال مستعملاً إلى اليوم، فيقال: فلان رائش، يعني أنه يعيش في رغد ورفاهية ومال، والله تعالى أعلم.
قال ابن جرير: "الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب" كلام ابن جرير – رحمه الله - أكثر من هذا، هنا قال: الأثاث وما ظهر من الثياب مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار، ويقول: والريش هو المتاع والأموال عندهم، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال، يعني أن الرياش بإطلاقه الأعم هو كل ما يحصل به التوسع في أمور المعيشة ولا يختص باللباس، ويطلق بإطلاق أخص وهو ما يتعلق بالثياب، مما يلبسه الإنسان.
 

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى.

وهذا باعتبار أن ستر العورات من التقوى، فهو لباس التقوى بهذا الاعتبار يعني يكون الإنسان على حال مرضية وطاعة وقبول عن الله  وإذعان وتسليم إذا كان ساتراًً للعورات، وذلك أن إبداء العورات من عمل الشيطان، مما يزينه لابن آدم، كما سيأتي في قوله - تبارك وتعالى - : وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] وذلك ما كان يحصل منهم من كشف العورات والتجرد من اللباس عند الطواف كما في صحيح مسلم حيث كانت المرأة تقول وهي تطوف عريانة: اليوم يبدو بعضه أو كلُّه وما بدا منه فلا أحله[1] فهذا من تزيين الشيطان، والله ينهى عنه ولا يأمر به، وهم يضيفون ذلك إلى الله، فلباس التقوى على هذا المعنى الذي ذكره عن زيد بن أسلم هو ستر العورات، يعني أن ذلك من التقوى.
ولفظة "لباس" قرئت بالنصب أيضاً: وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] وقرئت بالرفع وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ فبالنصب على أنها معطوفة على "لباساً" الأولى هكذا قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] فتكون عائدة إلى "لباساً" الأولى على أنها مفعول به، وعلى قراءة الرفع يكون "لباسُ" من قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] مبتدأً، وهو مضاف والتقوى مضاف إليه.
ولباس التقوى عبارات السلف فيه متقاربة، فبعضهم يقول: لباس الخشية، ومنهم من يقول: لباس الحياء، ومنهم من يقول: العمل الصالح.
وقد يقال: اللباس هو ما يشتمل عليه الإنسان أو ما يتحلى به أو هو ما يزاوله الإنسان كما قال القائل:

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً
وكما قال بعضهم:
تغطَّ بأثواب السخاء فإنني أرى كل عيب والسخاء غطاؤه
يعني إذا كان الإنسان يجود ويعطي ويبذل فإن هذا يغطي عيوبه الأخرى، حتى لو كان اسمه قبيحاً فإنه يكون جميلاً وجيّداً إذا كان الإنسان سخياً، فضلاً عن الأشياء التي قد تكون منقصة في نظر الناس من ضعة في النسب أو دمامة في الوجه أو نحو هذا، كل ذلك يرتفع ويزول إذا بذل الإنسان المال، أي أن ذلك يغطي  عيوبه، والمقصود أن الله - تبارك وتعالى - قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] أي يكون الإنسان متحلياً بتقوى الله - تبارك وتعالى - ، وإذا كان الإنسان متقياً فإنه يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ويكون مستحياً من الله حق الحياء فلا يتجرد من اللباس كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فإن ذلك خلاف الحياء والخشية والورع والتقوى والخوف من الله فكل هذه المعاني من التقوى، فالتقوى معنى يشمل ذلك جميعاً، فهي العمل بطاعة الله وترك مخالفته.
والله هنا جمع بين اللباس الظاهر وبين المعنى الباطن من تقوى الله والإيمان وما أشبه ذلك، وقد قال تعالى في الآية الأخرى في سورة المدثر: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4] والمقصود أن تطهر النفس والقلب من الأدناس والأرجاس ومن الشرك بالله - تبارك وتعالى - والغل والحسد والذنوب والتعلق بغير الله ويدخل في ذلك تطهير الثياب الظاهرة التي يلبسها الإنسان.
وابن القيم له كلام جيد في هذا المعنى، وفي هذه الآية أيضاً أشار إلى الجمع بين المعنيين، ولابن جرير - رحمه الله - كلام جيد في هذا المعنى أيضا.
يقول ابن جرير – رحمه الله - : "فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام - إذا رفع لباسُ التقوى - ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه خير لكم يا بني آدم من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلناها إليكم، هكذا فالبسوه، وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا، فإنه: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ هذا الذي أنزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم والريش ولباس التقوى خير لكم من التعري والتجرد من الثياب في طوافكم في البيت، فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعري من الثياب فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة كما فعل بأبويكم آدم وحواء فخدعهما حتى جردهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصياه بأكلها.
قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب - يقصد قراءة النصب - لصحة معناه في التأويل على ما بينت وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش توبيخاًً للمشركين الذين كانوا يتجردون في حال طوافهم بالبيت، ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال مع الإيمان به واتباع طاعته، ويعلمهم أن كل ذلك خير من كل ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله وتعريهم إلا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خير من بعض.
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك الآيات التي بعد هذه الآية، وذلك قوله: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا [سورة الأعراف:27] وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33] فإنه - جل ثناؤه - يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب واستعمال اللباس وترك التجرد والتعري، وبالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته وينهى عن الشرك به واتباع أمر الشيطان مؤكداًً في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26].
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن؛ لأن من اتقى الله كان به مؤمناً، وبما أمره به عاملاً ومنه خائفاً وله مراقباً، ومن أن يُرى عند ما يكرهه من عباده مستحيياً، ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه فحسن سمته وهديه، ورؤيت عليه بهجة الإيمان ونوره، وإنما قلنا: عنى بلباس التقوى استشعار النفوس والقلب ذلك لأن اللباس إنما هو ادِّراع ما يلبس واجتياب ما يكتسى أو تغطية بدنه أو بعضه به، فكل من ادَّرع شيئاً واجتابه حتى يرى عينه أو أثره عليه فهو لابس له، ولذلك جعل - جل ثناؤه - الرجال للنساء لباساً وهن لهم لباساً، وجعل الليل لعباده لباساً"[2].
هذا كلام جيد جمع فيه ابن جرير بين العبارات التي قالها السلف، فالثياب لما كانت تدَّرع وتلبس قيل لها لباس، وكذلك ما اشتمل عليه الإنسان من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق فإن ذلك كالثوب الذي يُلبس.
قوله: ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] يعني ستر العورات خير من التجرد، والتحلي بتقوى الله خير من التعري من التقوى ومفارقتها، والله أعلم.
  1. انظر صحيح مسلم - كتاب التفسير - باب في قوله تعالى: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] (3028) (ج 4 / ص 2320).
  2. انظر: كتاب جامع البيان في تأويل القرآن (ج 12 / ص 371).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: لِبَاسًا أي: الثياب التي تستر، ومعنى أنزلنا خلقنا، وقيل: المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس، وهو المطر، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة."

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ لباسًا يعني: الثياب التي تستر، معنى أنزلنا: الأصل في الإنزال أنه من أعلى إلى أسفل، هذه قاعدة، لكن كل شيء بحسب على اختلاف بين المفسرين، وإلا النزول فنزول القرآن من أعلى؛ لأنه من الله، لكن في قوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25] يحتمل أن أصله من السماء، أو باعتبار أن أجود الحديد يكون في أعالي الجبال.

ويمكن أيضًا في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: 6] أن أصولها نزلت من السماء، فتناسلت، أو باعتبار أن ذكورها تنزوا على إناثها، فينزل ذلك منها في أرحامها، فهو نزول من أعلى إلى أسفل، أو باعتبار أن الولد إذا ولد يسقط ينزل إلى الأرض، أولادها إذا ولدت ينزل يعني فيها معنى النزول من أعلى إلى أسفل على أي اعتبار، يعني: على الأقوال فيها معنى النزول.

يقول: أنزلنا، خلقنا، يعني على اعتبار أن اللباس لم ينزل من السماء، وإنما خلق، تفسيره بخلقنا مروي عن جماعة من السلف كسعيد بن جبير[1] واختاره ابن جرير - رحمه الله -[2] وكذلك الشوكاني[3].

أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ بمعنى خلقنا.

يقول: وقيل: المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس، لاحظ هذا راعى لفظة النزول، وأنه من أعلى إلى أسفل، فقال الإنزال السبب، وهو المطر ينزل من أعلى إلى أسفل هذا من أجل أن تعرف لماذا قال هذا؟ لأنه لاحظ لفظة نزول فأراد أن يفسر بشيء هذا ذكره صاحب التفسير الكبير قال: وهو المطر[4].

شيخ الإسلام ابن تيمية على طريقته حمله على معنى أنه ينزله ظهور الأنعام[5] فينتفع به بنو آدم في اللباس، والريش أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وهو ما يكسو ظهور الأنعام فيتخذ من اللباس؛ لأن هذه الأنسجة تنسج من الصوف، والوبر، والشعر، ونحو ذلك.

يعني: شيخ الإسلام راعى لفظة النزول، فهو دائمًا يراعيها، وما ذكرته مثلاً في نزول الحديد، ونزول الأنعام، وهو من كلام شيخ الإسلام، ويحتج به نزول القرآن نزل من أعلى، أي من الله، وإثبات صفة العلو، يرد على المتكلمين.

قوله تعالى: رِيشًا أي: لباس الزينة، وهو مستعار من ريش الطائر.

مستعار من ريش الطائر لباس الزينة، وبنحو هذا قول ابن جزي هذا في اللباس، والرياش، قال ابن كثير: فجعل اللباس لستر العورات، والرياش ما يتجمل به ظاهرًا[6] يعني ما زاد على ستر العورة مثل هذه العمامة، ونحو ذلك مما يلبسه الناس، ويتجملون به.

والرياش عند ابن جرير المتاع مما يلبس، أو يحشى من الفرش، أو الدثار[7].

الريش يقال: للمتاع، والأموال عند العرب، وربما استعمله في الثياب، والكسوة دون سائر المال.

وبعضهم يقول: بأن المراد به الخصب، ورفاهية العيش، ولذلك لا زال الناس يستعملون هذا المنعم، أو الكثير المال يقولون: فلان مريش، من هذا المعنى فهو استعمال صحيح من هذا الاعتبار.

وشيخ الإسلام فسره الأثاث، والمتاع[8] ومن فسره بالمال كأنه أراد مالاً مخصوصًا، وابن زيد - رحمه الله - فسره بالجمال لباسًا، وريشًا؛ وذلك أنه مأخوذ من ريش الطائر، وهو ما يروش به، ويدفع عنه الحر، والبرد، يقولون: جمال الطائر في ريشه، وكذلك ما يبيت فيه الإنسان من الفرش، وما يبسطه تحته، وكذلك يطلق على ما ظهر من اللباس، ولباس الزينة، وكل ما ستر الإنسان في جسمه، ومعيشته، فأصل المادة يدل على حسن حاله أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا فالعطف يقتضي المغايرة، أن الريش غير اللباس، ولهذا قال بعضهم: ما زاد على ستر العورة، أو فسره بعضهم بالمال، أو الأثاث، أو نحو هذا بهذا الاعتبار، فهو يدل على حسن حال، وما يكتسب الإنسان من خير، ومن هنا فسره بعضهم بالمال.

أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا شيء زائد على الناس، من لباس، وغيره مما يتنعمون به من أثاث، ونحوه - والله أعلم -.

قوله تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى استعار للتقوى لباسا كقولهم: ألبسك الله قميص تقواه، وقيل: لباس التقوى ما يتقى به في الحرب من الدروع، وشبهها، وقرئ بالرفع على الابتداء، أو خبره الجملة، وهي: ذَلِكَ خَيْرٌ.

وَلِبَاسُ التَّقْوَى يقول: استعار للتقوى لباسا كقولهم: ألبسك الله قميص تقواه.، والمقصود لباس الخشية، والورع، وبعضهم يقول: الحياء، وبعضهم يقول: العمل الصالح، وكل هذا عن التقوى، كما قيل:

إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى تقلب عريانًا، وإن كان كاسيًا

والعرب تعبر باللباس عن مثل هذا، وكما هي عادة القرآن حينما يذكر شيئًا قد يذكر يعني من الأمور المادية، أو نحو ذلك يذكر ما يقابل من ذلك من الأمور المعنوية المتعلقة بالنفس، والقلب، وصلاح الحال، هذا ذكرنا له أمثلة في مناسبات مختلفة.

الله - عز، وجل - حينما قال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة: 197] تزودوا، يعني: من الأزواد الحسية الطعام، والشراب في الحج، والسفر، ثم قال: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197] فلما ذكر هذا ذكر هذا.

ولما ذكر مباشرة النساء في ليالي الصوم: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] فأمر بالمباشرة الجماع.

قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ كثير من المفسرين فسروه بطلب ليلة القدر، يعني: لا ينسيكم مباشرة النساء، والتمتع بهن، لا ينسيكم ذلك طلب ليلة القدر.

وبعضهم يقول: قيام ليالي رمضان، طلب ما عند الله، وبعضهم يقول: طلب الولد يكون لك نية في هذا الجماع، المقصود أنه يذكر هذا، وهذا.

فهنا لما ذكر اللباس الحسي قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ.

قال: وقيل: لباس التقوى ما يتقى به في الحرب من الدروع، وشبهها.، وهذا عجيب لاحظ أنه فرَّغ المعنى لباس التقوى، يعني أن الدروع، ونحو ذلك تقيه ضرب السلاح لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وريشا هذا لباس الزينة، وستر العورات، ولباس التقوى ما يقيكم السلاح من الدروع، ونحوها، هذا تفريغ للمعنى العميق الذي دلت عليه الآية، وأشار إليه كثير من أهل العلم: من أن المقصود لباس التقوى تقوى الله - عز، وجل - والتجمل لذلك، فهذه أجمل الحلية لاحظ هي أجمل حلية، وهذا، واضح، لكن تفرغ أحيانًا هذه المعاني بهذه التفسيرات، وهذا تجده في مواضع.

وابن جرير - رحمه الله - يقول في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] يعني: تتقون المفطرات من الأكل، والشرب، والجماع، يعني: كلام أن الصيام يورث التقوى أن الآية لا تدل عليه عند ابن جرير[9].

وهكذا وَأَقِمِ الصَّلَاةَ قال: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] قال: إذا اشتغل بالصلاة انشغل عن الفحشاء، والمنكر؛ لأنه يصلي، لا أنها تورثه تقوى، ينزجر معها فعل الفحشاء، والمنكر، هذا قول ابن جرير[10] لكن لا يعني بالضرورة أن هذا صحيح.

لكن أذكر هذا من باب أن بعض المعاني، والتفسيرات تسلك الآية معان عميقة دلت عليها - والله أعلم -.

والله - عز، وجل - يقول: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ يعني: لباس الدروع، والحديد خير من لباس العورات، والزينة، والتجمل، هذا ليس بصحيح، ليس بصحيح لا من جهة الزينة؛ فليس فيه زينة لباس الحرب، ولا من جهة أيضًا النفع؛ لأن لباس الحرب استثناء في حالات قليلة، وفي ساعات قليلة، وفي أوقات قليلة، لكن لباس ستر العورات، ونحو ذلك شرط من شروط الصلاة، والله - عز، وجل - يمتن على عباده بهذا اللباس.

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] كما سيأتي في ستر العورات، وما يضاف إلى ذلك من التجمل.

 قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الإشارة إلى ما أنزل من اللباس، وهذه الآية، واردة على، وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت، وخصف الورق عليها؛ ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس.

قوله هنا: قرئ بالرفع هذه قراءة الجمهور على الابتداء وَلِبَاسُ التَّقْوَى وخبره الجملة ذَلِكَ خَيْرٌ وقرئ بالنصب، ولباسَ التقوى، وهي قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي[11] وقراءة النصب هذه، ولباسَ التقوى، فيكون معطوفًا على لباسًا قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ وأنزلنا أيضًا لباس التقوى، وتكون جملة ذلك خير استئنافية لا محل لها من الإعراب، أو حالاً من لباس، وما عطف عليه، حال كونه خير - والله أعلم -.

قبل هذا ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يقول: الإشارة إلى من أنزل من اللباس، يعني: الريش، وكل ذلك من آياته الدالة على إحسانه، ورحمته بعباده، وليعرفوا إنعامه، وإفضاله، ولطفه فيتعظوا، ويعتبروا في صنعه، ويوحدوه، ويعبدوه، وحده اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [غافر: 79 - 80] لاحظ هذه تفسر آية الأعراف - والله أعلم -.

يقول هذه الآية، واردة على وجه الاستطراد عقب ما ذكر من ظهور السوآت، وخصف الورق عليهما.. إلى آخره.

  1.  تفسير القرطبي (7/184).
  2.  تفسير الطبري (12/361)
  3.  فتح القدير للشوكاني (2/224).
  4.  تفسير الرازي (14/221).
  5.  مجموع الفتاوى (12/255).
  6. تفسير ابن كثير (3/400).
  7.  تفسير الطبري (12/364).
  8.  دقائق التفسير (2/148).
  9.  تفسير الطبري (3/413).
  10.  تفسير الطبري (20/42).
  11.  اللباب في علوم الكتاب (9/69).