ما ذكره الله هنا من اللباس والرياش، هذا أحد الأوجه المعروفة في تفسيره أي أن اللباس ما يحصل به ستر العورات وليس بزائد عن القدر المحتاج إليه، وأما الرياش فهو ما يتجمل به، يعني أن العمامة بهذا الاعتبار تكون من الرياش، فاللباس الزائد عن قدر الحاجة الضرورية يكون من الرياش بهذا الاعتبار.
وكلام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير الرياش أوسع من هذا، أي أنه لا يختص بالثياب فقط وإنما في الأمور التكميلية، والأمر التكميلي من اللباس هو ما كان خارجاً عن الضروري مما يتزين به الإنسان، ومن غير اللباس أيضاً كالأشياء التي يتخذها الإنسان لراحته في تقلباته المختلفة من فراش وما يعد للجلوس من الأرائك ونحوها، كل ذلك من الرياش.
وبعضهم يفسر الرياش أيضاً باللباس، لكنه بهذا الاعتبار سيكون تكراراً، وهذا بعيد.
وبعضهم يفسره بمعنى أعم مما ذكره ابن جرير فيقول: إن الرياش يدخل فيه ما يحصل به السعة لهم من الخصب في أرضهم والرفاهية والرغد في العيش، وما إلى ذلك، فلا يختص بالثياب، وهذا المعنى الذي ذكره هؤلاء - أعني المعنى الأخير - معنى معروف عند العرب، وقد اشتهر عند كثير من أهل اللغة أي أن الرياش يقال للثياب التي يستتر بها الإنسان، ويقال لما زاد على ذلك، وما يحصل به التوسع للإنسان في أمور معيشته.
وبعضهم يفسر الرياش بالمال، وهذا مقارب للذي قبله؛ لأن التوسعة إنما تحصل بالمال، ومثل هذا المعنى لا زال مستعملاً إلى اليوم، فيقال: فلان رائش، يعني أنه يعيش في رغد ورفاهية ومال، والله تعالى أعلم.
قال ابن جرير: "الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب" كلام ابن جرير – رحمه الله - أكثر من هذا، هنا قال: الأثاث وما ظهر من الثياب مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار، ويقول: والريش هو المتاع والأموال عندهم، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال، يعني أن الرياش بإطلاقه الأعم هو كل ما يحصل به التوسع في أمور المعيشة ولا يختص باللباس، ويطلق بإطلاق أخص وهو ما يتعلق بالثياب، مما يلبسه الإنسان.
وهذا باعتبار أن ستر العورات من التقوى، فهو لباس التقوى بهذا الاعتبار يعني يكون الإنسان على حال مرضية وطاعة وقبول عن الله وإذعان وتسليم إذا كان ساتراًً للعورات، وذلك أن إبداء العورات من عمل الشيطان، مما يزينه لابن آدم، كما سيأتي في قوله - تبارك وتعالى - : وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] وذلك ما كان يحصل منهم من كشف العورات والتجرد من اللباس عند الطواف كما في صحيح مسلم حيث كانت المرأة تقول وهي تطوف عريانة: اليوم يبدو بعضه أو كلُّه وما بدا منه فلا أحله[1] فهذا من تزيين الشيطان، والله ينهى عنه ولا يأمر به، وهم يضيفون ذلك إلى الله، فلباس التقوى على هذا المعنى الذي ذكره عن زيد بن أسلم هو ستر العورات، يعني أن ذلك من التقوى.
ولفظة "لباس" قرئت بالنصب أيضاً: وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] وقرئت بالرفع وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ فبالنصب على أنها معطوفة على "لباساً" الأولى هكذا قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] فتكون عائدة إلى "لباساً" الأولى على أنها مفعول به، وعلى قراءة الرفع يكون "لباسُ" من قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ [سورة الأعراف:26] مبتدأً، وهو مضاف والتقوى مضاف إليه.
ولباس التقوى عبارات السلف فيه متقاربة، فبعضهم يقول: لباس الخشية، ومنهم من يقول: لباس الحياء، ومنهم من يقول: العمل الصالح.
وقد يقال: اللباس هو ما يشتمل عليه الإنسان أو ما يتحلى به أو هو ما يزاوله الإنسان كما قال القائل:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى | تقلب عرياناً وإن كان كاسياً |
تغطَّ بأثواب السخاء فإنني | أرى كل عيب والسخاء غطاؤه |
والله هنا جمع بين اللباس الظاهر وبين المعنى الباطن من تقوى الله والإيمان وما أشبه ذلك، وقد قال تعالى في الآية الأخرى في سورة المدثر: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4] والمقصود أن تطهر النفس والقلب من الأدناس والأرجاس ومن الشرك بالله - تبارك وتعالى - والغل والحسد والذنوب والتعلق بغير الله ويدخل في ذلك تطهير الثياب الظاهرة التي يلبسها الإنسان.
وابن القيم له كلام جيد في هذا المعنى، وفي هذه الآية أيضاً أشار إلى الجمع بين المعنيين، ولابن جرير - رحمه الله - كلام جيد في هذا المعنى أيضا.
يقول ابن جرير – رحمه الله - : "فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام - إذا رفع لباسُ التقوى - ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه خير لكم يا بني آدم من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم، ومن الرياش التي أنزلناها إليكم، هكذا فالبسوه، وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا، فإنه: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ هذا الذي أنزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم والريش ولباس التقوى خير لكم من التعري والتجرد من الثياب في طوافكم في البيت، فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعري من الثياب فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة كما فعل بأبويكم آدم وحواء فخدعهما حتى جردهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصياه بأكلها.
قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب - يقصد قراءة النصب - لصحة معناه في التأويل على ما بينت وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش توبيخاًً للمشركين الذين كانوا يتجردون في حال طوافهم بالبيت، ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال مع الإيمان به واتباع طاعته، ويعلمهم أن كل ذلك خير من كل ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله وتعريهم إلا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خير من بعض.
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك الآيات التي بعد هذه الآية، وذلك قوله: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا [سورة الأعراف:27] وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33] فإنه - جل ثناؤه - يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب واستعمال اللباس وترك التجرد والتعري، وبالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته وينهى عن الشرك به واتباع أمر الشيطان مؤكداًً في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26].
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: وَلِبَاسَ التَّقْوَىَ استشعار النفوس تقوى الله في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن؛ لأن من اتقى الله كان به مؤمناً، وبما أمره به عاملاً ومنه خائفاً وله مراقباً، ومن أن يُرى عند ما يكرهه من عباده مستحيياً، ومن كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه فحسن سمته وهديه، ورؤيت عليه بهجة الإيمان ونوره، وإنما قلنا: عنى بلباس التقوى استشعار النفوس والقلب ذلك لأن اللباس إنما هو ادِّراع ما يلبس واجتياب ما يكتسى أو تغطية بدنه أو بعضه به، فكل من ادَّرع شيئاً واجتابه حتى يرى عينه أو أثره عليه فهو لابس له، ولذلك جعل - جل ثناؤه - الرجال للنساء لباساً وهن لهم لباساً، وجعل الليل لعباده لباساً"[2].
هذا كلام جيد جمع فيه ابن جرير بين العبارات التي قالها السلف، فالثياب لما كانت تدَّرع وتلبس قيل لها لباس، وكذلك ما اشتمل عليه الإنسان من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق فإن ذلك كالثوب الذي يُلبس.
قوله: ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] يعني ستر العورات خير من التجرد، والتحلي بتقوى الله خير من التعري من التقوى ومفارقتها، والله أعلم.
- انظر صحيح مسلم - كتاب التفسير - باب في قوله تعالى: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] (3028) (ج 4 / ص 2320).
- انظر: كتاب جامع البيان في تأويل القرآن (ج 12 / ص 371).