قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على فرجها النِّسعة أو الشيء، وتقول: اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه وما بدا منه فلا أحله.
يعني تضع مثل السيور من الجلد تغطي به فرجها كما جاء عن ابن عباس - ا - أي ربما ربطت على وسطها خيطاً يتدلى منه بعض الخيوط أو السيور كتلك التي توضع على وجه الحمار من أجل أن تطرد الذباب عنه إذا تحرك، فهي لا تلبس شيئاً يستر العورة وإنما هو شيء من الخيوط التي لا تواري.
الفاحشة هي الذنب العظيم، وتطلق في عرف الاستعمال كثيراً على الزنا وما في معناه، وفي قوله: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا إما أن يكون المقصود أنهم إذا فعلوا ذنباً عظيماً – مطلقاً - أو أن المقصود إذا فعلوا نوعاً من الذنوب وهو التجرد من الثياب قالوا: وجدنا عليه آباءناً وأضافوه إلى الله - تبارك وتعالى - وهذا الأخير هو الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - وقد يدل عليه سبب النزول، أي أن ذلك مختص بالتجرد من الثياب الذي كانوا يفعلونه حال الإحرام، والله تعالى أعلم.
سموا بالحُمس؛ لأنهم يتحمسون لدينهم، فقريش تعتبر قبيلة متدينة فهم أهل الحرم ومعلوم أنهم لم يكونوا يخرجون إلى عرفة في الحج، ويقولون: نحن أهل الحرم لا نخرج منه ولذلك كانوا يقفون عند حدود الحرم، وكانت طقوس معينة، وغير الحمس إذا وصلوا إلى حدود الحرم ومعهم طعام أو شراب ألقوه ولا يدخلون به الحرم؛ لأن الحمس هم الذين يقدمون للناس الطعام والشراب مجاناً؛ ولهذا إذا دخلت أشهر الحج - كما هو معروف في أخبار العرب - كان الحمس لا يسلَئون ولا يأقِطون، بمعنى أنهم يبذلون اللبن أو الحليب للناس ولا يستخرجون منه قليلاً ولا كثيراً من السمن والزبد ولا غير ذلك من المشتقات التي تستخرج منه بل يسقونه الحجيج، وكانوا يسقونهم النبيذ أيضاً ويطعمونهم، ويقومون بكل أمر يحتاجون إليه، ويرون أن ذلك من مفاخرهم وأنهم يقومون بذلك ديانة وكرماً من غير منَّة على أحد، ولا يجوز لأحد من غير الحمس أن يقوم بهذه الأمور أو يدخل ومعه طعام أو شراب ومن فعل ذلك فهو منتهك للإحرام، وإذا جاء للطواف وهو محرم فلا يطوف بثياب عصى الله فيها بزعمهم بل لابد أن يطوف بثياب جديدة، وإذا انتهى من الطواف ألقى ذلك الثوب في الطواف، وكانوا يسمون تلك الثياب بالَّلقى، تدوسها أقدام الطائفين حتى تتلف، ولذلك فإن في أشعار العرب يصور أحياناً الإنسان نفسه بأنه كأنه لقى، ويقصد ذلك الثوب المطروح تحت أقدام الطائفين.
وإذا كان الطائف يعرف أحداً من الحُمس أعاره ثوباً يطوف به؛ لأن ثيابهم لها مزية بزعمهم، والله المستعان.
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك، فقال: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28].
يلاحظ أنهم ادعوا أمرين، حيث قال تعالى: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] فجاء الرد على واحدة قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28] وقد أشرتُ في بعض المناسبات إلى قاعدة، وهي أنه إذا ذكر الله مقالة أحد في القرآن فإنه يذكر قبلها أو معها أو بعدها ما يدل على بطلانها وإلا كانت تلك المقالة صحيحة غالباً، وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ [سورة الكهف:22] حيث سكت عن قولهم سبعة وثامنهم كلبهم مما يشعر أنه القول الصحيح، وقد تُذكر قضيتان فيعقب على إحداهما ويسكت عن الأخرى مما يدل على أن التي سكت عنها صحيحة كما في قوله تعالى هنا: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا [سورة الأعراف:28] وصحيح أنهم وجدوا الآباء على هذه الفواحش لكن لما قالوا: وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] رد على هذه فقال: قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28] لكن لابد من الأخذ في الحسبان أن هذه القاعدة ليست مطردة بل هي أغلبية ويكفي في القواعد أن تكون أغلبية؛ لأنه يوجد ما يخرج عن هذا، لكنه قليل أو نادر، بل لا أحفظ مثالاً عليه في القرآن إلا في موضع واحد.