السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ ۖ وَقَالُوا۟ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلَآ أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ ۖ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ ۖ وَنُودُوٓا۟ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [سورة الأعراف:43] قال الحافظ: "أي: من حسد وبغض" هذا يمكن أن يفسر بهذا الحديث الذي ذكره هنا وهو أنهم يقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيصفى ما في قلوبهم بسبب ما وقع بينهم من المظالم في الدنيا فيدخلون الجنة بقلوب نقية طاهرة لا غل فيها، والإنسان قد يكون في قلبه غل على إخوانه، نسأل الله العافية.
وقد قال علي لما كان يوم صفين: أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [سورة الأعراف:43] وهذا يدل على أن الغل على اسمه، وذلك أن الغل أصله الرباط الذي يكون في العنق، فهذا الغل يربط القلب، فلا يهنأ الإنسان براحة ولا يلتذ بعيش وقلبه يحمل الغل على أحد من المسلمين - نسأل الله العافية - وأول من يعذب بهذا الغل هو صاحبه حيث يتكدر عليه عيشه ويتنغص، لذلك لما كان الغل يكدر النعيم نفاه الله عن أهل الجنة، ونزعه من قلوبهم قبل أن يدخلوها.
وبعض أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - يرى - وبه قال طائفة من السلف - أن المقصود بالآية أنهم في الجنة حينما يتفاضلون في المراتب والمنازل لا يقع في نفوسهم حسد بسبب ما يرون من تفاوت النعيم كما هو الحال في الدنيا، فالناس فيها يتحاسدون بما يرون من تفاوتهم في هذا العرَض والحطام الذي يتفاضلون فيه، وكذلك ما يتفاضلون فيه من القدرات العقلية وغير ذلك من العلوم وما إلى ذلك مما يحصل به التفاضل بين الناس في الدنيا، أما في الجنة فلا يحصل ذلك.
وعلى كل حال إذا نُزع ما في صدورهم من الغل قبل دخولهم الجنة فإن قلوبهم تبقى طاهرة فلا يقع فيها غل وحسد بما يرون من التفاضل بين مراتب أهل الجنة.
كما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلُّ منه بمسكنه كان في الدنيا[1].
وقال السدي في قوله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ الآية [سورة الأعراف:43]: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبداً.

هذا الأثر عن السدي، ومثل هذا يكون له حكم المرسل؛ لأن مثله لا يقال من جهة الرأي، ثم إنه يتعلق بتفسير آية، إلا إذا قيل: إن هذا مما أخذ عن بني إسرائيل، والله أعلم.
روى النسائي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهﷺ: كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني، فيكون له شكراً، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني، فيكون له حسرة[2].

قوله: هَدَانَا لِهَذَا من قوله - تبارك وتعالى - : وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ[سورة الأعراف:43] يحتمل أن يكون المعنى هدانا للجنة، ويشهد له الحديث الذي مضى آنفاً وهو قوله ﷺ: فوالذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلُّ منه بمسكنه في الدنيا، وهو أيضاً بعض ما يفسر به قول الله - تبارك وتعالى - : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4-5] أي: يهديهم إلى الصراط، ويهديهم على الصراط ويهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، كل ذلك حاصل لهم.
ويحتمل أن يكون المراد هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43] يعني هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح الذي تسبب في دخول الجنة وهذا النعيم المقيم الذي أدركوه فيها، وهما معنيان متلازمان، فلا حاجة للترجيح بينهما ، والله تعالى أعلم، وعلى هذا يقال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43] أي: هدانا لسببه وهو الإيمان والعمل الصالح، وهدانا أيضاً إلى هذا النعيم في الجنة، وهداهم إلى منازلهم فيها، وهذا الوجه من الجمع ذهب إليه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وهذا أحسن من الاقتصار على أحد هذين المعنيين والله تعالى أعلم؛ لوجود الملازمة بينهما، ومعلوم أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر وكان بينهما ملازمة فإنها تحمل عليهما إلا إذا وجد مانع يمنع من ذلك.
ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون أي: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم، وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل[3].

أي أن الباء للسببية في قوله: الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43] وقد جعلها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا سبباً لنيل الرحمة التي بها تنال الجنة، ولا إشكال في ذلك كما يمكن أن يقال أيضاً: إنها سبب لدخول الجنة، لكن هذا السبب ليس مستقلاً، بمعنى أنه لا يكفي وحده لدخول الجنة للحديث المذكور، وعلى كل حال العمل سبب، ورحمة الله فوق ذلك، والله أعلم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصاص يوم القيامة (6170) (ج 5 / ص 2394).
  2. أخرجه أحمد (10660) (ج 2 / ص 512) والحاكم (3629) (ج 2 / ص 473) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (4514).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصد والمداومة على العمل (6098) (ج 5 / ص 2373) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816) (ج 4 / ص 2169).

مرات الإستماع: 0

"وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا نزع منه في الجنة، وصاروا إخوانا أحبابا، وإنما قال: نزعنا بلفظ الماضي."

لاحظ هذا المعنى الذي ذكره ابن جزي هو الذي عليه عامة المفسرين يعني من غل ما في أنفسهم، وقلوبهم من العداوة، والحقد، والشحناء، فالغل هو الضغن ينغل في الصدر كذلك الحسد، فأصله يدل على تخلل شيء، وثبات شيء، فهذا مما يكون بينهم في الدنيا، فيطهرون قبل دخول الجنة؛ لأن الجنة لا يوجد فيها شيء من ذلك كما قال الله : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] في الصحيح: يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة، والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة[1] هذا صريح في بيان المراد، أن التنقية تكون قبل دخول الجنة لمظالم كانت بينهم في الدنيا.

ابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على نفي الغل، والحقد بسبب تفاضلهم في الجنة[2] هم مراتب في الجنة، فهذا في الدنيا يكون سببًا للحسد، والغل فسلب الله ذلك عنهم في الجنة من أجل ألا يتحاسدوا على ما يرون من التفاضل، وهذا الحديث السابق يرده هذا صريح في بيان المراد أنه من القوم ما كان بينهم في الدنيا من مظالم، ونحو ذلك.

 لكن قوله - تبارك، وتعالى -: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أنهم يكونوا في حال من التطهير لا يصل إلى نفوسهم شيء من ذلك إذا نزع، ولفظ النزع، ويدل على شدة في الأخذ، وقلع الشيء، فإذا دخلوا الجنة فنفوسهم لا تحمل الغل؛ لأنه قد نزع وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.

ولهذا في قوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] هذا ما يتحقق بهذه الصفة إلا إذا كانوا قد نزع الغل من نفوسهم، الغل، وهو ما يكون في نفس الإنسان من جهة الحسد، أو من جهة العداوة الحقد، ونحو ذلك، الغِل يكون في القلب، والغُل يكون في العنق، فهذا الغل أغلال جمع غُل؛ والغِل هو الحسد، والحقد.

"وإنما قال: وَنَزَعْنَا بلفظ الماضي، وهو مستقبل لتحقق، وقوعه في المستقبل، حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع."

وهذا كثير في القرآن يمثلون له كثيرًا في قوله: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل: 1].

"وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ، وهي تقع في الآخرة كقوله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الأعراف: 44] وقوله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ [الأعراف: 48] وقوله: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ [الأعراف: 50] وغير ذلك.

قوله تعالى: هَدَانَا لِهَذَا إشارة إلى الجنة، أو إلى ما أوجب من الإيمان، والتقوى."

يعني في الدنيا هَدَانَا لِهَذَا لهذا، وبين المعنين ملازمة، يعني هداهم لهذا النعيم، وكذلك أسباب هذا النعيم؛ من الإيمان، والعمل الصالح؛ ولهذا جمع بينهم الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[3].

"قوله تعالى: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: 43] وأَنْ قَدْ وَجَدْنَا وأَنْ لَعْنَةُ [الأعراف: 44] وأَنْ سَلَامٌ [الأعراف: 46] يحتمل أن تكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا، أو حرف عبارة، وتفسير لمعنى القول."

أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وأَنْ قَدْ وَجَدْنَا وأَنْ لَعْنَةُ وأَنْ سَلَامٌ يقول: يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا، والتقدير: ونودوا أنه تلكم الجنة، واسمها ضمير للشأن، يحذف إذا خففت أن، يقول: أو حرف عبارة المقصود به أن في المواضع الأربعة السابقة.

يقول: أو حرف عبارة، وتفسير لمعنى القول، معنى القول، والنداء بمعنى أي كأنه قيل لهم: أي تلكم الجنة أورثتموها وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ نادوا النداء فيه معنى القول، وليس بصريح بحروفه، وكذلك فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ [الأعراف: 44] فالأذان هو بمعنى القول لكنه ليس بصريح بحروف القول "قال" وهكذا: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا [الأعراف: 44] فالنداء فيه معنى القول وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: 43] فقوله هنا: أو حرف عبارة، وتفسير، يعني "أن" أنه يكون بمعنى حرف عبارة، وتفسير لمعنى القول يعني بمعنى "أي" أي تلكم الجنة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي تلكم الجنة، فأن يكون بمعنى أي يكون تفسيرا لمعنى القول؛ لأنه لم يرد القول صريحًا.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب القصاص يوم القيامة، برقم (6535).
  2.  انظر: تفسير الطبري (10/198).
  3.  انظر: بدائع الفوائد (2/37).