وقد قال علي لما كان يوم صفين: أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ [سورة الأعراف:43] وهذا يدل على أن الغل على اسمه، وذلك أن الغل أصله الرباط الذي يكون في العنق، فهذا الغل يربط القلب، فلا يهنأ الإنسان براحة ولا يلتذ بعيش وقلبه يحمل الغل على أحد من المسلمين - نسأل الله العافية - وأول من يعذب بهذا الغل هو صاحبه حيث يتكدر عليه عيشه ويتنغص، لذلك لما كان الغل يكدر النعيم نفاه الله عن أهل الجنة، ونزعه من قلوبهم قبل أن يدخلوها.
وبعض أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - يرى - وبه قال طائفة من السلف - أن المقصود بالآية أنهم في الجنة حينما يتفاضلون في المراتب والمنازل لا يقع في نفوسهم حسد بسبب ما يرون من تفاوت النعيم كما هو الحال في الدنيا، فالناس فيها يتحاسدون بما يرون من تفاوتهم في هذا العرَض والحطام الذي يتفاضلون فيه، وكذلك ما يتفاضلون فيه من القدرات العقلية وغير ذلك من العلوم وما إلى ذلك مما يحصل به التفاضل بين الناس في الدنيا، أما في الجنة فلا يحصل ذلك.
وعلى كل حال إذا نُزع ما في صدورهم من الغل قبل دخولهم الجنة فإن قلوبهم تبقى طاهرة فلا يقع فيها غل وحسد بما يرون من التفاضل بين مراتب أهل الجنة.
وقال السدي في قوله: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ الآية [سورة الأعراف:43]: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبداً.
هذا الأثر عن السدي، ومثل هذا يكون له حكم المرسل؛ لأن مثله لا يقال من جهة الرأي، ثم إنه يتعلق بتفسير آية، إلا إذا قيل: إن هذا مما أخذ عن بني إسرائيل، والله أعلم.
قوله: هَدَانَا لِهَذَا من قوله - تبارك وتعالى - : وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ[سورة الأعراف:43] يحتمل أن يكون المعنى هدانا للجنة، ويشهد له الحديث الذي مضى آنفاً وهو قوله ﷺ: فوالذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلُّ منه بمسكنه في الدنيا، وهو أيضاً بعض ما يفسر به قول الله - تبارك وتعالى - : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4-5] أي: يهديهم إلى الصراط، ويهديهم على الصراط ويهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، كل ذلك حاصل لهم.
ويحتمل أن يكون المراد هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43] يعني هدانا في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح الذي تسبب في دخول الجنة وهذا النعيم المقيم الذي أدركوه فيها، وهما معنيان متلازمان، فلا حاجة للترجيح بينهما ، والله تعالى أعلم، وعلى هذا يقال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43] أي: هدانا لسببه وهو الإيمان والعمل الصالح، وهدانا أيضاً إلى هذا النعيم في الجنة، وهداهم إلى منازلهم فيها، وهذا الوجه من الجمع ذهب إليه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وهذا أحسن من الاقتصار على أحد هذين المعنيين والله تعالى أعلم؛ لوجود الملازمة بينهما، ومعلوم أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر وكان بينهما ملازمة فإنها تحمل عليهما إلا إذا وجد مانع يمنع من ذلك.
أي أن الباء للسببية في قوله: الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:43] وقد جعلها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا سبباً لنيل الرحمة التي بها تنال الجنة، ولا إشكال في ذلك كما يمكن أن يقال أيضاً: إنها سبب لدخول الجنة، لكن هذا السبب ليس مستقلاً، بمعنى أنه لا يكفي وحده لدخول الجنة للحديث المذكور، وعلى كل حال العمل سبب، ورحمة الله فوق ذلك، والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصاص يوم القيامة (6170) (ج 5 / ص 2394).
- أخرجه أحمد (10660) (ج 2 / ص 512) والحاكم (3629) (ج 2 / ص 473) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (4514).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب القصد والمداومة على العمل (6098) (ج 5 / ص 2373) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816) (ج 4 / ص 2169).