لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبَّه أن بين الجنة والنار حجاباً، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.
قال ابن جرير: وهو السور الذي قال الله تعالى فيه: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [سورة الحديد:13] وهو الأعراف.
تفسير السور في قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ [سورة الحديد:13] - أي: بين المؤمنين وبين المنافقين - بأنه الأعراف ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وذكره أيضاً كبير المفسرين ابن جرير وذكره طائفة من أهل العلم كابن القيم وكذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحم الله الجميع -، ويكون ذلك من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، ولكن في مثل هذا الموضع لا يجزم بأن هذا هو تفسيره فقد يكون كذلك وقد لا يكون، ومعلوم أن تفسير القرآن بالقرآن منه ما يلوح فيه وجه الارتباط كقوله - تبارك وتعالى - : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146] مع قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ [سورة النحل:118] فآية النحل هذه تفسرها آية الأنعام، وهكذا في مثل قوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] مع قوله: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة الشعراء:23-24] بهذا يفسر هذا اللفظ، لكن تفسير قوله: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [سورة الأعراف:46] بقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ [سورة الحديد:13] هذا احتمال قد يكون كذلك، وقد يكون السور الذي يضرب بين المؤمنين والمنافقين ليس هو الحجاب المذكور في سورة الأعراف، والعلم عند الله .
وقال مجاهد: الأعراف حجاب بين الجنة والنار، سور له باب.
قال ابن جرير: والأعراف جمع عُرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عُرفاً، وإنما قيل لعرف الديك عرفاً لارتفاعه، وقال السدي: إنما سمي الأعراف أعرافاً؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
ومن أهل العلم من وجهه مثل قول السدي: أي أن أصحابه يعرفون الناس باعتبار أنهم في مكان مشرف على أهل الجنة وأهل النار فيعرفون أهل الجنة بعلاماتهم كمواضع السجود التي لا تأكلها النار، ويعرفون أهل النار بعلاماتهم، ومن علاماتهم ما ذكره الله تعالى في قوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [سورة طـه:102] ويعرفونهم بالسواد كما قال : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [سورة آل عمران:106].
هذا القول هو المشهور في تفسير أصحاب الأعراف، وهو الذي عليه عامة السلف من الصحابة ومن بعدهم، ولم يرد تحديد ذلك في شيء ثابت عن رسول الله ﷺ ولم يتفق الصحابة على معنىً فيه، وإنما فيه أقوال متعددة، لكن هذا هو الأشهر، أي: أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا أحسن من أن يفسر أصحاب الأعراف بأنهم من الملائكة؛ لأنهم لو كانوا كذلك فإن السياق بعده لا يساعد على هذا، كما سيأتي في قوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46] يعني أصحاب الأعراف - على الراجح - وهذا لا يرد في الملائكة.
وكذلك القول بأنهم ناس من أفضل أهل الإيمان قد فرغ من حسابهم فتفرغوا للاطلاع على حال هؤلاء وهؤلاء – كما قال بعضهم - فهذا قول فيه بعد أيضاً؛ لقوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46] فأهل الإيمان السابقون لا يكونون بمثابة من يطمعون في دخول الجنة، وإنما يكون هذا في قوم يرجون دخولها لم تبلغ بهم أعمالهم أن تدخلهم الجنة.
ويبعد قول من قال أيضاً: إنهم الذين خرجوا للجهاد في سبيل الله وقتلوا في سبيله ممن لم يأذن لهم آباءهم فحبسوا عن الجنة لذلك، وكذلك قول من قال: إن هؤلاء أولاد الزنا وكذا قول من قال: إنهم أهل الفترة، فأهل الفترة ورد أنهم يمتحنون ولذلك لا يحكم على جميعهم أنهم لم يدخلوها وهم يطمعون، والمقصود أن أقرب هذه الأقوال - والله أعلم - أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم ترجح كفة السيئات فيدخلوا النار ولم ترجح كفة الحسنات فيدخلوا الجنة، فبقوا على الأعراف بسبب ذلك، والله أعلم.
وروى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف قال: فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلّفت بهم حسناتهم عن النار، قال: فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.
وأبعد الأقوال قول من قال: إن أصحاب الأعراف هم الأنبياء، فالأنبياء لا يقال في حقهم: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46].
والقول: إنهم العدول من كل أمة من الأمم - الشهداء يوم القيامة - الذين يشهدون على الناس هذا لا دليل عليه.
التمني هو أن يرجو المرء حصول شيء يستحيل وقوعه، أو يطلب حصول شيء يستحيل وقوعه أو يبعد في مجاري العادات كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً | فأخبره بما فعل المشيب |
ومن صور طلب المستحيل أن يتمنى الإنسان المفرّط المهمل أن يكون متفوقاً في دراسته ونتائج اختباره، فمثل هذا يسمى تمنياً.
أما الرجاء والطمع فهو الشيء قريب المنال، ولهذا قال الله : فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] وذلك أنها إذا خضعت بالكلام وتغنّجت وتكسرت مع الرجال الأجانب فإنهم يطمعون فيها، بمعنى أنّ أخْذها قريب وأنها سهلة التناول بتغنجها وتكسرها خلافاً للأخرى النزيهة الشريفة العفيفة فإنهم لا يطمعون فيها، ولذلك تقول: أطمعته فطمع أي أنك ترجّيه حتى تجعل ذلك الشيء قريب المنال بالنسبة إليه فيطمع في حصوله، فهؤلاء لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون بدخولها؛ لأن دخلوها أمر قريب بالنسبة إليهم، فهم في حال لم ييأسوا معها من دخول الجنة خلافاً لأهل النار ولذلك لا يكون ذلك تمنياً بالنسبة إليهم بل هو شيء قريب المنال، فهم من أهل الإيمان وعندهم من العمل الصالح ما يُطمعهم بدخول الجنة لكن عملهم السيئ هو الذي أقعدهم، والعبرة بما غلب؛ فالله يضع الموازين وتوزن أعمال الناس فمن غلبت حسناته نجا، وويل لمن غلبت آحاده عشراته فهذا هو الهالك.
وفي قوله تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [سورة الأعراف:46] بعض أهل العلم يفسر الطمع بالعلم، يعني وهم يعلمون، وهذا خلاف الظاهر المتبادر، والله أعلم.
والضمير في قوله: لَمْ يَدْخُلُوهَا [سورة الأعراف:46] هل يرجع إلى أصحاب الجنة أم إلى أصحاب الأعراف؟ بمعنى هل أصحاب الأعراف يقولون: إن أصحاب الجنة لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون وإنما دخلوها برحمة الله أم أن أصحاب الجنة هم الذين يقولون: إن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في ذلك؟
الثاني هو الأقرب، والله تعالى أعلم، يعني أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون بدخولها، وهذا المعنى هو الذي اختاره ابن القيم - رحمه الله - وهو الذي يدل عليه قول قتادة وقول الحسن – رحمهما الله - فقد قال الحسن: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم، وقال قتادة: قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع، وهذا يدل على أن الضمير يعود إلى أصحاب الأعراف، أي أن الله يصف حالهم في هذه الآية فيقول: إنهم ما دخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في دخولها.