"أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ من كلام أصحاب الأعراف خطابًا لأهل النار، والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة، وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين، ولا يعبأ بهم، فظهر خلاف ما قالوا."
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أهل الأعراف يخاطبون أهل النار أَهَؤُلَاءِ يقصدون أهل الجنة، يقول: لأن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين، ولا يعبأ بهم، فظهر خلاف ما قالوا.
أَهَؤُلَاءِ يعني أهل الجنة الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أيها الكفار أن الله لا يرحمهم، وهذا القول هو الذي اختاره جماعة من المفسرين، كالواحدي والحافظ ابن القيم كذلك من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي والشنقيطي والطاهر بن عاشور.
"وقيل: أولئك خطابًا لأهل النار، والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب الأعراف."
وقيل: هي من كلام الملائكة خطابًا لأهل النار أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ السياق هو في كلام أهل الأعراف، والأصل أن يكون الكلام لمتكلمٍ واحد إلا لدليل، يقول: وقيل هي من كلام الملائكة خطابًا لأهل النار، والأول أقرب - والله أعلم - أنه من كلام أصحاب الأعراف لأهل النار.
يقول: والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب الأعراف، هذا على القول بأن القائل هم الملائكة يخاطبون أهل النار، وليس القائل أصحاب الأعراف، يعني هذا على القول الثاني أَهَؤُلَاءِ يعني أصحاب الأعراف، وهذا القول مروي عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة أن القائل بذلك الملائكة يخاطبون أهل النار، والإشارة بقوله: أَهَؤُلَاءِ إلى أصحاب الأعراف الذين لم يدخلوا الجنة بعد، وقال به جماعة من المفسرين كمقاتل بن سليمان وهو قولٌ آخر للواحدي في كتابه "الوجيز".
والحافظ ابن القيم عدَّه قولاً قويًا تحتمله الآية لكنه رجَّح الأول، وقالوا تعليلاً لهذا القول: بأن أهل الأعراف حين قالوا لأهل النار ما سبق: وَنَادَى أصحاب الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [الأعراف: 48] فيقولون عيَّرهم أهل النار بتخلفهم عن دخول الجنة، فتقول الملائكة عندئذٍ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف: 49] لكن هذا لا دليل عليه، أن أهل النار يعيرونهم، ثم يأتي الرد من الملائكة؛ لأن الأصل أن الكلام لمتكلمٍ واحد، وعلى القول الثاني يكون هذا من الموصول لفظًا المفصول معنىً، يعني الكلام الأول لأصحاب الأعراف يخاطبون أهل النار: وَنَادَى أصحاب الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ [الأعراف: 48 - 49].
يكون قول: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ من كلام الملائكة على هذا القول، فيكون ظاهر الكلام الاتصال أنه لمتكلمٍ واحد، وهو منفصل من جهة المعنى إذ هو لمتكلمين، لقائلين، وهذا خلاف الأصل، والأقرب - والله أعلم - أنه من كلام أصحاب الأعراف يخاطبون أهل النار، وأن الإشارة بقوله: أَهَؤُلَاءِ إلى أهل الجنة، أدخلوا الجنة، تقديره قد قيل لهم.
"ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الأعراف: 49] خطابٌ لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف، تقديره: قد قيل لهم ادخلوا الجنة، وخطابٌ لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة."
الآن ادخلوا الجنة، أهل الجنة دخلوا الجنة، وكما هو ظاهر الآيات، وأهل النار دخلوا النار، فأهل الجنة ينادون أهل النار يخبرونهم أنهم قد، وجدوا ما، وعدهم ربهم حقا، ويقولون: هل، وجدتم ما، وعد ربكم حقا؟ قالوا: نعم، فظاهر هذا أن هؤلاء دخلوا الجنة، وهؤلاء دخلوا النار.
كذلك حينما ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله، دلَّ على أنهم قد لاقوا النعيم، ودخلوا الجنة، فهنا قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قد يُفهم منه أنهم لم يدخلوها بعد، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، وكأن هذا هو الذي حمل أصحاب القول الثاني على القول بأن قائل ما سبق هم الملائكة، يخاطبون أصحاب الأعراف الذين لم يدخلوها بعد، فيقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أما أهل الجنة فقد دخلوا، فكيف يقال لهم: ادخلوا الجنة، فهذا الذي حمل أصحاب القول الثاني على هذا القول، لما يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قالوا: إذا هذا خطاب لأهل الأعراف، وليس من كلام أهل الأعراف لأهل الجنة؛ لأن أهل الجنة دخلوا.
وأصحاب القول الأول قالوا: إن معنى قول الله : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يعني أنه من كلام أصحاب الأعراف، التقدير: قد قيل لهم ادخلوا الجنة، فكأنه إخبار عما قيل لهم بصيغة الأمر حكايةً لما سبق.
يقول: وخطابٌ لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة.
وبعضهم يقول: هو من كلام الله لأهل الجنة، هو من كلام الله، ادخلوا الجنة، هم دخلوها، فيكون هذا كالتطمين لنفوسهم، وتثبيت هذا الدخول، وإقرارهم على هذا النعيم، وهذا الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وقبله أبو جعفر ابن جرير أنه من كلام الله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يقول لهم: لأهل الجنة ادخلوا الجنة، باعتبار أنه إذا كان من كلام أصحاب الأعراف، أصحاب الأعراف هم الذين كان الكلام عنهم: وَنَادَى أصحاب الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الأعراف: 48 - 49] يعني هل يملك أصحاب الأعراف أن يقولوا لأهل الجنة: ادخلوا الجنة؟!
هم لا يملكون هذا، ولهذا قال هؤلاء أنه من كلام الله فيكون من الموصول لفظا المفصول معنى.
إذًا يحتمل أن يكون من كلام الملائكة، أو من كلام الله، أو من جملة كلام أصحاب الأعراف، ويكون ليس أمرًا لهم بالدخول، وإنما حكاية للدخول في صيغة الأمر - والله أعلم -.