الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍۭ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

 
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54].
يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام هي: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم .
واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان؟ أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس - ا - ؟، فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة ،آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل[1].


يقول – رحمه الله - : "فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع" وقوله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً [سورة الأعراف:163] أي: يوم ينقطعون عن الأعمال، وذلك يوم إجازتهم.
وعلى كل حال فالمشهور الذي دلت عليه الأدلة أن يوم السبت لم يقع فيه خلق، والله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان ابتداء الخلق يوم الأحد.
وبالنسبة لأهل الجاهلية فإنهم كانوا يسمون يوم الأحد "أول" ويعتبرونه أول أيام الأسبوع، ويوم الجمعة كانوا يسمونه "عروبة".
والحاصل أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، ويوم السبت لم يقع فيه خلق، وآخر الخلق كان يوم الجمعة، وآدم ﷺ خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة.
وهذا الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة فيه إشكالان: الأول: أنه جعل الخلق مبتدأً يوم السبت، وهذا خلاف الأدلة الأخرى.
والإشكال الثاني: أنه جعل أيام الأسبوع كلها أيام خلق، فذكر السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة فصار الخلق في سبعة أيام، أضف إلى ذلك أنه ذكر في خلْق هذه الأشياء - التربة والشجر والمكروه والنور والدواب - يومَ الخميس، وخلْق آدم في يوم الجمعة، والله أخبر أنه خلق الأرض في يومين وخلق السماوات في يومين وأنه بثَّ أو قدر فيها أقواتها في يومين فصار ما يتعلق بالأرض جميعاً من خلْق ودَحْوٍ في أربعة أيام، فهنا جعل الخلق في سبعة أيام وهو مخالف لقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة يونس:3].
وقد تكلم العلماء على هذا الحديث وقالوا: إنه غلط وليس عن رسول الله ﷺ وإنما هو مما رواه أبو هريرة عن بني إسرائيل، ورفْعه لا يصح إلى رسول الله ﷺ وقد قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في دروسه التي كانت في التفسير كلاماً جيداً يمكن الاستفادة منه.

قال الشنقيطي – رحمه الله تعالى - : والعلماء يقولون: إن هذه الأيام المراد بها أوقاتها؛ لأنه في ذلك الوقت لم يكن هنالك يوم؛ لأن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، وإن لم يكن هنالك شمس لا يعرف اليوم، إلا أن الله قبل أن يخلق الشمس والقمر يعلم زمن الأيام قبل وجود الشمس.
وهذه الأيام قد جاء في روايات كثيرة أن أولها الأحد وآخرها الجمعة، والقرآن بيّن أنه خلق الأرض في يومين، ثم خلق فيها الجبال والأقوات والأرزاق في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، فهي ستة أيام، ويوم السبت ليس منها، وما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن الله خلق التربة يوم السبت، وجعل في كل من أيام الأسبوع بعض الخلق وإن كان في صحيح مسلم فهو غَلَطٌ، غَلِط بعض الرواة في رفعه، والظاهر أنه أخذه أبو هريرة عن كعب الأحبار أو نحوه من الإسرائيليات؛ لأنه خلاف القرآن الصحيح أن السبت لم يكن من الأيام التي خُلق فيها شيء، وأن السماوات والأرض وما بينهما خلقت في ستة أيام من الأسبوع أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، خلق الله فيه آدم بعد صلاة العصر.
وهذه الأيام قال بعض العلماء إنها كأيام الدنيا، وقال بعضهم: اليوم منها هو المذكور في قوله: وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ [سورة الحـج:47] والله خلق السماوات والأرض وما بينها في ستة أيام - مع أنه قادر على أن يخلق الجميع في لحظة واحدة كلمح البصر - لحكمته .
قال بعض العلماء: أراد أن يعلّم خلقه التمهل في الأمور والتدرج فيها؛ ليقدروا عليها، وهو قادر على خلق ما يشاء في لحظة واحدة وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50] فهو يقول للشيء: كن فيكون، هذا معنى قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة الأعراف:54].
 قال الحافظ ابن كثير: وأما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [سورة الأعراف:54] فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11] بل الأمر كما قال الأئمة، منهم: نعيم بن حماد الخزاعي - شيخ البخاري - قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى.
وقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [سورة الأعراف:54] أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً أي: سريعاً لا يتأخر عنه.


في قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [سورة الأعراف:54] قراءة أخرى لعاصم وحمزة والكسائي بالتشديد يُغِّشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ.
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في معنى قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ: "أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا" أي يغشي الليل النهار ويغشي النهار الليل مع أنه ما ذكرت الآية إلا واحداً يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ [سورة الأعراف:54] ولذلك قال بعض أهل العلم: إنه ما ذكره من باب الاكتفاء، كما ذكرنا - مراراً - أنه قد يذكر أحد المتقابلين أو النظيرين اكتفاء به عن ذكر الآخر؛ لأنه يدل عليه، ولذلك فإن بعضهم يجعل من هذا قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [سورة المزمل:9] أي: والشمال والجنوب، وبعضهم يقول غير ذلك في هذا المثال، وكذلك هو الحال في قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] يعني وإن لم تنفع على أحد الأقوال في تفسير الآية، وكذلك قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:51] أي: والبرد.

بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وعكسه، كقوله: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ۝ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ۝ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ۝ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:37-40].
فقوله: وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ أي: لا يفوته بوقت يتأخر عنه بل هو في أثره بلا واسطة يبنهما، ولهذا قال: يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [سورة الأعراف:54] منهم من نَصَبَ ومنهم من رَفََع، وكلاهما قريب المعنى.


قوله: "منهم من نصَب ومنهم من رفعَ" يعني في الشمس والقمر والنجوم، فالرفع قراءة ابن عامر وهي قراءة متواترة والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ بأمره على أنها جملة اسمية من المبتدأ والخبر، يخبر الله عن تسخيرها.
وعلى قراءة النصب وهي قراءة البقية يكون ذلك عائداً على قوله: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [سورة الأعراف:54] يعني وخلق الشمس والقمر وخلق النجوم في حال كونها مسخرات.

منهم من نصب ومنهم من رفع، وكلاهما قريب المعنى، أي: الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته، ولهذا قال منبهاً: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [سورة الأعراف:54] أي: له الملك والتصرف.


يقول تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [سورة الأعراف:54] أي: هو الذي يخلق وهو الذي يحكم ويشرع ويأمر وينهى .
وقد فرَّق تعالى هنا بين الخلق والأمر وهذا مما استدل به أهل السنة على أن الأمر غير الخلق، وهو مما ردوا به على من قال بخلق القرآن، والله المستعان.

​​​​​​تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54] كقوله: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا الآية [سورة الفرقان:61].


تبارك بمعنى كثرت بركته واتسعت، وبعضهم يقول: تبارك أي: تعاظم.

وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء وروي مرفوعاً: "اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله"[2].
  1. كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب ابتداء الخلق وخلق آدم (2789) (ج 4 / ص 2149).
  2. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعاً عن أبي سعيد الخدري (4400) (ج 4 / ص 97) وقال الألباني: "موضوع" كما في ضعيف الترغيب والترهيب برقم (964).

مرات الإستماع: 0

"اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ حيث وقع حمله قومٌ على ظاهره، منهم ابن أبي زيدٍ، وغيره."

بمعنى علا، وارتفع، واستقر، هذا معنى الاستواء في اللغة، وبه فسره السلف .

"وتأوَّله قومٌ بمعنى (قصد) كقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ [البقرة: 29] ولو كان كذلك لقال: ثم استوى إلى العرش."

هذا لا حاجة بذكرهِ، قال: ولو كان كذلك لقال: ثم استوى إلى العرش، يعني كأنه يرد هذا القول، فتفسير الاستواء بالقصد، هذا فيه الاستواء على العرش، والتعبير بـ "على" لم يقل به أحدٌ من السلف، ولكن غاية ما هنالك أن بعض أهل السنة من العلماء فسَّر قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ بـ قصد؛ لأنه عُدِّي بـ "إلى" هذا قال به بعضهم ممن قال بهذا الحافظ ابن كثير[1] وقبله البغوي[2] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[3] في خصوص قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ بمعنى قَصَدَ، قالوا: لأنه عُدِّي بـ "إلى" هكذا قالوا.

وعامة أهل العلم لا يفسرونه بـ قصد، في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وإنما يفسرونه بـ "علا، وارتفع" ويقولون: لا يأتي الاستواء بمعنى القصد، وإنما هو دائما بمعنى العلو، والارتفاع.

وقد رد شيخ الإسلام - رحمه الله - تفسير الاستواء بالقصد في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وبين أنه بمعنى ارتفع[4] وهذا حكى عليه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - الإجماع[5] يعني الإجماع قبل قول هؤلاء كالبغوي، وابن كثير، قال: وهذا لا يصح من حيث اللغة، فكل المواضع التي ورد فيها الاستواء هي بمعنى العلو، والارتفاع، ونحو ذلك[6].

"وتأوله الأشعرية أن معنى استوى استولى بالملك، والقدرة."

هذا الكلام كان ينبغي ألا ينقل أصلاً؛ لأنه قولٌ باطل لا أصل له في اللغة، والقرآن يُفسَّر بلغة العرب، وقد يوجد مثل هذا، بل هو موجود في بعض كتب المتأخرين من أهل اللغة، كاللسان لسان العرب مثلاً، ولا عبرة بذلك؛ لأن هذه الكتب في اللغة دخلها من العلوم الكلامية كما دخل في علومٍ أخرى كأصول الفقه، وعلوم الحديث، وكذلك أيضًا علوم اللغة البلاغة، والنحو، ونحو ذلك، فهذا مما طرأ عليها بسبب العلوم الكلامية، لكن الكتب المتقدمة كتب أهل اللغة من المتقدمين لا يوجد فيها مثل هذا أن استوى بمعنى استولى، وعادةً يستدلون على هذا المعنى ببيتٍ لا عبرة به، وليس بحجة، وبعضهم يقول: مصنوع:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق[7].

وبعضهم يقول: أصل لفظ البيت ليس كذلك، وإنما استولى بشرٌ على العراق، وليس استوى، ثم كيف يُترك الصريح من كلام الله - عز، وجل - وتفسير ذلك بورود هذه اللفظة في سبعة مواضع في كتاب الله استواء على العرش مع النصوص الواردة في السنة، وكلام الصحابة خيار الأمة، ثم يُصَارُ إلى بيتٍ كهذا.

"والحق الإيمان به من غير تكييف، فإن السلامة في التسليم، ولله در مالك بن أنس الإمام في قوله للذي سأل عن ذلك: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عن هذا بدعة"[8].

وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة[9] وجعفر الصادق[10] والحسن البصري[11]."

وغير هؤلاء أيضًا، ورد هذا عن بعض أمهات المؤمنين[12].

"ولم يتكلم الصحابة، ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك: السؤال عنه بدعة."

الآن يقول: لم يتكلم الصحابة، هذا يفسر كلامه السابق قال: والحق الإيمان به من غير تكييف، فإن السلامة في التسليم، ثم ذكر قول الامام مالك، فهو يحمل قول الإمام مالك هنا على التفويض، وكما سبق بأن عبارات المؤلف - رحمه الله - في مواضع من هذا الكتاب ترجع إلى معنى التفويض، فظن ذلك بعض من تكلم في عقيدة المؤلف بأنه كان على عقيدة السلف، يظنون أن هذا هو اعتقاد السلف، فعامة من تكلم على عقيدة المؤلف، بل كل من وقفت عليه ممن تكلم على عقيدة المؤلف في كتب، ورسائل جامعية يقولون: بأنه كان على عقيدة السلف، وهذا غير صحيح، وهنا يريد التفويض لأنه يقول هنا: ولم يتكلم الصحابة، ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه، وهذا غير صحيح، فهذا من قبيل التفويض، تفويض معنى الاستواء.

وقد قال أبو عمر الطلمنكي - رحمه الله -: "أجمع المسلمون من أهل السنة" أبو عمر - رحمه الله - كان من المصنفين في السنة، السنة يقصدون بها الاعتقاد مثل: "أصول السنة" للالكائي، وكذلك أيضًا الكتب التي تكون بهذا العنوان، أو قريب منه.

يقول: "أجمع المسلمون من أهل السنة أن الله استوى على عرشه بذاته"[13] ما قال: الإجماع، استوى بذاته، وهذا واضح، وصريح، لا يُفوَّض معنى الاستواء؛ لأن التفويض يعني أنه لا يُدرَى ما معناه، هل هو بمعنى استولى؟ أو بمعنى علا، وارتفع، أم ماذا؟

وكذلك حكى الإجماع الدارمي[14] وغيره، على أن الله مستوٍ على عرشه بدون تأويل، يعني على ظاهره.

وقال الإمام الأوزاعي - رحمه الله -: "كنا، والتابعون متوافرون نقول: إن الله فوق عرشهِ، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته"[15] الاستواء بمعنى العلو الارتفاع، علا، وارتفع، واستقر، فإذا قال: نؤمن بأن الله فوق عرشه تابعون متوافرون كانوا يقولون هذا، بأن الله فوق عرشه، إذا كان فوق عرشه معنى ذلك أنه استوى أي علا، وارتفع فوق عرشه، هذا اعتقاد أهل السنة، والجماعة، وليس التفويض.

ولهذا يقول المتكلمون: بأن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم، وأحكم، يقصدون أسلم يعتقدون أن السلف فوضوا المعنى، فيقولون: هذا أسلم من الخوض في التأويل، وتحديد معنى بعينه، فيكون ذلك عرضة للصواب، والخطأ، ويحتمل أنهم أرادوا بهذه العبارة مذهب السلف يقصدون سلف المتكلمين؛ لأن المتقدمين منهم يغلب عليهم التفويض.

وعلى كل حال مذهب سلف الأمة أسلم، وأعلم، وأحكم بلا شك، هم أوفر علما، وأسلم فطرة، وأحسن قصدًا.

"يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ أي: يلحق الليل بالنهار، أو يلحق النهار بالليل، يحتمل الوجهين، هكذا قال الزمخشري[16]."

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ أي: يلحق الليل بالنهار، أو العكس، يعني يغطي بظلمة الليل ضوء النهار، ويغطي بضوء النهار ظلمة الليل، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا سريعًا يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: 61] يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5].

"وأصل اللفظة من الغشاء أي يجعل أحدهما غشاءً للآخر، يغطيه، فتغطي ظلمة الليل نور النهار."

أصل المادة غشي يدل على تغطية شيء بشيء.

"يَطْلُبُهُ حَثِيثًا أي: سريعًا، والجملة في موضع الحال من الليل، أي: يطلب النهار، فيدركه."

قوله هنا: والجملة في موضع الحال أي: من فاعل يطلبه، وهو ضميرٌ مستتر فيه يعني حاثًا، يطلبه حثيثا، يعني يطلبه حاثًا، أو من مفعوله يعني حال من المفعول الهاء أي محثوثًا، يطلبه، يطلب هو إذا كان من الفاعل، ضمير مستتر، يعني يطلبه حاثًا في طلبه، أو من المفعول الهاء يطلبه، الهاء هذه في محل نصب مفعول به.

يقول: أي حثيثًا، فيكون هذا بأي اعتبار؟ يطلبه إذا كان حالاً من المفعول الهاء أي: محثوثًا.

ويحتمل أنه نعت لمصدر محذوف أي: طلبًا حثيثًا، يطلبه حثيثا، المصدر طلبًا، طلبًا حثيثًا.

"لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ: قيل الخلق المخلوقات، والأمر مصدر أمر يأمر، وقيل: الخلق مصدر خلق، والأمر واحد الأمور كقوله: إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] والكل صحيح."

يقول: الخلق المخلوقات، الخلق مصدر، يأتي بمعنى المصدر: يعني الخلق الذي هو تخليق، ويأتي بمعنى المفعول: الخلق يقال للمخلوق، يقال: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: 11] يعني هؤلاء الناس خلق الله، هذه الأرض خلق الله، ونحو ذلك، بمعنى المخلوق أَلَا لَهُ الْخَلْقُ [الأعراف: 54] فيحتمل أن يكون هنا الخلق بمعنى المخلوقات يعني بمعنى المفعول مصدر بمعنى المفعول.

الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يقول: والأمر مصدر أمر يأمر، يعني أن الأمر، والنهي لله هو الذي يُشرِّع، وهو الذي يأمر، وهو الذي يكون أمره بنوعيه الأمر الكوني، والأمر الشرعي، كل ذلك لله .

وقيل: الخلق مصدر خلق يعني بالمعنى المصدري، ألا له الخلق، أي التخليق، هذا لا يكون إلا لله .

والأمر، واحد الأمور كقوله: إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53].

أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تقول ما الأمر؟ ما أمر فلان؟ تقول: هناك أمور، ليس المقصود به الأمر الذي يقابل النهي، طلب الفعل، وإنما يأتي الأمر بمعنى آخر، يجمع على الأمور.

المعنى الأول الأمر الذي هو طلب الفعل يجمع على أوامر، يقول: والكل صحيح.

وهو كما قال - والله أعلم -.

فيكون له وحده - سبحانه، وتعالى - صفة الخلق، فهو الذي أوجد جميع المخلوقات، الخلق بمعنى المصدر، وهو الذي يملكها، فهذه المخلوقات الموجودة هي لله له الخلق، يتصرف فيها، وله وحده الأمر، فيأمر خلقه بما يشاء من أوامر شرعية، وكونية، كل هذا لله - - وتقدست أسماؤه - واضح؟ فيجمع بين هذه المعاني.

"تبارك من البركة، وهو فعلٌ غير متصرفٍ، لم تنطق له العرب بمضارع."

تبارك من البركة، يعني تعاظم، وتعالى، وكثر خيره، وعمَّ إحسانه، فالبركة الزيادة، والنماء، والكثرة، والاتساع كما سبق، من البركة، يقول: وهو فعلٌ غير متصرف، تبارك ماضي، يتبارك، تباركًا، هو غير متصرف، يقول: لم تنطق له العرب بمضارع، يعني ما يقال: يتبارك، يستعمل الناس العامة الآن يقولون: تباركت علينا يا فلان، فهذه من حيث المعنى غير صحيحة من حيث المعنى؛ لأن البركة من الله، وهكذا قول كثيرين في عبارات دارجة يقولون: أبارك لك هذا العمل، أبارك لكم هذا المشروع، إنما الذي يُوجِد البركة هو الله، ولست أنت، فما يصح أن تقول: أبارك لك، أنت لا تبارك، الله هو الذي يبارك، وإنما تدعو بالبركة، وتقول: أسأل الله أن يبارك لك، ما تقول: أبارك لك، أنا لا أبارك لأحد؛ وإنما أسأل له البركة، فالذي يبارك هو الله يفرق بين تبارك، وبارك، بارك يبارك مباركةً - والله أعلم -. 

  1.  تفسير ابن كثير (1/213).
  2.  تفسير البغوي (1/78).
  3.  تفسير السعدي (ص: 48).
  4.  انظر: مجموع الفتاوى (5/519).
  5. مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية، والمعطلة (ص: 372).
  6.  انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (2/159) ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية، والمعطلة (ص: 386).
  7.  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 40) والعرش للذهبي (1/197).
  8.  شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والجماعة (3/441) برقم (664).
  9.  انظر: إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص: 79).
  10. - لم أقف عليه.
  11.  العرش للذهبي (1/192).
  12.  انظر: العرش للذهبي (2/178) وأقاويل الثقات في تأويل الأسماء، والصفات، والآيات المحكمات، والمشتبهات (ص: 120).
  13.  انظر: مجموع الفتاوى (5/519).
  14.  انظر: العلو للعلي الغفار (ص: 194).
  15.  العرش للذهبي (1/212).
  16.  تفسير الزمخشري (2/109).