أرشد - تبارك وتعالى - عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً قيل: معناه تذللاً واستكانة، وَخُفْيَةً كقوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ الآية [سورة الأعراف:205].
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله ﷺ: أيها الناس ارْبَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إن الذي تدعون سميعاً قريباً الحديث[1] وقال ابن جرير: تَضَرُّعًا تذللاً واستكانة لطاعته وَخُفْيَةً يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهراً مراءاة.
الدعاء ينقسم إلى دعاء مسألة وإلى دعاء عبادة، وبين النوعين ملازمة لا تخفى، وكثير من المواضع في القرآن محمولة على النوعين، على خلاف بين أهل العلم في تفاصيل تلك الأمثلة، فالله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] أي: أنه يجيب السائلين فيعطيهم سؤلهم، وهذا هو دعاء المسألة، ويثيب العابدين على عابدتهم وهذا هو دعاء العبادة.
ولا شك أن العابد سائل بفعله، فهو حينما يصلي فإنما يطلب بهذه الصلاة ثواب الله - تبارك وتعالى - فهو سائل بهذا الفعل، وهكذا أيضاً الذاكر، وقد جاء عن النبي ﷺ: إن أفضل الدعاء الحمد لله وهو بإسناد حسن[2] فمن أهل العلم من حمله على هذا المعنى باعتبار أن المُثني على الله - تبارك وتعالى - الحامد له إنما يفعل ذلك طلباً لما عنده، وبعضهم يقول غير هذا.
وقوله تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] يمكن أن يحمل على النوعين، وإن كان المتبادر أن المراد به دعاء المسألة، لكن دعاء العبادة ملازم لدعاء المسألة.
فقوله: ادْعُواْ رَبَّكُمْ يعني لا تدعوا غيره، وعلى معنى العبادة لا تعبدوا غير الله وكونوا متذللين بعبادتكم له بحيث لا يكون الإنسان حينما يعبد ربه - تبارك وتعالى - كالمانِّ على الله فالله غني عنه وعن عبادته، وهكذا أيضاً يخفي عمله الصالح فذلك أدعى للإخلاص، والمقصود أن هذا المعنى تحتمله الآية – أي دعاء العبادة - وإن كان المتبادر فيها هو دعاء المسألة، ومثل ابن القيم - رحمه الله - فإنه يحمل هذه الآية بخصوصها على النوعين.
والحاصل أنه في دعاء المسألة ينبغي على المسلم أن يدعو وهو في حال من التذلل ولا يدعو بشيء من العلو والترفع أو يدعو بأسلوب لا يليق ولا يتأدب فيه مع الله كالذي يرفع صوته رفعاً لا يليق، أو يتخير من العبارات ما لا يتناسب مع مقام المعبود ، بل عليهم أن يدعوا ربهم ضارعين أي متذللين مخفين لهذا الدعاء، وذلك أدعى للإخلاص.
والعلماء -رحمهم الله- ذكروا فوائد كثيرة جداً لإخفاء الدعاء، والله يعلم السر وأخفى ولا حاجة لرفع الصوت عند دعائه، فهذه عبادة وهي حاجة يرفعها العبد إلى مولاه الذي يعلم حاله ونجواه، فلا حاجة إلى إبداء ذلك للناس، فإن مقتضى الإخلاص أن يخفيه، ومن شاء فلينظر في بدائع الفوائد، فقد أطال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في فوائد إخفاء الدعاء.
إي أن قوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55] يدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولاً أولياً؛ لأنه ذكر معه، فقوله: إِنَّهُ مشعر بالتعليل، أي لأنه لا يحب المعتدين، لكنه لم يخصص الدعاء، فيدخل فيه غير الدعاء أيضاً، فهو لا يحب المعتدين مطلقاً، الذين يجاوزون حدوده.
وروى الإمام أحمد عن أبي نعامة أن عبد الله بن المغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور[3] وهكذا رواه ابن ماجه وأخرجه أبو داود، وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.
الاعتداء في الدعاء يقع على صور وأنواع، فمن سأل ما يمتنع عقلاً فهو معتدٍ، كأن يسأل أن يجعله الله في مكانين في وقت واحد، فهذا ممتنع عقلاً، وكذلك من سأل ما يمتنع شرعاً بحيث إن الشارع حكم بامتناعه كالذي يدعو للكافر الذي مات على الكفر بالمغفرة والرحمة، فهذا من الاعتداء في الدعاء، وكذلك من سأل ما يمتنع عادة، كالذي يسأل الولد من غير نكاح، فهذا ممتنع في مجاري العادات، وكذلك أيضاً من سأل شيئاً محرماً فيدعو أن ييسر الله له ذلك الحرام، فهذا لا يجوز وهو من الاعتداء، وهكذا أيضاً من رفع صوته رفعاً زائداً في الدعاء فهذا من الاعتداء لا سيما أن الله قال بعده: تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] لكن إذا كان ذلك في محضر غيره ممن يؤمِّنون على دعائه فيرفع رفعاً يتأدب فيه، وأما رفع الصوت الزائد فهذا خلاف الأدب مع الله - تبارك وتعالى -.
ومن الاعتداء رفع الصوت بالبكاء أثناء الدعاء بحيث يتحول ذلك إلى مناحة، فهذا من سوء الأدب مع الله - تبارك وتعالى -.
ومن الاعتداء سؤال التفاصيل، وإنما الذي ينبغي على الداعي أن يدعو بجوامع الكلم ويترك التفاصيل كهذا الذي سأل ربه قصراً أبيض عن يمين الجنة، فهذا من الاعتداء.
ومن الاعتداء تحويل الدعاء إلى موعظة كما يفعل كثير من الناس فبدلاً من أن يقول الداعي: رب إني أسأل كذا يتحول إلى ذكر القبور واللحود، وإذا سالت العيون، وذكر الجنادل والدود والصديد، وهذا في غاية القبح؛ فالدعاء ليس موعظة تُستجلب بها عواطف الناس وتستثار فيها نفوسهم ليبكوا منها، فهذا غير صحيح، فعلى الإنسان أن يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ويصلي على النبي ﷺ ويدعو بجوامع الكلم ولا يحوّل الدعاء إلى موعظة.
ومن الاعتداء ما يفعله بعض الناس حيث يأتون بالأسماء الحسنى المذكورة في بعض الأحاديث كما عند الترمذي والحاكم والتي لا تصح أسانيدها - أعني التسعة والتسعين - ثم يتكلف لكل اسم دعاء وتتحول القضية إلى فرجة للاستماع بعد أن امتلأ المسجد بالمصلين بل إن المساجد الأخرى تنتهي فيها الصلاة فيأتي المصلون ليسمعوا هذا الدعاء وتمتلئ الشوارع بالناس لأجل هذا كما يحصل في بعض البلاد، والله المستعان.
ومن ذلك التطويل الزائد، حتى إن مدة الصلاة تكون نصف ساعة ودعاء القنوت يستمر ساعة، وهذا غير صحيح.
وقد سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عمَّا إذا زاد عما ورد في حديث الحسن: اللهم اهدنا فيمن هديت[4] فقال: اقطع صلاتك، فكيف لو رأى الدعاء الذي يستمر إلى ساعة إلا ربعاً أو ساعة؟
وبعض الأئمة يضعون وريقات صغيرة في كف اليد بحيث لا يراها الناس فيقلبها ويدعو بما كتب فيها لمدة ساعة كاملة، وهذا لا يليق!
وقد اشترطت مرة على أحدهم - أراد أن يلقي كلمة - أن لا يطيل في الدعاء، فأطال إطالة زائدة وكنت قد صليت خلفه فرفعت رأسي وجلست أنظر إليه وإذا به يقلب أوراقاً صغيرة بيده يقرأ منها هذا الدعاء الطويل مدة ساعة إلا ربعاً تقريباً!
وآخر صلى بجانبي وكان يبكي بكاء شديداً ورفع صوته بالبكاء إلى درجة قبيحة، حتى خشيت أن أخرج بمقت الله ثم قطع صلاته وخرج من المسجد، أهذه صلاة وهذا دعاء؟!
هذا مما لا يليق، ولكنْ كثير من الناس تحكمهم عواطفهم لا الشرع، ولا يُعملون عقولهم ولو أعملوا عقولهم لما رضوا بمثل هذا.
على كل حال صور الاعتداء في الدعاء متنوعة يدخل فيها ما ذكرت وغير ما ذكرت، والله المستعان.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي- باب غزوة خيبر (3968) (ج 4 / ص 1541) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) (ج 4 / ص 2076).
- أخرجه الحاكم (1834) (ج 1 / ص 676) والبيهقي في شعب الإيمان (4371)(ج 4 / ص 90) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1104).
- أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب الإسراف في الوضوء (96) (ج 1 / ص 36) وابن ماجه في كتاب الدعاء - باب كراهية الاعتداء في الدعاء (3864) (ج 2 / ص 1271) وأحمد (1483) (ج 1 / ص 172) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2396).
- أخرجه الطبراني في الكبير (2701) (ج 3 / ص 73) وأبو يعلى في مسنده (6759) (ج 12 / ص 127) والبيهقي في السنن الكبرى (3266) (ج 2 / ص 210) وصححه الألباني في الإرواء برقم (429).