الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
ٱدْعُوا۟ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:55-56].
أرشد - تبارك وتعالى - عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً قيل: معناه تذللاً واستكانة، وَخُفْيَةً كقوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ الآية [سورة الأعراف:205].
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله ﷺ: أيها الناس ارْبَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إن الذي تدعون سميعاً قريباً الحديث[1] وقال ابن جرير: تَضَرُّعًا تذللاً واستكانة لطاعته وَخُفْيَةً يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهراً مراءاة.

الدعاء ينقسم إلى دعاء مسألة وإلى دعاء عبادة، وبين النوعين ملازمة لا تخفى، وكثير من المواضع في القرآن محمولة على النوعين، على خلاف بين أهل العلم في تفاصيل تلك الأمثلة، فالله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] أي: أنه يجيب السائلين فيعطيهم سؤلهم، وهذا هو دعاء المسألة، ويثيب العابدين على عابدتهم وهذا هو دعاء العبادة.
ولا شك أن العابد سائل بفعله، فهو حينما يصلي فإنما يطلب بهذه الصلاة ثواب الله - تبارك وتعالى - فهو سائل بهذا الفعل، وهكذا أيضاً الذاكر، وقد جاء عن النبي ﷺ: إن أفضل الدعاء الحمد لله وهو بإسناد حسن[2] فمن أهل العلم من حمله على هذا المعنى باعتبار أن المُثني على الله - تبارك وتعالى - الحامد له إنما يفعل ذلك طلباً لما عنده، وبعضهم يقول غير هذا.
وقوله تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] يمكن أن يحمل على النوعين، وإن كان المتبادر أن المراد به دعاء المسألة، لكن دعاء العبادة ملازم لدعاء المسألة.
فقوله: ادْعُواْ رَبَّكُمْ يعني لا تدعوا غيره، وعلى معنى العبادة لا تعبدوا غير الله وكونوا متذللين بعبادتكم له بحيث لا يكون الإنسان حينما يعبد ربه - تبارك وتعالى - كالمانِّ على الله فالله غني عنه وعن عبادته، وهكذا أيضاً يخفي عمله الصالح فذلك أدعى للإخلاص، والمقصود أن هذا المعنى تحتمله الآية – أي دعاء العبادة - وإن كان المتبادر فيها هو دعاء المسألة، ومثل ابن القيم - رحمه الله - فإنه يحمل هذه الآية بخصوصها على النوعين.
والحاصل أنه في دعاء المسألة ينبغي على المسلم أن يدعو وهو في حال من التذلل ولا يدعو بشيء من العلو والترفع أو يدعو بأسلوب لا يليق ولا يتأدب فيه مع الله كالذي يرفع صوته رفعاً لا يليق، أو يتخير من العبارات ما لا يتناسب مع مقام المعبود  ، بل عليهم أن يدعوا ربهم ضارعين أي متذللين مخفين لهذا الدعاء، وذلك أدعى للإخلاص.
والعلماء -رحمهم الله- ذكروا فوائد كثيرة جداً لإخفاء الدعاء، والله يعلم السر وأخفى ولا حاجة لرفع الصوت عند دعائه، فهذه عبادة وهي حاجة يرفعها العبد إلى مولاه الذي يعلم حاله ونجواه، فلا حاجة إلى إبداء ذلك للناس، فإن مقتضى الإخلاص أن يخفيه، ومن شاء فلينظر في بدائع الفوائد، فقد أطال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في فوائد إخفاء الدعاء.
ثم روي عن عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55] في الدعاء ولا في غيره.

إي أن قوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55] يدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولاً أولياً؛ لأنه ذكر معه، فقوله: إِنَّهُ مشعر بالتعليل، أي لأنه لا يحب المعتدين، لكنه لم يخصص الدعاء، فيدخل فيه غير الدعاء أيضاً، فهو لا يحب المعتدين مطلقاً، الذين يجاوزون حدوده.
وقال أبو مجلز: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة الأعراف:55]: لا يسأل منازل الأنبياء.
وروى الإمام أحمد عن أبي نعامة أن عبد الله بن المغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور[3] وهكذا رواه ابن ماجه وأخرجه أبو داود، وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.

الاعتداء في الدعاء يقع على صور وأنواع، فمن سأل ما يمتنع عقلاً فهو معتدٍ، كأن يسأل أن يجعله الله  في مكانين في وقت واحد، فهذا ممتنع عقلاً، وكذلك من سأل ما يمتنع شرعاً بحيث إن الشارع حكم بامتناعه كالذي يدعو للكافر الذي مات على الكفر بالمغفرة والرحمة، فهذا من الاعتداء في الدعاء، وكذلك من سأل ما يمتنع عادة، كالذي يسأل الولد من غير نكاح، فهذا ممتنع في مجاري العادات، وكذلك أيضاً من سأل شيئاً محرماً فيدعو أن ييسر الله له ذلك الحرام، فهذا لا يجوز وهو من الاعتداء، وهكذا أيضاً من رفع صوته رفعاً زائداً في الدعاء فهذا من الاعتداء لا سيما أن الله قال بعده: تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] لكن إذا كان ذلك في محضر غيره ممن يؤمِّنون على دعائه فيرفع رفعاً يتأدب فيه، وأما رفع الصوت الزائد فهذا خلاف الأدب مع الله - تبارك وتعالى -.
ومن الاعتداء رفع الصوت بالبكاء أثناء الدعاء بحيث يتحول ذلك إلى مناحة، فهذا من سوء الأدب مع الله - تبارك وتعالى -.
ومن الاعتداء سؤال التفاصيل، وإنما الذي ينبغي على الداعي أن يدعو بجوامع الكلم ويترك التفاصيل كهذا الذي سأل ربه قصراً أبيض عن يمين الجنة، فهذا من الاعتداء.
ومن الاعتداء تحويل الدعاء إلى موعظة كما يفعل كثير من الناس فبدلاً من أن يقول الداعي: رب إني أسأل كذا يتحول إلى ذكر القبور واللحود، وإذا سالت العيون، وذكر الجنادل والدود والصديد، وهذا في غاية القبح؛ فالدعاء ليس موعظة تُستجلب بها عواطف الناس وتستثار فيها نفوسهم ليبكوا منها، فهذا غير صحيح، فعلى الإنسان أن يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ويصلي على النبي ﷺ ويدعو بجوامع الكلم ولا يحوّل الدعاء إلى موعظة.
ومن الاعتداء ما يفعله بعض الناس حيث يأتون بالأسماء الحسنى المذكورة في بعض الأحاديث كما عند الترمذي والحاكم والتي لا تصح أسانيدها - أعني التسعة والتسعين - ثم يتكلف لكل اسم دعاء وتتحول القضية إلى فرجة للاستماع بعد أن امتلأ المسجد بالمصلين بل إن المساجد الأخرى تنتهي فيها الصلاة فيأتي المصلون ليسمعوا هذا الدعاء وتمتلئ الشوارع بالناس لأجل هذا كما يحصل في بعض البلاد، والله المستعان.
ومن ذلك التطويل الزائد، حتى إن مدة الصلاة تكون نصف ساعة ودعاء القنوت يستمر ساعة، وهذا غير صحيح.
وقد سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عمَّا إذا زاد عما ورد في حديث الحسن: اللهم اهدنا فيمن هديت[4] فقال: اقطع صلاتك، فكيف لو رأى الدعاء الذي يستمر إلى ساعة إلا ربعاً أو ساعة؟
وبعض الأئمة يضعون وريقات صغيرة في كف اليد بحيث لا يراها الناس فيقلبها ويدعو بما كتب فيها لمدة ساعة كاملة، وهذا لا يليق!
وقد اشترطت مرة على أحدهم - أراد أن يلقي كلمة - أن لا يطيل في الدعاء، فأطال إطالة زائدة وكنت قد صليت خلفه فرفعت رأسي وجلست أنظر إليه وإذا به يقلب أوراقاً صغيرة بيده يقرأ منها هذا الدعاء الطويل مدة ساعة إلا ربعاً تقريباً!
وآخر صلى بجانبي وكان يبكي بكاء شديداً ورفع صوته بالبكاء إلى درجة قبيحة، حتى خشيت أن أخرج بمقت الله   ثم قطع صلاته وخرج من المسجد، أهذه صلاة وهذا دعاء؟!
هذا مما لا يليق، ولكنْ كثير من الناس تحكمهم عواطفهم لا الشرع، ولا يُعملون عقولهم ولو أعملوا عقولهم لما رضوا بمثل هذا.
على كل حال صور الاعتداء في الدعاء متنوعة يدخل فيها ما ذكرت وغير ما ذكرت، والله المستعان.
  1. أخرجه البخاري في كتاب المغازي-  باب غزوة خيبر (3968) (ج 4 / ص 1541) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) (ج 4 / ص 2076).
  2. أخرجه الحاكم (1834) (ج 1 / ص 676) والبيهقي في شعب الإيمان (4371)(ج 4 / ص 90) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1104).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب الإسراف في الوضوء (96) (ج 1 / ص 36) وابن ماجه في كتاب الدعاء - باب كراهية الاعتداء في الدعاء (3864) (ج 2 / ص 1271) وأحمد (1483) (ج 1 / ص 172) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2396).
  4.  أخرجه الطبراني في الكبير (2701) (ج 3 / ص 73) وأبو يعلى في مسنده (6759) (ج 12 / ص 127) والبيهقي في السنن الكبرى (3266) (ج 2 / ص 210) وصححه الألباني في الإرواء برقم (429).

مرات الإستماع: 0

"تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] مصدرٌ في موضع الحال، وكذلك خوفًا، وطمعًا."

تَضَرُّعًا يعني تذللاً، واستكانة، بطاعته، فالضراعة تدل على الضعف، والذل، يقول: تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً مصدر في موضع الحال، وكذلك خوفًا، وطمعًا، يعني ادعوه حال كونكم ضارعين متذللين مخفين للدعاء.

"وَخُفْيَةً من الإخفاء، وقرئ خِيفة من الخوف."

خُفية يعني سرًا، وليس جهرًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الأعراف: 205]

وقال الله عن زكريا : إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم: 3]

فالخفية من الإخفاء، وخُفية، وهذه قراءة الجمهور، يقول: وقرئ خِيفة، من الخوف، في رواية أبي بكر عن عاصم، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخِفْيَةً).

"الْمُعْتَدِينَ: المجاوزين للحد، وقيل هنا: هو رفع الصوت بالدعاء، والتشطط فيه."

هنا جاء الإطلاق بأن الله - تبارك، وتعالى - لا يحب المعتدين، هو في سياق الكلام في الدعاء فيكون ذلك باعتبار السياق بمجاوزة الحد في الدعاء، ولكن الإطلاق فيه: لا يحب المعتدين، يدل على العموم، يعني في الدعاء، وغيره كما جاء عن ابن عباس - ا -[1] يعني لا يحب المعتدين مطلقًا، كما ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله -[2] والحافظ ابن القيم[3].

وسمع عبد الله بن مُغفِّل ابنًا له يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض من الجنة إذا دخلتها عن يميني، فقال له: يا بني سل الله الجنة، وتعوذه من النار، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: سيكون من بعدي قومٌ يعتدون في الدعاء، والطهور[4].

فهذا من الاعتداء في الدعاء، يعني ذكر تفاصيل في الدعاء لا حاجة إليها، والاعتداء في الدعاء له صور كثيرة جدًا، والآية تشمل الاعتداء في الدعاء، والاعتداء في غيره.

من الاعتداء في الدعاء مثلاً: أن يسأل شيئًا يمتنع قَدَرًا، وكونًا، أو يمتنع شرعًا، فلو أنه سأل مثلاً: أن يدخل الكفار الجنة، مثلاً، أو أن يخلِّد مؤمنًا في النار، هذا اعتداء.

"وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا جمع الله الخوف، والطمع؛ ليكون العبد خائفًا راجيًا، كما قال الله تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء: 57]."

الدعاء هنا: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف: 56] يشمل النوعين:

ادعوه: دعاء المسألة، يعني اسألوه خوفًا، وطمعًا، حال كونكم خائفين، وطامعين.

وكذلك دعاء العبادة، ادعوه يعني اعبدوه خوفًا، وطمعًا.

فالدعاء يأتي بمعنى هذا، وهذا.

"فإن موجب الخوفِ معرفة سطوات الله، وشدة عقابه."

يعني حينما يأمر الله بالخوف، الخوف يقع في قلب الإنسان من غير إرادته، يعني يتسلل الخوف إلى قلبه من غير إرادة، فمثل هذا كيف يؤمر به، وليس بمقدور العبد؟ والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وقد ذكرت في بعض المناسبات قاعدة، وهي:

"أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف في شيءٍ غير مقدور له فإنه ينصرف إما إلى سببه، أو إلى أثره".

ومثَّلت بأثره بانصرافه إلى أثره بقوله: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2].

الرأفة تقع في القلب من غير إرادة، فينصرف إلى الأثر، بتخفيف الحد، أو تقليله، أو إلغائه، رأفةً بهذا المحدود.

وأما انصراف ذلك إلى السبب الموجب لهذا الشيء فمثل هذا الموضع، حينما يأمر الله بالخوف، أو بأن يُدعى، أو يُعبد، أو يُسأل خوفًا في حال الخوف، فقد يسأل إنسان، ويريد أن يكون بهذه الصفة، أو الحال، ولا يستطيع، فيتوجه ذلك إلى السبب، يعني تحصيل ما يوجب الخوف، هذا الذي يذكره هنا، فإن موجب الخوف معرفة سطوات الله، وشدة عقابه، يعني إذا عرف أن الله شديد العقاب، وأنه قادرٌ على أخذه، ونحو ذلك خاف.

"وموجب الرجاء معرفة رحمة الله، وعظيم ثوابه."

هو هذا، يعني هذا السبب الجالب له.

"قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49 - 50] ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه، ولذلك جاء في الحديث: لو وُزِنَ خوف المؤمن، ورجاؤه لاعتدلا[5]."

هذا الحديث لا أصل له، ليس بحديث أصلاً، بعضهم قال: هو من كلام ثابت البناني - رحمه الله -.

وبعضهم قال: بأنه من كلام مُطرِّف بن عبد الله بن الشَّخير، فهو ليس من كلام النبي ﷺ فلا أصل له.

"إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات، وترك السيئات، وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت؛ لقوله ﷺ: لا يموتن أحدكم إلا، وهو يحسن الظن بالله تعالى[6]."

ذكرت الكلام مفصلاً عن الخوف، والرجاء، وكلام أهل العلم فيهما في الكلام على الأعمال القلبية، فمنهم من يقول في حال السلامة، والعافية، والصحة يُغلِّب جانب الخوف، وعند الموت، والاحتضار يغلب جانب الرجاء لهذا الحديث: لا يموتن أحدكم إلا، وهو يحسن الظن بربه تعالى.فهذا قولٌ لطائفةٍ كبيرة من أهل العلم، وبعضهم قال: لابد من استوائهما؛ لأن الله لم يُفصِّل، أمر بهذا، وهذا، وأثنى على من حقق الوصفين، فهما كالجناحين للطائر لا يطير إلا بهما، فلابد من الاعتدال بين الخوفِ، والرجاء.

"واعلم أن الخوف على ثلاث درجات:

الأولى: أن يكون ضعيفًا يخطر على القلب، ولا يؤثر في الباطن، ولا في الظاهر، فوجود هذا كالعدم."

هذا حال كثير من الخلق.

"والثانية: أن يكون قويًا فيوقظ العبد من الغفلة، ويحمله على الاستقامة."

وهذا هو المطلوب.

والثالثة: أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط، واليأس، وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها."

صحيح.

"والناس في الخوف على ثلاث مقامات:

فخوف العامة من الذنوب.

وخوف الخاصة من الخاتمة.

وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنيةٌ عليها."

هذا الكلام أن الخوف على ثلاث مقامات:

خوف العامة من الذنوب، يعني بمعنى أن العامة هؤلاء حينما تحصل منهم الجنايات يخافون العقوبة.

وخوف الخاصة يعني أصحاب الكمالات من الخاتمة، يعني هو يعمل بالأعمال الصالحة، ويستقيم على أمر الله لكن يخشى أن يسبق عليه الكتاب، فيُختم له بعمل أهل النار، يعني هو ليس بصاحب جنايات، والذنوب فيخاف عقوبتها، يعني ليس بمُفرِّط مضيِّع، وإنما يخاف أن يسبق عليه الكتاب، فيسأل ربه حسن الختام. 

يقول: وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنيةٌ عليها، لاحظ الفرق، يقول الخاصة يخافون من سوء الخاتمة، ينظر إلى العاقبة، وخاصة الخاصة ينظر إلى السابقة، يعني ما سبق له في علم الله والخاتمة مبنية عليها.

يعني بمعنى أن صاحب الذنوب، والمفرِّط المضيِّع، ونحو ذلك لا يفكر بهذه الطريقة بما سبق في علم الله بالنسبة له، وما يسبق عليه الكتاب، أو ينظر إلى الخاتمة، والعاقبة، وإنما هذه الجنايات التي يجنيها هو يخاف من أن يناله عقاب في الدنيا، أو في الآخرة بسببها، هذا معنى كلام المؤلف، وللحافظ ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "دار الهجرتين" كلام بنحو هذا، يعني ذكر هذه الفروقات في أحوال الخائفين.

وهذا الكلام له وجه، وقد تتداخل هذه الأحوال، فقد يكون الإنسان في الوقت نفسه يخاف من تقصيره، وذنوبه؛ لأنه ما يخلو من تقصير، وذنوب، أيا كانت حاله، ويخشى أيضًا سوء الخاتمة بسبب ذنوبه، وتقصيره، فهو يخشى في الوقت نفسه الخاتمة كما يخشى ذنوبه.وكذلك أيضًا إذا سمع النصوص الدالة على ما سبق في علم الله من أحوال العباد من جهة السعادة، والشقاوة خاف أن يكون ممن سبقت له سابقة الشقاوة، فهذه الأحوال قد تجتمع للعبد، ومهما كان من الخاصة، وخاصة الخاصة فهو لا يخلو من تقصيرٍ، وذنوب، فكل بني آدم خطَّاء، فيخشى ذنوبه، ويخشى مع ذلك سوء الخاتمة، وكذلك ما سبق في علم الله.

"والرجاء على ثلاث درجات:

الأولى: رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعته، وترك معصيته، فهذا هو الرجاء المحمود.

والثانية: الرجاء مع التفريط، والعصيان، فهذا غرور.

والثالثة: أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن، فهذا حرام."

الرجاء الصحيح هو الأول، يرجو الرحمة مع التسبب فيها بفعل الطاعة، وترك المعصية.

"والناس في الرجاء على ثلاث مقامات:

فمقام العامة: رجاء ثواب الله.

ومقام الخاصة: رجاء رضوان الله.

ومقام خاصة الخاصة: رجاء لقاء الله حبًا فيه، وشوقًا إليه."

وهذا الكلام غير صحيح، هذا غير صحيح، وهي من اللوثات الصوفية، وقد أشرت إلى هذا في الكلام على الكتاب قبل الشروع في شرحه، وذكرت أشياء أنه لربما يذكر أشياء من قضايا السلوك، وهذا خارج عن التفسير، ليس من التفسير، وفي بعض ذلك يوجد بعض عبارات الصوفية، مثل هذا.

فالآية هنا نصٌ في الخوف، والرجاء: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وخِيفة [الأعراف: 55].

فالخوف من عقابه، والرجاء لثوابه، والله - تبارك، وتعالى - قد أثنى على من كان متصفًا بذلك متحققا به: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء: 57].

يعني الذين يدعوهم الكفار من الملائكة، والمسيح ونحو ذلك من أولياء الله تعالى، هم بهذه المثابة وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ فهذه هي أحوال أهل الكمال: الجمع بين الخوف، والرجاء، فلا يُقال بأن رجاء العامة الثواب، الكل يرجو الثواب. 

  1.  تفسير الطبري (10/249).
  2.  مجموع الفتاوى (15/22).
  3.  بدائع الفوائد (3/13).
  4.  أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الإسراف في الماء، برقم (96) وأحمد في المسند، برقم (16796) وقال محققوه: "حديث حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف يزيد الرقاشي" والحاكم في المستدرك، برقم (1979) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (86).
  5.  انظر: المقاصد الحسنة (ص: 555) برقم (909).
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، برقم (2877).