الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
وَلَا تُفْسِدُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56] ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض - وما أضره بعد الإصلاح - ؛ فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] أي: خوفاً مما عنده من وبيل العقاب، وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب.


قوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56] يدخل فيه تغيير شرائع الإسلام، والخروج على أحكام الله - تبارك وتعالى - ، والكفر به، ومحادة رب العالمين، وفعل المعاصي، كل ذلك من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، فالله أنزل الكتب وأرسل الرسل بالهدى ودين الحق، وهذا هو عين الإصلاح، فلا يجوز لأحد أن يخرج عن ذلك وأن يكفر بالله أو يخرج عن شرعه فيكون بذلك مفسداً في الأرض بعد إصلاحها، أي بعد أن أصلحها الرسل - عليهم الصلاة والسلام - .
ومن دعا إلى الضلال، وفتن الناس عن الحق، ولبَّس عليهم أو أشاع الفاحشة في المجتمع فهذا من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها.
ويدخل في الإفساد في الأرض تخريب العمران والسكك، وإفساد أموال الناس وقطع الأشجار وتخريب الأنهار، وتغوير المياه، وما أشبه ذلك مما يحصل به إفساد حياة الناس، وكذلك العبث والتخريب بالحروب التي تفسد ولا تصلح أو غير ذلك من صور الإفساد في الأرض وإفساد حياة الناس ومعاشهم، كل ذلك داخل في قوله: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56].
ثم قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] ذكر – تبارك وتعالى - أدبين في أول الآية السابقة وأدبين في آخر هذه الآية، فأما الأدبان في أول الآية فقوله: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] أي: ادعوه تعالى بتذلل وإخفاء، وأما الأدبان في آخر هذه الآية فهما الخوف والطمع حيث قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] فالإنسان بجمعه بين الخوف والطمع يكون خائفاً راجياً.
وقوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] يعني لا يكُن مدلاً لربه – جل وعلا - في دعائه، بمعنى أنه لا يدعو بترفع وكأنه متفضل على الله وإنما يدعو في حال من الخوف وفي حال من الطمع.
والفرق بين الطمع والتمني أن التمني هو أن يؤمِّل حصول شيء أو يطلب حصول شيء محال أو بعيد المنال، أما الطمع فهو رجاء الشيء القريب المأخذ أي: الذي يرجى حصوله عن قريب.
قوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] أي لا يدعو الإنسان ربه وهو يائس من إجابة الله  لدعائه، فهذا لا يليق؛ لأنه سوء ظن بالرب والله يقول: أنا عند ظن عبدي بي[1] فعلى العبد أن يحسن الظنَّ بالله أنه يجيب دعوة الداعين، فالله يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60].

ثم قال: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56] أي: إن رحمته مرسلة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية [سورة الأعراف:156] وقال: قريب، ولم يقل: قريبة؛ لأنه ضمَّن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56].
وقال مطر الوراق: "تَنَجَّزوا موعود الله بطاعته؛ فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين" [رواه ابن أبي حاتم].


يقول تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56] لفظ "قريب" مذكر و"الرحمة" مؤنث، فلماذا لم يقل: إن رحمت الله قريبة من المحسنين؟ هذا وجه السؤال، وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا جوابين عن هذا الإشكال، الأول: أنه لم يقل: إن رحمت الله قريبة؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، والثواب مذكر، والمراد بالتضمين معلوم، فالعرب قد تضمن الفعل أو ما يقوم مقامه معنى فعل آخر وذلك أبلغ في الكلام، فقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ [سورة الأعراف:56] تكون الرحمة مضمنة معنى الثواب أو مفسرة بالثواب، يعني: إن ثواب الله قريب، والثواب مذكر، فيكون بذلك قد روعي المعنى.
والمعنى الثاني الذي ذكره الحافظ هو قوله: "أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56]".
ومن أهل العلم من يقول: فيه مقدر محذوف، أي: إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين، والقاعدة أن الكلام إذا دار بين الحذف والاستقلال فالأصل الاستقلال، يعني لا حاجة لدعوى الإضمار والتقدير إذا كان يمكن للكلام أن يكون مستقلاً على ظاهره من غير دعوى الحذف، وهذا ممكن هنا.
ومن الأجوبة الحسنة في هذا أن الرحمة مؤنث غير حقيقي والمؤنث غير الحقيقي يمكن أن يكون العائد إليه أو الصفة التي يوصف بها أو الضمير أو نحو ذلك يمكن أن يكون مذكراً أو مؤنثاً.
ومن الأجوبة أيضاً – ولعل هذا أحسن من الذي قبله - أن يقال: إن لفظة قريب إذا أريد بها قرابة النسب فإنها تكون مؤنثة مع المؤنث ومذكرة مع المذكر، تقول: زيد قريبي، زيد قريب لعمرو، ومع المؤنث تقول: فلانة قريبتي، وفلانة قريبة لزيد، وأما إذا أريد قرب المسافة أو قرب الزمان أو نحو ذلك فإنه يقال: قريب ولا يقال: قريبة، والله وصف الساعة بأنها قريب وذلك قرب الوقت والزمان، وهنا: رحمة الله قريب من المحسنين بهذا الاعتبار، فهذا جواب جيد، وقد قيل غير ذلك، حتى إن بعضهم ذكر في هذا عشرة أجوبة.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [(28) سورة آل عمران] (6970) (ج 6 / ص 2694) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب الحث على ذكر الله تعالى (2675) (ج 4 / ص 2061).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] حُذِفَت تاء التأنيث من قريب، وهو خبرٌ عن الرحمة، على تأويل الرحمة بالرحم، أو الترحم، أو العفو، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو لأنه صفة الموصوف محذوفٌ تقديره، شيءٌ قريب، أو على تقدير النسب أي ذاتِ قرب.

وقيل: قريبٌ هنا ليس خبرٌ عن الرحمة إنما هو ظرفٌ لها."

إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] يعني من المحسنين في عبادته، ومن المحسنين إلى عباده، يقول: حُذِفَت تاء التأنيث من قريب، وهو خبرٌ عن الرحمة، يعني باعتبار أن الرحمة لفظ مؤنث، فجاء الخبر عنها مذكرًا، قريب، يقول: على تأويل الرحمة بالرَّحِم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ تأويلها بالرَّحِم، الرَّحِم مذكر، أو العفو، وهو مذكر، أو أنها في معنى الغفران، وهو مذكر، وأحسن من هذا ما قاله ابن كثير - رحمه الله -[1] بأن الرحمة إن رحمة الله مضمنة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله - تبارك، وتعالى - رحمة الله، فهي صفةٌ من صفاتهِ، فجاء التذكير بهذا الاعتبار. 

يقول: أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، التأنيث غير حقيقي، التأنيث لفظي، وبالتالي يصح أن يكون الوصف بالمذكر، وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[2] وجها آخر، وهو أن هذا التذكير قريب للدلالة على قربه - تعالى - منهم من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر؛ لكونه تبعًا له.

يعني للدلالة على قرب الله فذكر رحمته، ورحمته صفة من صفاته، وصفاته ملازمة لذاته، فقال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ فدل بهذه اللفظة المذكرة على قربه - سبحانه، وتعالى - أشار إلى ذلك بذكر رحمته، فلما جاء التذكير عُرِف من ذلك قربه - سبحانه، وتعالى - فأفاد التذكير هذا المعنى، هذا ما أشار إليه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن ذلك من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر.

يقول المؤلف: أو لأنه صفة موصوف محذوفٌ تقديره، شيءٌ قريب، إن رحمة الله شيءٌ قريب، وهذا بعيد؛ لأن الأصل عدم التقدير.

يقول: أو على تقدير النسب أي: ذاتِ قرب، وهذا أيضًا يحتاج إلى تقدير، والأصل عدم التقدير؛ لأنه إذا دار الكلام بين التقدير، والاستقلال يعني بين الإضمار، والاستقلال فالأصل الاستقلال، في قرب النسب يقال: فلانة قريبة مني، هذا قرب النسب، قريبة مني، أما إذا كان قرب المكان، فيجوز الوجهان في اللغة، هذا قاله الفرَّاء، يقال: دار فلان قريبٌ مني، ودار فلان قريبةٌ مني إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وهنا ليس قرب نسب، وعلى هذا يصح أن يقال: إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين، أو قريبةٌ من المحسنين، بهذا الاعتبار.

يقول: وقيل قريبٌ هنا ليس خبرًا عن الرحمة إنما هو ظرفٌ لها، يعني كأنه يقول: رحمة الله قريب، يعني كما في موضع قريب، وهذا لا حاجة إليه - والله أعلم -.

"الرياح نشرا، قرئ الرياح بالجمعِ؛ لأنها رياح المطر، وقد اطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة، وإفرادها إذا كانت للعذاب، ومنه، ورد في الحديث: اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا[3] وقرئ بالإفراد، والمراد الجنس."

الرياح يقول: قرئ بالجمع، هذه قراءة الجمهور؛ لأنها رياح المطر، وما ذكره من الاطراد هنا إذا كانت للرحمة يقال: رياح، وإذا كانت للعذاب يقال: ريح، بالإفراد، هذا يمكن أن يقال باعتبار أنه الغالب، قد جاء نحو ذلك عن ابن عباس - ا -[4] يعني التعبير بهذا الرياح إذا كانت للرحمة، وبالريح إذا كانت للعذاب، والحديث ثابت صحيح: اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا.

لكن هذه القراءة المتواترة الأخرى قرأ بها ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالإفراد: (وهو الذي يرسل الريح) فهذا يدل على ما ذكرت من أن الغالب ذكر الريح للعذاب، والرياح للرحمة، لكنه ليس دائمًا، ويدل على أنه ليس بدائم أيضًا غير هذه القراءة المتواترة، كذلك قوله: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ [يونس: 22].

فقال عن هذه، وهذه ريح، لكن الغالب ما ذُكِر - والله أعلم -.

"وقرئ بالإفراد، والمراد الجنس، وقرئ نشرا بفتح النون، وإسكان الشين، وهو على هذا مصدرٌ في موضع الحال، وقرئ بضمهما، وهو جمع ناشر.

وقيل: جمع منشور، وقرئ بضم النون، وإسكان الشين، وهو تخفيفٌ من الضم، كــ: رُسُلٍ، ورُسْل، وقرئ بالباء في موضع النون من البشارة."

يقول: وقرئ نشرا، هذه قراءة حمزة، والكسائي، يقول: وهو على هذا مصدرٌ في موضع الحال، مصدر نشرت الريح السحاب نشرا، والمعنى: يرسل الرياح ناشرةً للسحاب، وبعضهم يقول: النشر صنف من الرياح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب، ولهذا فسرها ابن جرير - رحمه الله - بالطيبة[5] يعني هو الذي يرسل الرياح نشرا، بالريح، أو الرياح الطيبة، التي اللينة، فهي التي تنشئ السحاب، يرسل الرياح نشرا.

يقول: وقرئ بضمهما، نُشُرا، وهذه قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وهو جمع ناشر، فجعل الريح ناشرة للأرض، يعني محييةً لها باعتبار أنها تأتي بالمطر الذي يكون النبات به، نُشُرا، يقول: جمع ناشر، وقيل جمع منشور، نُشُرا جمع منشور أي: أن الله أحيا الريح إذ بعثها لتأتي بين يدي رحمته، فهي ريحٌ منشورة، يعني محيية، نُشُرا يعني إما أن تكون باعتبار أنها ناشرة، أو جمع منشور، نُشُرا.

يقول: وقرئ بضم النون، وإسكان الشين، نُشْرا، هذه قراءة ابن عامر، يقول: وهو تخفيفٌ من الضم، كـــ: رُسُلٍ، ورُسْل، يعني باعتبار أنها بمعنى القراءة السابقة، نُشُرا، فخففت نُشْرا، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في هذه القراءة نُشْرا، قال: "أي ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر"[6].

يقول: وقرئ بالباء، هذه قراءة عاصم، في موضع النون، يعني بشري، بشرا بين يدي رحمته، من البشارة، يعني مبشرات بالغيث وَمِنْ آيَاتِهِ أن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم: 46].

 فهي تنشر السحاب، وتُبشِّر أيضًا بالغيث، باعتبار هذه القراءات.

  1.  تفسير ابن كثير (3/429).
  2.  انظر: بدائع الفوائد (3/17).
  3.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (11533) وأبو يعلى الموصلي في مسنده، برقم (2456) وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (5600).
  4.  تفسير ابن كثير (4/530).
  5.  تفسير الطبري (10/252).
  6.  تفسير ابن كثير (3/430).