قوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56] يدخل فيه تغيير شرائع الإسلام، والخروج على أحكام الله - تبارك وتعالى - ، والكفر به، ومحادة رب العالمين، وفعل المعاصي، كل ذلك من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، فالله أنزل الكتب وأرسل الرسل بالهدى ودين الحق، وهذا هو عين الإصلاح، فلا يجوز لأحد أن يخرج عن ذلك وأن يكفر بالله أو يخرج عن شرعه فيكون بذلك مفسداً في الأرض بعد إصلاحها، أي بعد أن أصلحها الرسل - عليهم الصلاة والسلام - .
ومن دعا إلى الضلال، وفتن الناس عن الحق، ولبَّس عليهم أو أشاع الفاحشة في المجتمع فهذا من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها.
ويدخل في الإفساد في الأرض تخريب العمران والسكك، وإفساد أموال الناس وقطع الأشجار وتخريب الأنهار، وتغوير المياه، وما أشبه ذلك مما يحصل به إفساد حياة الناس، وكذلك العبث والتخريب بالحروب التي تفسد ولا تصلح أو غير ذلك من صور الإفساد في الأرض وإفساد حياة الناس ومعاشهم، كل ذلك داخل في قوله: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:56].
ثم قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] ذكر – تبارك وتعالى - أدبين في أول الآية السابقة وأدبين في آخر هذه الآية، فأما الأدبان في أول الآية فقوله: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55] أي: ادعوه تعالى بتذلل وإخفاء، وأما الأدبان في آخر هذه الآية فهما الخوف والطمع حيث قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] فالإنسان بجمعه بين الخوف والطمع يكون خائفاً راجياً.
وقوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] يعني لا يكُن مدلاً لربه – جل وعلا - في دعائه، بمعنى أنه لا يدعو بترفع وكأنه متفضل على الله وإنما يدعو في حال من الخوف وفي حال من الطمع.
والفرق بين الطمع والتمني أن التمني هو أن يؤمِّل حصول شيء أو يطلب حصول شيء محال أو بعيد المنال، أما الطمع فهو رجاء الشيء القريب المأخذ أي: الذي يرجى حصوله عن قريب.
قوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الأعراف:56] أي لا يدعو الإنسان ربه وهو يائس من إجابة الله لدعائه، فهذا لا يليق؛ لأنه سوء ظن بالرب والله يقول: أنا عند ظن عبدي بي[1] فعلى العبد أن يحسن الظنَّ بالله أنه يجيب دعوة الداعين، فالله يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60].
وقال مطر الوراق: "تَنَجَّزوا موعود الله بطاعته؛ فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين" [رواه ابن أبي حاتم].
يقول تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56] لفظ "قريب" مذكر و"الرحمة" مؤنث، فلماذا لم يقل: إن رحمت الله قريبة من المحسنين؟ هذا وجه السؤال، وقد ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا جوابين عن هذا الإشكال، الأول: أنه لم يقل: إن رحمت الله قريبة؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، والثواب مذكر، والمراد بالتضمين معلوم، فالعرب قد تضمن الفعل أو ما يقوم مقامه معنى فعل آخر وذلك أبلغ في الكلام، فقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ [سورة الأعراف:56] تكون الرحمة مضمنة معنى الثواب أو مفسرة بالثواب، يعني: إن ثواب الله قريب، والثواب مذكر، فيكون بذلك قد روعي المعنى.
والمعنى الثاني الذي ذكره الحافظ هو قوله: "أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56]".
ومن أهل العلم من يقول: فيه مقدر محذوف، أي: إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين، والقاعدة أن الكلام إذا دار بين الحذف والاستقلال فالأصل الاستقلال، يعني لا حاجة لدعوى الإضمار والتقدير إذا كان يمكن للكلام أن يكون مستقلاً على ظاهره من غير دعوى الحذف، وهذا ممكن هنا.
ومن الأجوبة الحسنة في هذا أن الرحمة مؤنث غير حقيقي والمؤنث غير الحقيقي يمكن أن يكون العائد إليه أو الصفة التي يوصف بها أو الضمير أو نحو ذلك يمكن أن يكون مذكراً أو مؤنثاً.
ومن الأجوبة أيضاً – ولعل هذا أحسن من الذي قبله - أن يقال: إن لفظة قريب إذا أريد بها قرابة النسب فإنها تكون مؤنثة مع المؤنث ومذكرة مع المذكر، تقول: زيد قريبي، زيد قريب لعمرو، ومع المؤنث تقول: فلانة قريبتي، وفلانة قريبة لزيد، وأما إذا أريد قرب المسافة أو قرب الزمان أو نحو ذلك فإنه يقال: قريب ولا يقال: قريبة، والله وصف الساعة بأنها قريب وذلك قرب الوقت والزمان، وهنا: رحمة الله قريب من المحسنين بهذا الاعتبار، فهذا جواب جيد، وقد قيل غير ذلك، حتى إن بعضهم ذكر في هذا عشرة أجوبة.
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [(28) سورة آل عمران] (6970) (ج 6 / ص 2694) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب الحث على ذكر الله تعالى (2675) (ج 4 / ص 2061).