قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ هذا على قراءة نافع وحفص، ويكون ذلك على سبيل الإخبار، وقرأه الباقون بهمزتين أَئِنَّكُمْ فيكون ذلك على سبيل الاستفهام الذي يراد به التوبيخ، فهو يوبخهم على هذا الفعل.
أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال وهذا إسراف منكم وجهل؛ لأنه وضع الشيء في غير محله.
في قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً يدل على أن الفطَر منتكسة، يعني أنهم لا يأتون ذلك لأمر أو لمعنى آخر، وإنما شهوة، والشهوة لا تتوجه إلى مثل هذا، ثم أيضاً يفعلون ذلك قضاء لوطرٍ ناشئ عن فطرة منكوسة وشذوذ.
وهذا الذي فعلوه وأخبر الله أنهم فعلوه شهوة من غير اعتبار ولا نظر للمعاني التي جعلها الله في المحل النظيف، وهو مقتضى الفطرة، حيث أودع الله في فطر الرجال الميل الطبيعي للنساء، وذلك يجده الرجال في نفوسهم فيحصل بسبب هذا النكاح، ويحصل بسببه المودة والرحمة التي تنسى معها المرأة أباها وأمها وأخاها وقومها وعشيرتها، قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم:21] وهذا المعنى لا يتصوره الإنسان إلا إذا تزوج، فهناك معانٍ لا يعرفها الإنسان إلا إذا جربها، مثل: شعور الآباء نحو الأبناء هذا لا يعرفه إلا من له ولد، وهذا مثلما لو تحدثت عن حلاوة الإيمان لمن لم يتذوق حلاوة الإيمان فإن ذلك الحديث لا ينفعه، وكذلك عندما تتحدث عن إعجاز القرآن لفاسد السليطة فإنه لا يتذوق الإعجاز وإن ردد مع الناس كلمة الإعجاز لكنه لا يتذوق هذا إطلاقاً، فهناك جملة من المعاني لا يتصورها الإنسان إلا إذا تحقق أمر زائد على مجرد السماع أو التصور، فيدرك عندئذ هذا المعنى، فالله - تبارك وتعالى - جعل في فطر الرجال الميل إلى النساء، وجعل من مقتضى النكاح المودة والرحمة، بل إن الوطء يكون سبباً لمزيد من الإلف والمودة والرحمة وهو شيء معلوم، وقد ذكره جمع من أهل العلم، ولا يحتاج مثل هذا أن ينبه عليه، وهو أيضاً سبب للولد، وبقاء النسل الآدمي، ويخرج منه الأنبياء والصلحاء والمجاهدون في سبيل الله، والعلماء، كل ذلك بسبب هذا النكاح، ويحصل فيه قضاء الوطر أيضاً، وأما هذه الفاحشة والشناعة فلا يحصل منها شيء من ذلك إطلاقاً، ثم إن هذا الممسوخ الذي يقع عليه ذلك هو لا يلتذ به ولكنه فساد الفطَر.
قال: "فأرشدهم إلى نسائهم" مع أنه قال: بَنَاتِي وهذا كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - باعتبار أن النبي بمنزلة الأب لقومه، فبهذا الاعتبار يكون أبناءُ قومه أبناءه وبناتُهم بناتَه، والله - تبارك وتعالى - قال: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [سورة الأحزاب:6] وفي القراءة الأخرى: (وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم) وهي قراءة أحادية معروفة - قراءة أبيّ وقراءة ابن عباس - وهذه الأبوة هي أبوة تربية، ورجحها بعض أهل العلم على أبوة النسب؛ لأن أبوة النسب يخرج فيها الإنسان إلى الحياة الدنيا، وأما هذه الأبوة فيخرج بها الإنسان من الظلمات إلى النور وإلى الحياة الحقيقية الكاملة التي يسعد بها في الدنيا ويسعد بها في الآخرة، فقوله: هَؤُلاء بَنَاتِي [سورة هود:78] يعني بنات القبيلة، أو بنات قومه، فهو يقول لهم: تزوجوا هؤلاء النساء، وبعضهم يقول: إنه عرض بناته عليهم ليتزوجوهن، فأبوا ذلك عليه.