يقول تعالى: فأنجينا لوطاً وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة الذاريات:35-36].
وهذا مما يستدل به على أن لوطاً ﷺ خاطبهم بالتوحيد وأن جميع الأنبياء دعوا إلى التوحيد، فالله - تبارك وتعالى - ما أرسل من رسول إلا أوحى إليه: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25] فهذه دعوة جميع الرسل، وقوم لوط ممن لم يكونوا على التوحيد، فهاجر لوط ﷺ إلى تلك الناحية ودعا الناس إلى الله - تبارك وتعالى - فكونه لم يذكر في دعوته أنه دعاهم إلى التوحيد لا يعني أنه لم يوجه ذلك إليهم أو أنهم كانوا موحدين، وإنما ذُكروا بهذه الشناعة التي لم يسبقوا إليها.
هذا هو الجواب على قول من قال من أهل العلم: إنهم قد يكونون ممن لم يقع لهم شرك، فهذا القول فيه نظر؛ وإلا فمن أين تعلموا التوحيد؟.
هذه هي خيانة امرأة لوط، فالله قال: فَخَانَتَاهُمَا [سورة التحريم:10] يعني امرأة نوح وامرأة لوط، فالخيانة المقصود بها أنها كانت تدل على أضيافه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تحمل الخيانة على الفجور والفاحشة وذلك أنه ما خانت امرأة نبي قط، فالله يحفظ عرض أنبيائه ويصونه؛ لأن ذلك لو وقع فإنه يرجع إلى النبي فيدنس عرضه بهذا، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.
ولهذا لما أُمر لوط ليسري بأهله أُمر ألا يعلمها ولا يخرجها من البلد، ومنهم من يقول: بل اتبعتهم فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم، ولهذا قال هاهنا: إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83] أي: الباقين، وقيل: من الهالكين، وهو تفسير باللازم.
لفظة "غبَر" هي من الأضداد، فتأتي بمعنى ذهب وتأتي بمعنى بقي، فقوله تعالى: إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83]، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : أي الباقين، وهذا هو المعنى المشهور - أي أن معنى الغابرين: الباقين - فالذين فسروه بالباقين منهم من قال: أي من المعمرين، كما قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وذكره كبير المفسرين ابن جرير لكنه لم يرجحه وإنما قال: قيل من الباقين، أي أنها بقيت زماناً طويلاً قبل نزول العذاب، والله قال: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [سورة الشعراء:171] فهي عاشت مدة طويلة، ثم جاء العذاب فهلكت، هكذا قال بعضهم، وأحسن من هذا - والله تعالى أعلم - أن يقال: إن المراد بقوله: إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83] أي: كانت من الباقين في العذاب فلم تنجُ منه، وعلى المعنى الآخر يقال: كانت من الذاهبين أي: من الهالكين.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : "وهو تفسير باللازم" وذلك أن معنى ذهب هو أحد المعنيين للفظة "غبر"، وهذا من المشترك الذي يحمل المعاني المتضادة، والحاصل أن المشترك يجوز حمله على معنييه أو معانيه ما لم يوجد مانع يمنع من هذا، وهذا الذي ذكره الشافعي - رحمه الله - في "الرسالة" وذكره جماعة من أهل العلم وهو الراجح من أقوال الأصوليين، أي أنه يجوز حمل المشترك على معنييه، وفي هذا الموضع يمكن حمل المشترك على معنييه فيقال: مِنَ الْغَابِرِينَ [سورة الأعراف:83] أي من الباقين في العذاب الذين ذهبوا وهلكوا من الهالكين.
فقول ابن كثير - رحمه الله - : إن هذا من التفسير باللازم معناه أنها بقيت في العذاب ويلزم من ذلك أنها هلكت، وبهذا الاعتبار لا حاجة إلى الترجيح بين هذين المعنيين، والله أعلم.