فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:99] ولهذا قال الحسن البصري - رحمه الله - : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجِلٌ خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
يقول الله - تبارك وتعالى - : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96] فسَّر الحافظ ابن كثير بركات السماء بقطر السماء، وبركات الأرض بنبات الأرض، والمعنى أعم وأوسع من ذلك - والله تعالى أعلم - فبركات السماء لا تختص بالمطر وبركات الأرض لا تختص بالنبات، والله أخبر أنه أنزل على بني إسرائيل المنَّ والسلوى.
وعلى كل حال فإن البركة من الله ، فإذا أنزل الله البركة في شيء للإنسان مِن ولدٍ وزوجة ومتاع ومال وزرع وضرع وغير ذلك فإنه يحصل به مقصوده ومطلوبه وزيادة، فيحصل له الانتفاع، فبركات الأرض لا تختص بالنبات وهكذا بركات السماء لا تختص بالمطر.
وفي قوله - تبارك وتعالى - : أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:99]، يُلاحظ أن هذه الصفة لم تأتِ على سبيل المقابلة، مع أنه في بعض المواضع تأتي كذلك، كقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [سورة النمل:50] وكقوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ [سورة الأنفال:30]، وكثير من أهل العلم يقولون: إن هذه الصفات تنسب إلى الله وتضاف إليه إذا كان ذلك في مقابل فعل الكافرين، وهذا القول يرده هذا الموضع من كتاب الله أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ [سورة الأعراف:99] حيث لم يجعل مكره في مقابل مكرهم.
وهكذا الكيد تارة يأتي في مقابلة كيدهم كقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [سورة الطارق:15-16]، وقد يأتي بغير المقابلة كقوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183].
والمقصود أن هذه الصفات ثابتة لله على ما يليق بجلاله وعظمته، فنحن نثبت لله - تبارك وتعالى - ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله ﷺ من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، ولكن مثل هذه الصفات لا تضاف إلى الله على سبيل الإطلاق، فلا يقال: إن الله كائد، أو ماكر، كما يقال: سميع وبصير وعليم وحكيم؛ لأن السميع والبصير والعليم والحكيم والرزاق وما أشبه ذلك هي أوصاف كمال على سبيل الإطلاق، وأما هذه الصفات فإنها تكون كمالاً في المحل الذي تكون كمالاً فيه، وتكون نقصاً في غير ذلك، ولذلك فإنها تطلق على الله مقيدة، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يعبر بأن هذا من قبيل المشاكلة، وقد تجد هذا القول عند بعض طلاب العلم ممن ينتسب إلى السنة، والحقيقة أن المشاكلة نوع من المجاز، والذين يقولون: مشاكلة ممن يُقرأ في كتبهم يقصدون أنه لا حقيقة لهذه الصفات، أي أنه عبر بعبارة لا حقيقة لها فيما أطلقت فيه، وإنما ذكرت للمشاكلة اللفظية كما قال القائل:
قالوا اقترح شيئاً نُجد لك طبخه | قلت اطبخوا لي جبّة وقميصاً |
فهؤلاء الذين يقولون هذا، يقولون: الله لما قال: وَيَمْكُرُونَ [سورة الأنفال:30] استعمل نفس اللفظة فيما يتعلق به فقال: وَيَمْكُرُ اللّهُ ومثلها قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [سورة الطارق:15-16] فسماه كيداً مع أنه لا يمتّ إلى هذا بصلة، لكن يقال لهم: وماذا تقولون في قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ[سورة الأعراف:183] وماذا يقولون في هذه الآية: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ [سورة الأعراف:99] أين المشاكلة التي يزعمون؟ لا توجد مشاكلة ولا يستطيعون أن يقولوا: فيها مشاكلة.
والحاصل أن أهل السنة يقولون: هذه الأوصاف ثابتة لكن حيث يكون ذلك لائقاً ومناسباً وكمالاً، ومعلوم أن هذا قد يكون كمالاً وقد يكون نقصاً، فلو أن أحداً مفسداً ضارباً في الفساد، يسفك الدماء، وينتهك الأعراض، ويؤذي الناس غاية الأذية، ولا يبالي بهم، فجاء من استدرجه حتى أوقعه في سيئ عمله واستراح الناس منه ومن شره، ألا يُحمد هذا الذي استدرجه؟ هذا الاستدراج كمال في هذه الحالة فيُحمد صاحبه، لكن الذي يمكر بالناس لينتهك أعراضهم ويسفك دماءهم ويوقعهم في حبائله من غير جرم اقترفوه، فمثل هذا لا يحمد، بل هذا ماكر وصاحب حيلة، وهذا نقص في حقه.
والخلاصة أن من الصفات ما تكون كمالاً بإطلاق، فهذه تطلق على الله إن كانت قد وردت في الكتاب والسنة، وقد يقال هذا الوصف أو ذاك على سبيل الخبر، ومعلوم أن الخبر أوسع من باب التسمية والوصف، فالعليم مثلاً اسم يتضمنه صفة كمال، والحكيم والرزاق والقدير والرحيم وما أشبه ذلك، هذه كلها أوصاف كمال تقال لله .
وهناك أوصاف تكون كمالاً بالنسبة للمخلوق ونقصاً بالنسبة للخالق، مثل الولد فإنه كمالٌ بالنسبة للمخلوق ويكون نقصاً بالنسبة للخالق، فلا تضاف إلى الله وهذا يسمى الكمال النسبي، أي بالنسبة للمخلوق كمال وبالنسبة للخالق نقص، ومن أمثلة ذلك النوم فهو بالنسبة للمخلوق كمال والذي لا ينام مريض، لكن هذا لا يقال على الله ؛ فهو كما قال: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [سورة البقرة:255].
وهناك أوصاف تكون كمالاً في موضع وتكون نقصاً في موضع آخر كهذه التي مرت معنا آنفاً، فهذه لا تقال على الله بإطلاق ولا يشتق منها اسم له - تبارك وتعالى - والله أعلم.