جمع لهم بين الأمرين كما أشرنا من قبل،وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةًأي: بهاءً وجمالاً وحسناً في وجوههم، بخلاف أولائك حصل لهم الضيق في النفوس، وظهر أثره على الوجوه بالبسور والتقطيب وكلوح الوجه -نسأل الله العافية-، يوم شديد لا تراهم إلا في حال من الكلوح والبسور.
وأما هؤلاء فوجوههم مشرقة مضيئة عليها وضاءة الطاعة -البهاء والحسن-، فالمقصود أن الله جمع لهم بين هذا وهذا،وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةًأي نضارة في وجوههم، فهذا في الظاهر،وَسُرُورًاوهو الانشراح في الباطن، ولا شك أن بين الأمرين ملازمة، إذ إن الانشراح في الباطن يظهر أثره على الظاهر، والعكس، ولذلك تجد أن الثكلى يظهر ذلك في وجهها، والمحزون يظهر الحزن في وجهه ولو حاول أن يخفيه، وهكذا المنبسط المسرور منشرح الصدر يظهر ذلك على وجهه، ولذلك كان النبي ﷺإذا سُر استنار وجهه ﷺ حتى يكون كفلقة القمر، من إضاءته وإشراقه ﷺ، وهذا كقوله -تبارك وتعالى-: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[سورة القيامة:22-23]، وصفها بالنضارة وما يحصل لها من اللذة والسرور بالنظر إلى وجه الله ، فهذا كله من هذا الباب، والله يقول:يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا[سورة الأعراف:26]، هذا في الظاهر،وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌفجمع لهم بين هذا وهذا، ذكرهم بهذا وهذا، كما قال في السماء -في وصفها-:إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ[سورة الصافات:6-7]، فذكر الزينة الظاهرة للسماء بهذه النجوم، وذكر المعنى الباطن وهو أن ذلك يكون سبباً لحفظها من الشياطين من استراق السمع فلا يصلون إلى ذلك، وكذلك قول امرأة العزيز:وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [سورة يوسف:31]، فهؤلاء أعجبوا بهيئته الظاهرة،قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ[سورة يوسف:32] فهذا يدل على جماله الباطن، أنه عفيف موصوف بالعفاف والطهر والنزاهة، وكذلك في قول الله :إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى[سورة طه:118-119]، فقابل بين هذا وهذا، أَلَّا تَجُوعَ هذا ذل الباطن،وَلَا تَعْرَىذل الظاهر، ولَا تَظْمَأُ فِيهَا هذه حرارة الباطن، وَلَا تَضْحَىضاحين كما في الحج في صفتهم، بمعنى أنه متعرض لحرارة الشمس لا يقيه منها شيء سقف أو شجر أو نحو ذلك، فـ وَلَا تَضْحَىأي: لا تتعرض لحر الشمس، فنفى عنه حرارة الباطن وحرارة الظاهر، وهكذا:وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[سورة البقرة:197]، تزودوا في أسفاركم بالزاد الذي تحتاجون إليه، تقتاتونه من الطعام والشراب، ثم ذكرهم بالزاد الآخر إلى الآخرة، سفر الدنيا يحتاجون القوت، وسفر الآخرة يحتاجون فيه إلى العمل الصالح، جمع بين هذا وهذا، وهذا كثير في القرآن.
قاله الحسن البصري، وقتادة، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وهذه كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ[سورة عبس:38-39]، وذلك أن القلب إذا سُرَّ استنار الوجه، قال كعب بن مالك في حديثه الطويل: "وكان رسول الله ﷺ إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه فلقة قَمَر".
وقالت عائشةُ -ا-:دخل عَلَيّ رسول اللهﷺ مسرورا تَبرُقُ أسَاريرُ وَجْهه[1]، الحديث.
- رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ-، برقم (3555)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، برقم (1459).