مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاَْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا[سورة الإنسان:13-22].
يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، وما أسبغ عليهم من الفضل العَميم فقال تعالى:مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِوقد تقدم الكلام على ذلك في "سورة الصافات"، وذكر الخلاف في الاتكاء: هل هو الاضطجاع، أو التمرفق، أو التربع أو التمكن في الجلوس؟ وأن الأرائك هي السُّرر تحت الحجال.
يقول:مُتَّكِئِينَ فِيهَاأي:في هذه الجنة،عَلَى الأرَائِكِ،الاتكاء يقول: ذكرنا فيه الاحتمالات، والحافظ ابن القيم فيما أذكره في زاد المعاد أنه جعل ذلك جميعاً من الاتكاء، في الكلام على الاتكاء في الطعام،لا آكل متكئاً[1]، قوله ﷺ، فسواءً كان التمرفق أي يضع مرفقه على ما يتكئ عليه، أو كان التربع باعتبار أنه يكون متمكناً في جلسته، ويحتاج إلى وضع ذراعيه على فخذيه، فابن القيم -رحمه الله- جعل هذا من الاتكاء في الطعام في الأكل، وكذلك الاتكاء بالظهر، إسناد الظهر إلى شيء وهو يأكل، وكذلك الميل بالجنب، يعني أن يسند جنبه إلى شيء بجانبه، وكل هذا من الاتكاء، والاضطجاع من باب أولى أبلغ في هذا المعنى، فالمقصود أنه يرتفق بشيء ويعتمد عليه في جلوسه مثلاً، فالله يقول:مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِوهذه الجلسة فيها استرخاء، وأيضاً فيها شيء من الاسترواح، متكئين في الجنة على الأرائك، والأرائك جمع أريكة، وبعض أهل العلم يقولون: كل ما يُتكأ عليه فهو أريكة، الوسائد التي يرتفق بها يقال لها: أرائك، إذا اتكأ على فراش يكون ذلك أريكة، كل ما يُتكأ عليه فهو أريكة، وبعض أهل العلم يجعلون ذلك خاصاً بما كان من سرير ونحوه، المقصود بالسرير ما يجلس عليه -كما يقال: سرير الملك الذي نسميه الآن الكنب- من سرير ونحوه ويكون مغطى بداخل ستور أو نحو ذلك، مثل المنصة التي تجلس عليها العروس، يقولون: هذه هي الأريكة، جلوس أهل النعمة والترف قديماً بهذا الشكل، ولذلك لماذا يفعلون هذا للعروس، ويزينون لها المحل ويسمونه الكوشة، وتجده حتى في الصور والدعايات الآن يضعون لها مثل الجلسة كما يقال: سرير الملك، ويتفننون في هذا، ويبالغون في تزيين ذلك بالستور وما شابهه، وبعضهم يقول: لا يقال له أريكة إلا إذا كان بهذه الطريقة مغطى بهذا، وإلا فهو حَجَلة، يعني هذا المقعد -مكان الجلوس- من غير هذه الستور يقال له: حَجَلة في كلام العرب، ومعها يقال له: أريكة، فاجتماع هذا وهذا يقال له: أريكة، هذا القول مشهور جداً عن العلماء من أهل اللغة، ومن المفسرين، بل لو قيل: إنه أشهر الأقوال لكان ذلك القول واقعاً في محله، والله تعالى أعلم، وفي عُرف الناس الأريكة قبل مدة -يعني خمسين سنة أو نحو هذا- لربما أطلقت على ما نسميه الآن بالكنب، وهو المقعد المنجد الذي نسميه الكنب الآن، وفي عرف الناس اليوم الأريكة لون منه، وهي أدعى إلى الاسترخاء والراحة، فليس لها جوانب تحجزها من الناحيتين للاتكاء عليها، وإنما قد يكون لها ناحيتان من أجل التمدد والاسترخاء، أو لها ناحية واحدة في الجنب يسند ظهره إليها في الجنب فقط، مثل الكنب لكن ليس له ظهر، له على الجنب فقط.
في المحلات الراقية يضعون قطعة بهذا الشكل، فهذا يجلس عليه الإنسان يتمدد، الكنب تُتعب بالجلوس، فيحتاج أنه يتمدد، وأنواع منها يتحرك فيه هزاز، أو أحياناً الأقدام نفسها تتحرك، وأنواع يرتفع وينزل على الكهرباء بحسب درجة ارتفاع الرجل الذي يريدها، هذا إذا أراد الإنسان أن ينعم نفسه ويترف نفسه، وهي في غالي الأثمان، هذا في عُرف الناس الآن، لكن هذا كله من الأرائك، في أصل لغة العرب هذا يسمى أريكة، إلا عند من قال: إنه إذا كان في داخل هذه الستور، فهذا حال أهل الجنة أنهم في غاية اللذة والنعيم، يجلسون في حال من الاسترخاء والتنعم في جلوسهم بأنعم الأماكن، بعدما كانوا يقاسون حر الشمس والتعب والكد في دار الكبَد، صاروا في هذه الأماكن التي وصفها الله في غاية النعيم، هذه الآيات لو أن الإنسان تأملها حقاً لزهد في الدنيا جميعاً بما فيها من أموال ونساء وأثاث ورياش وغير ذلك، لكن القلوب غافلة.
وقوله تعالى:لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا أي: ليس عندهم حَرّ مزعج، ولا برد مؤلم، بل هي مزاج واحد دائم سَرمديّ،لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا[سورة الكهف:108].
يعني ليس فيها حرارة،لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًالا يكونون ضاحين يجدون حراً، ولا يجدون برداً شديداً يؤذيهم، الناس يتأذون بالبرد، ويتأذون بالحر، ولربما تعطلت كثير من مصالحهم، واعتلت أجسامهم بسبب شدة البرد أو شدة الحر، أما الجنة فهي في غاية الاعتدال، والناس إذا جاء الوقت في حال من الغيم مع شيء من لطافة الجو الناس يستريحون جداً في مثل هذا الجو الذي يعتبر نادراً في بلادنا، فالجنة في غاية الاعتدال، لا تؤذيهم فيها الشمس، ولا حر الشمس، ولا تؤذيهم شدة البرد،لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا، لو قال:لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا، لربما ظُن أنها شديدة البرودة، فنفى الزمهرير فدل ذلك على الاعتدال، وهذا هو المشهور عند السلف والخلف، أنهم لا يرون فيها شمساً فليس فيها حرارة تؤذيهم، وليس فيها شدة البرد، بخلاف من قال: إن الزمهرير هو القمر، قالوا: هذا في لغة طئ يسمون القمر بالزمهرير، ويذكرون قول الشاعر: وليلةٍ... أي: قطعتُها، الشعراء كانوا يفتخرون بقطع الليالي المظلمة في الأسفار وأنهم لا يخافون، ويردون الماء قبل الفجر، ويصفون شجاعتهم وبطولتهم، وهم لربما ما مشوا خمسة كيلو مترات على بعضها في وسط النهار، فالحاصل يقول:
وليلةٍ ظلامُها قد اعتكرْ | قطعتُها والزمهريرُ ما زَهرْ |
يعني: القمر ما ظهر، يعني في الليالي التي لا يسري فيها أحد، يعني الناس قديماً يوم كانوا يسافرون بالدواب كانوا يعرفون الليالي التي يمشون بها في الأسفار، فآخر الشهر وفي أوله لا يستطيعون المشي في الليل، فالمقصود أن هذا القول وإن كان لغة لبعض العرب إلا أنه لا يجوز أن يفسر به القرآن هنا في هذه الآية، وذلك أنه لا يجوز العدول عن المعنى المشهور إلى معنى خفي غير متبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
- رواه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأكل متكئا، برقم (5398)، وأبو داود، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل متكئا، برقم (3769)، وأحمد في المسند، برقم (18754)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، أبو نعيم: هو الفضل بن دكين، وسفيان: هو الثوري".