الإثنين 23 / صفر / 1447 - 18 / أغسطس 2025
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَٰنٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله تعالى:وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا[سورة الإنسان:19] أي: يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدانٌ من ولدان الجنةمُخَلَّدُونَأي: على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مُخَرَّصُون في آذانهم الأقرطة فإنما عبر عن المعنى بذلك؛ لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير.

انتبهوا لهذه العبارات يقول:وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، في الآية الآخرى:غِلْمَانٌ لَّهُمْ[سورة الطور:24]، فهؤلاء الولدان المخلدون: الولدان جمع وليد، وهذا يعني أنهم صغار،وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْأي: بالخدمة، وقد قال النبي ﷺ في الهرة: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات[1]، فمن الطوافين عليهم الخدم والأرقّاء، ومن في حكمهم، فهؤلاء يطوفون عليهم، أي: بالخدمة، فهم خدم أهل الجنة، وهؤلاء الصغار الذين يخدمونهم عرفنا أنهم صغار من أمرين في هذه الآية الأمر الأول: أن الله سماهم بالولدان، وهذا صريح في الصغر، والأمر الثاني: أن الله قال:مُّخَلَّدُونَ، فعلى أحد التفسيرات أي مُقرَّطون، أي محلون بالأقراط، وهي ما يوضع في الأذن، والذي يحلى من الذكور بالأقراط إنما هم الصغار وليسوا الكبار، وهذا معنى توجيه ابن كثير كما سيأتي بعد قليل -إن شاء الله-، فهؤلاء الصغار بعض أهل العلم يقولون: إن هؤلاء ينشئهم الله في الجنة، يخلقهم فيها لخدمة أهل الجنة، فهم خلق جديد ينشئه الله ، ليسوا من أهل الدنيا، وبعض أهل العلم يقولون: إن هؤلاء هم أبناء المشركين الذين ماتوا وهم صغار فهم خدم أهل الجنة، وبعض أهل العلم يقولون: هؤلاء هم أبناء أهل الإيمان، وهذا فيه نظر، -والله تعالى أعلم-؛ لأن أبناءهم يكونون معهم، وهذا هو غاية النعيم، لا أن يكونوا خدم أهل الجنة، فإن من كمال نعيم المنعَّم في الجنة أن يلحق به بنوه، لا أن يكونوا خدماً لأهل الجنة، فهم وأبناؤهم يُخدمون من قبل هؤلاء الولدان الذين وصفهم الله ، فهؤلاء الولدان هم ممن جعلهم الله لخدمة أهل الجنة، يقول: يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنةمُّخَلَّدُونَ، وكلمة مخلدون في لغة العرب تأتي لمعانٍ متعددة، فمن معانيها: المخلد الذي لا يموت، والله قال عن أهل الجنة:خَالِدِينَ فِيهَا[سورة البينة:8] أي: لا يموتون، وهذا معنى مشهور في كلام العرب، بل هو أشهر معاني هذه اللفظة، وهناك معانٍ أخرى صحيحة معروفة في كلام العرب، منها أن المخلدون هم من كانوا على سن واحدة، ومخلدون أي لا يهرمون، والعرب تقول لمن لم يظهر فيه الشيب ولم يسقط له سن: إنه مخلد، فلان مخلد، لم يظهر فيه أثر الأيام والليالي، يقولون عنه ذلك، وبعضهم يقول: المخلدون هنا أي: أنهم محلون بالخَلَد جمع خَلَدة وهي القُرط الذي يوضع في الأذن من الحلي، يزينون بذلك، وإنما يزين بذلك الصغار دون الكبار، فهؤلاء صغار يطوفون عليهم بالخدمة، ولا شك أن ذلك أعظم في النعيم، أن الذين يطوفون عليهم بهذه المثابة، ولهذا يقول ابن كثير -رحمه الله-: أي على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم على حالة واحدة لا يزيدون... إلى آخره، يستلزم القول الآخر وهو أنهم لا يموتون، هم لا يهرمون وكذلك أيضاً لا يموتون، فهم باقون، وكل هذه المعاني صحيحة، أعني: أنهم مخلدون بمعنى لا يموتون وكذلك لا يهرمون ولا يتغيرون.

ويقول: ومن فسرهم بأنهم مُخَرَّصون في آذانهم بالأقرطة فإنما عبر عن المعنى بذلك، أنهم صغار، لم يبلغوا من العمر عتياً، ليسوا من أهل الهرم، وإنما هم صغار، فيبقى هذا الوصف فيهم دائماً؛ لأن الله وصفهم بأنهم مخلدون، فيقول: عبر عن المعنى، وذكر صفتهم بهذه الحلية، فهذا تعبير عن المعنى، المعنى أنهم صغار، فهم ملازمون لهذه الصفة لا يهرمون، ولذلك قال: ومن فسرهم... فإنما عبر عن المعنى بذلك، فهذا توجيه كلام ابن كثير -رحمه الله- وحمْلُه لهذا التفسير.

الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير، يعني أنه يحلى بالخَلَد –بالأقراط- في أذنه، كما قال الشاعر:

ومخلداتٌٍ باللُّجَين كأنما أعجازُهنّ رواكدُ الكثبانِ

 فالمقصود أن "المخلدون" -والله أعلم- لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون، وإذا قيل: إنهم محلون بالخَلَد فهذا يدل على ما تضمنه هذا التفسير من المعنى من أنهم صغار، والعلم عند الله .

وقوله:إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثوراً، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن.

حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًااللؤلؤ فيه البياض والحسن والجمال، وإذا نثرته فإن ذلك يكون في غاية الجمال والحسن والبهاء في انتشاره وزهو لونه، ونقائه وصفائه، فكل ذلك حاصل لهم بما فيهم من صباحة الوجوه، وحسن الحلية بالثياب وغيرها، ووصفهم الله  بأنهم كاللؤلؤ المنثور لانتشارهم في الخدمة، فهم ليسوا مجتمعين، وإنما هم منتشرون متفرقون في خدمة أسيادهم، واللؤلؤ إذا نثر كان له من الجمال والحسن ما لا يقادر قدره،حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا، فهم متفرقون في خدمة أهل الجنة، يقومون بحوائجهم.

  1. رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، برقم (75)، وأحمد في المسند، برقم (22636)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2437).