الإثنين 23 / صفر / 1447 - 18 / أغسطس 2025
عَٰلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوٓا۟ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَىٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله :عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ[سورة الإنسان:21] أي: لباس أهل الجنة فيها الحرير، ومنه سندس وهو رفيع الحرير.

عَالِيَهُمْ فهم منه بعض أهل العلم أنه يرجع إلى الولدان، هو تحدث عن الولدان، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ۝ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ۝ عَالِيَهُمْ[سورة الإنسان:19-21] أي: الولدان، ولكن هذا فيه نظر؛ لأن الله يصف نعيم أهل الجنة بأنهم يطوف عليهم ولدان مخلدون، وأن أهل الجنة يلبسون من هذا الثياب الفخمة الجميلةعَالِيَهُمْ ثِيَابُأي: يعلو أجسادهم،عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، السندس هنا قال: هو رفيع الحرير، ويمكن أن يقال: هو ما رق من الديباج، الحرير الرفيع الثمين الجيد الرقيق الخفيف، فالحرير منه ما هو خفيف، ومنه ما هو متين غليظ، فالإستبرق هو الغليظ، والسندس هو الخفيف، فيلبسون هذا وهذا، يلبسون ثياباً خفيفة، وثياباً غليظة من هذا الحرير عالي الجودة.

ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان، وهو مما يلي الظاهر، كما هو المعهود في اللباسوَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ.

الإستبرق معناه في الأصل هو الغليظ المتين من الديباج والحرير.

وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال:يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ[سورة الحج:23].

هذا بناءً على ما مشى عليه ابن كثير -رحمه الله- من أن هذه الآيات تتحدث عن نعيم الأبرار، وهناك ما يتحدث عن نعيم المقربين، ومن قال: إنها تتحدث عن طائفة واحدة، وهم أهل الجنة عموماً، أهل البر والوفاء والصدق والإخلاص والعمل الصالح فقوله -تبارك وتعالى-هنا:وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍوالأساور جمع سوار وهو ما يوضع في المعصم، فـ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ هذا لا ينافي قوله -تبارك وتعالى-:يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ، فهم يحلون إما بهذا تارة وبهذا تارة، فعندهم هذا وهذا كما هو حال أهل النعيم، أو أن ذلك يجتمع لهم جميعاً، يحلون بالأساور التي تكون من فضة، وتكون من ذهب، وتكون من اللؤلؤ، وهذه الأشياء هي أجود الجواهر التي يتعاطاها الناس في زينتهم وحليتهم، فجمع لهم الله ذلك جميعاً، يلبسون منه ما شاءوا، يجمعون ذلك أو يلبسون هذا تارة وهذا تارة، فكل ذلك يجتمع لهم.

ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده:وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًاأي: طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرّديَّة، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: إذا انتهى أهلُ الجنة إلى باب الجنة وَجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى فَجَرت عليهم نضرةُ النعيم، فأخبر بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن.

الآن الله ذكر شرابهم هنا بأنه سقاهم شراباً طهوراً، وهذا الشراب الطهور لم يحدده الله ويبين غايته، ولكن ذلك يُدرك من هذه الصفة، ولهذا بعض أهل العلم قال: إن هذا الشراب الطهور هو الخمر التي ليست بنجسة لا حساً ولا معنى، الله قال عن خمر الدنيا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ[سورة المائدة:90]، إلى أن قال:رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ، فتلك ليست موصوفة بهذا الوصف،شَرَابًا طَهُورًا، ولا شك أن خمر أهل الجنة طهور، وكل ما يشرب في الجنة فهو طهور، ومن أهل العلم من يقول: إن هذا الشراب الطهور يشربونه فيحصل لهم تطهير البواطن من جهتين، ليس في بواطنهم أذى، ومن ثم يدخل فيه قول من قال: إن هذا الشراب الطهور لا يتحول إلى بول وإلى عرق كما هو شراب أهل الدنيا.

تلك المكارمُ لا قَعبانِ مِن لبَنٍ شِيبَا بماءٍ فاستحكمنَ أبوالاً

 فشراب أهل الدنيا مهما كان في اللذة والحسن والطيب والطهارة والنقاوة فإنه يتحول إلى عرق وإلى بول، بخلاف شراب أهل الجنة شراب طهور لا يستحكم في بطونهم بولاً أو في أجسادهم عرقاً، وإنما يكون كرشح المسك، هذا داخل في هذه الصفة أن الله سقاهم شراباً طهوراً، ويدخل فيه ما ذكره كثير من السلف وهو الذي يشير إليه أثر عليٍّ هنا، وقال به جماعة كمقاتل إن هذا الشراب الطهور يطهر بواطنهم من كل دنس وأذى وغل وحقد وحسد، وهذا غاية النعيم في الجنة، الله لما ذكر نعيم أهل الجنة قال:وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ[سورة الحجر:47]، ووصفهم بأنهمإِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ، ليس في صدورهم غش ولا غل ولا حقد ولا حسد، والغل هذا أمر لا شك أنه على اسمه فهو كالغل الذي يوضع في العنق، فهو غل في القلب يربطه فلا ينطلق هذا القلب ويحلق، وإنما يقعده، يتمرغ في أوحال ما يعانيه من الأكدار والألم والتنغيص بسبب هذا الغل الذي في قلبه، الإنسان إذا كان يحمل الغل فإنه يتعذب في هذه الدنيا، ولربما يبيت يتقلب على فراشه من شدة ما يجد، -نسأل الله العافية-، فصاحب الغل معذب في الدنيا قبل الآخرة، وقد يكون ذلك الذي حمل الغل عليه لا يدري عنه شيئاً، يسرح ويمرح ويلهو ولا يكترث به، ولا يسأل عنه، ولم يعلم أنه يحمل هذا الغل عليه أصلاً، وهذا تتقطع كبده من شدة ما يجد، فهذا عذاب، فلا يمكن أن يكتمل للإنسان النعيم واللذة وهو يحمل هذا الغل في قلبه، فكان من تمام نعيم أهل الجنة أن ذلك يُنزع من صدورهم،وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، ليس كشراب الدنيا، إن كانت هذه الخمرة فما فيها من نجس، إما حساً وإما معنى على قول من قال: إنها نجسة حساً، وهذا فيه نظر، وكذلك لا تتحول إلى نجاسة، وكذلك هي تطهر بواطنهم حساً ومعنى،وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، فذكر نعيمهم الباطن، فكانت على هذا التفسير أنها تزيح ما في صدورهم من غل وحسد، فصار ذلك من اجتماع النعيم الحسي والمعنوي، هذا على قول ابن كثير كيف نوجهه؟، بناء على أن هذا الشراب الطهور يطهر البواطن من هذه الأمور المعنوية، فجمع لهم بين نعيم الظاهر وهو ما لهم من الحلي، ونعيم الباطن.