الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱسْتَجِيبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:24].
قال البخاري: اسْتَجِيبُواْ أجيبوا، لِمَا يُحْيِيكُمْ لما يصلحكم[1]، ثم روى عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي فمر بي النبي ﷺ فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج فذهب رسول الله ﷺ ليخرج فذكرت له -وقال معاذ: إن حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلاً من أصحاب النبي ﷺ بهذا - وقال: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] هي السبع المثاني[2].
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ أي: للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقوّاكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم.


قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ كثير من السلف حملها على القتال في سبيل الله، فبه تحصل لهم المنعة، وبه يكون حفظ النفوس والأعراض والبلاد والأموال، وبه يكون حفظ الدين، ويكونون أعزة بين الناس، فإذا ضيعوا ذلك ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، كما قال ابن عباس -ا-  في تفسير قوله - تبارك وتعالى - : وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، وظاهرها العموم، وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي في كل ما تحصل به التهلكة، لكن ابن عباس - ا - فسرها بالامتناع من الإنفاق في الجهاد؛ لأن ذلك يتسبب عنه ضعف المجاهدين فيقوى عليهم عدوهم ويظهر، وإذا ظهر عليهم عدوهم حصل ما حصل من القتل والأسر والاستحواذ على ما في أيديهم، وينشأ عن ذلك أيضاً إضعاف دينهم وفتنتهم وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى، وهو معنى صحيح، وإن كانت الآية تشمل هذا المعنى وغيره، لا شك أنه إذا دعاهم إلى القتال والجهاد في سبيل الله أن هذا من الدعاء إلى ما يحييهم، لكن الآية أعم من هذا، ولهذا حملها بعض المحققين كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - على أنها تشمل كل ما فيه الحياة لهم، فيدخل فيه الجهاد في سبيل الله، ويدخل فيه كل ألوان الحياة الحقيقية الكاملة في الدنيا والآخرة، وذلك أن الاستجابة لله وللرسول ﷺ تحصل به الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة والراحة والنعيم الذي يجده أهل الإيمان بحسب إيمانهم، وبه تتحقق ضروراتهم وتحصل مصالحهم؛ لأنهم إذا لم يستجيبوا لله ولا للرسول ﷺ فإن ذلك يعني ذهاب الدين والعقل، فيتحول الإنسان إلى مشرك عابد لوثن وهذا فساد العقول، وتفسد العقول أيضاً بالخمر والمخدرات وما أشبه هذا، ويكون ذلك سبباً لسلب الأعراض والشرف وضياع النسل، وكثرة أولاد الزنى، ويحصل به أيضاً فساد الأموال، فيأكل الناس أموال بعضهم بالباطل، لا يتحرزون من معاملة محرمة، قصدهم هو الكسب، بأي طريق كان بالقمار والربا والرشى، وغير ذلك، فالضرورات الخمس التي بها الحياة الكاملة لا تتحق، وبهذا تصير حياة الناس أشبه بالحيوانات، فالذي يدخل النار لا يموت فيها ولا يحيى، وأهل الجنة يحصل لهم كمال النعيم، اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ كل ما يأمر به النبي ﷺ فهو داخل في هذا، ففيه الخير وكرامة الإنسان ورفعته وسعادته في الدنيا والآخرة، وحديث أبي سعيد بن المعلى الذي ذكره الحافظ أن النبي ﷺ دعاه وهو يصلي فلما لم يجب احتج عليه النبي ﷺ بهذه الآية: اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ، وظاهر سياق قوله: إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ، يعني من طاعة الله والنبي ﷺ احتج بها على أبي سعيد في الدعاء، أي: إذا ناداكم، كما في حديث أبي سعيد الخدري ولكن النبي ﷺ لم يقصرها على هذا المعنى، فالآية عامة، ومن عمومها الدعاء، فإذا هتف بك يجب عليك إجابته، وقيل: ظاهر السياق: إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ يعني من طاعة الله ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها، ولهذا يقال بأن الآية قد تنزل في معنى وتُحمل على معنى آخر أخذاً من عمومها، كما في قول النبي ﷺ لما قال لعلي وفاطمة - ا - : ألا تصليان؟، فقال علي  : إن أرواحنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فرجع النبي ﷺ ، وهو يلطخ فخذه ويقول: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا[سورة الكهف:54][3] فالآية نازلة في معنى أن الإنسان يجادل في البعث والتوحيد والنبوة والوحي، فحملها النبي - ﷺ واحتج بها في هذا المعنى، وهكذا قال النبي ﷺ : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً وقرأ الآية: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104][4]، فذكرها النبي ﷺ في هذا المعنى الذي هو كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ أي: يعاد كما خرج من بطن أمه غير مختون، وليس عليه ثياب، وسياق الآية في الاحتجاج على البعث بالنشأة الأولى، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة يــس:79]، ولما اختلف الخدري والعوفي - ا - في أول مسجد أسس على التقوى، قال العوفي: قباء، وقال الخدري: مسجد النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: هو مسجدي هذا فهذا لا ينفي عن قباء، وسياق الآية في قباء، لكن مسجد النبي ﷺ أولى بهذه الصفة، وأكمل من مسجد قباء، والله تعالى أعلم.
فالشاهد من هذا أن الآية قد تنزل في سياق معنى، ويؤخذ من عمومها معنى آخر - والله أعلم -.

وقوله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24]، قال ابن عباس - ا - : يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه الحاكم في مستدركه موقوفاً وقال: صحيح ولم يخرجاه[5]، وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي.
وفي رواية عن مجاهد في قوله: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي: حتى يتركه لا يعقل.
وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
وقد وردت الأحاديث عن رسول الله ﷺ بما يناسب هذه الآية.
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: كان النبي ﷺ يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قال: فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟، قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها، وهكذا رواه الترمذي في كتاب القدر من جامعه وقال: حسن[6].
وروى الإمام أحمد عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي ﷺ يقول: ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، وكان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قال: والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه، وهكذا رواه النسائي وابن ماجه[7].


قوله: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ المعاني التي ذكرها الحافظ وغيرها مما نقل عن السلف، يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان، وما ذكر أن الإنسان لا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذن الله - تبارك وتعالى - يحول بينه وبين التوبة، فلا يحصل عليها، يحول بينه وبين قلبه فلا تحصل له الهداية، كل ذلك داخل فيه، ولذلك حملها كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - على أعم معانيها، وأدخل فيها جميع أقوال السلف، فالله - تبارك وتعالى - أملك للقلوب من أصحابها، فهي بين أصبعين من أصابعه، يقلبها ويصرفها كيف شاء، فلا يقدر صاحب قلب على أن يدرك به شيئاً إلا بإذن الله - تبارك وتعالى -، هذا - والله أعلم - من أحسن ما تفسر به الآية، ومناسبة قوله: أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، بعد قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم [سورة الأنفال:24]، أن الإنسان الذي يُعرض عن الاستجابة فإن ذلك قد يكون سبباً لإزاغة قلبه، كما قال الله  : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، فهذا من الجزاء الوفاق، والحكم العدل الذي جازاهم الله - تبارك وتعالى - به، فمن أعرض عن الحق فإن ذلك قد يكون سبباً لطمس قلبه، والله يقول: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ۝ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:75- 77]، وقول النبي ﷺ: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء، وأيما قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء، حتى تصير القلوب على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من مراهقلبين أسود مربادّاً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً[8]، الكوز المجخي أي المنكوس المقلوب، فلا يعي قلبه هدىً ولا ينتفع بموعظة، فالقلوب المعرضة عن الله لا تدخلها الهداية.

  1. صحيح البخاري (4/1703)، كتاب التفسير، باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.
  2. رواه البخاري برقم (4370)، كتاب التفسير، باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.
  3. رواه البخاري برقم (1127)، كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة، ومسلم برقم (775)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.
  4. رواه البخاري برقم (3171)، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا، ومسلم من حديث ابن عباس - ا - برقم (2860)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
  5. رواه الحاكم في المستدرك (2/358)، برقم (3265)، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأنفال.
  6. رواه الترمذي برقم (2140)، كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، وأحمد في المسند برقم (12107)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1685).
  7. رواه الإمام أحمد في المسند برقم (17630)، واللفظ له، وقال محققوه: إسناده على شرط الشيخين، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2091).
  8. رواه مسلم من حديث حذيفة  برقم (231144)، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين. متن الحديث به نقص مخل، ويحتاج إلى إعادة نقله .