الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
وَٱتَّقُوا۟ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمْ خَآصَّةً ۖ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال:25]، يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي: اختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع، كما رواه الإمام أحمد عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا أبا    عبد الله ما جاء بكم؟، ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم تطلبون بدمه!، فقال الزبير  : إنا قرأنا على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان : وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت"[1].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً يعني: أصحاب النبي ﷺ خاصة، وقال في رواية له عن ابن عباس - ا - في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب. وهذا تفسير حسن جداً.

قال كثير من المفسرين: إن هذه في أصحاب النبي ﷺ، وإن ذلك وقع لهم في الاقتتال الذي وقع في الجمل وصفين، فهذا مما يدخل في الآية: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً، فهم داخلون في هذا ولكنها عامة لهم ولغيرهم، فلا تختص بأصحاب النبي ﷺ، ولا يرد على هذا قوله - تبارك وتعالى - : أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة النجم:38]، بأن الإنسان لا يتحمل تبعة ذنب الآخرين، فإن ذلك محمول على من رأى المعاصي والمنكرات ولم ينكر، فإن العقوبة قد تنزل وتكون عامة، والله إذا أهلك هؤلاء بعثهم على نياتهم كما دلت عليه النصوص، وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً إذا نزلت العقوبة عمت، إذا كان الشر والمنكر والفساد ظاهراً، والله ذكر ذلك في الآيات، فقال: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال:73]، فهذا الفساد الكبير والفتنة التي تكون في الأرض تعم، الصالح وغير الصالح، يلقون من نتائجها وآثارها السيئة ويعانون ما يعانون، وهذا هو المنتشر في أقطار الدنيا، لم يحقق أهل الإيمان هذا المعنى بأن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً، ولم يتركوا مولاة الكفار فحصل الإخلال بمقتضى هذه الأمور فحصلت الفتنة الكبيرة والفساد الكبير.

ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً هي أيضاً لكم، وكذا قال الضحاك ويزيد بن حبيب وغير واحد.
وقال ابن مسعود  : ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، إن الله تعالى يقول: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن:15]، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن"[2]، رواه ابن جرير.

فالأموال والأولاد لا تخلوا من فتنة بحال من الأحوال، النبي ﷺ كان يخطب على المنبر، فدخل الحسن والحسين وعليهما ثوبان أحمران، يعثران ويقومان فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ثم قال: صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ[3]؛ لشدة تعلق القلب بهم، لكن الفتن منها ما هو مضل ومنها ما هو ليس كذلك، ولهذا روي عن أم سلمة زوج النبي ﷺ - ا - أنها قالت: يا رسول الله، ألا تعلمُني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى، قولي: اللهم رب النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا[4]، بدلاً من أن تقول: أعوذ بك من الفتن، لكن قول الإنسان: أعوذ بالله من الفتن لا إشكال فيه؛ لأن هذا ورد كثيراً، فلا يقال: إن هذا من الأخطاء.
والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم - وإن كان الخطاب معهم - هو الصحيح.
 

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [سورة الأنفال:25] الآية، والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم - وإن كان الخطاب معهم - هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن، ولذلك كتاب مستقل يُوضَّح فيه إن شاء الله تعالى - كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف - ، ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان - ا - : أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُنّه فلا يستجيب لكم[5].
وروى الإمام أحمد عن أبي الرقاد قال: خرجت مع مولاي فدفعت إلى حذيفة وهو يقول: "إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله ﷺ فيصير منافقاً وإني لأسمعها من أحد في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعاً بعذاب، أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"[6].
روى الإمام أحمد أيضاً عن النعمان بن بشير  : أنه خطب فقال: وأومأ بأصبعيه إلى أذنيه يقول: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا منه، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً[7]، انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم فرواه في الشركة والشهادات، والترمذي في الفتن من غير وجه.
روى الإمام أحمد عن أم سلمة - ا - زوج النبي ﷺ قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال: بلى قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوا[8].
وروى الإمام أحمد أيضاً عن جرير أن رسول الله ﷺ قال: ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب[9]، وأخرجه ابن ماجه.
  1. رواه الإمام أحمد في المسند (3/31)، برقم (1414)، وقال محققوه: إسناده جيد.
  2. رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن (13/475)، رقم (15912).
  3. رواه الإمام أبو داود من حديث بريدة برقم (1109)، كتاب الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث، والترمذي برقم (3774)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد، كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب مناقب الحسن و الحسين عليهما السلام، والنسائي برقم (1413)، كتاب الجمعة، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة، وابن ماجه برقم (3600)، كتاب اللباس، باب لبس الأحمر للرجال، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1016).
  4. رواه الإمام أحمد في المسند (44/201)، برقم (26576)، وقال محققوه: بعضه صحيح بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف شهر، وهو ابن حوشب، وبقية رجاله رجال الشيخين، غير عبد الحميد - وهو ابن بهرام -، فقد روى له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وابن ماجه، وهو ثقة، والطبراني في الكبير (23/338)، برقم (785)، وابن جرير الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن (6/214)، برقم (6652).
  5. رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4/468)، برقم (2169)،وأحمد (5/388)، برقم (23349)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (5 / 169).
  6. رواه أحمد (38 / 339)، برقم (23312)، وقال محققو المسند: أثر حسن.
  7. رواه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه  (2/882)، برقم (2361)، والترمذي، كتاب الفتن،  (4/470)، برقم (2173) وأحمد (4/269)، برقم (18395)، واللفظ لأحمد.
  8. رواه أحمد (44 / 216)، برقم (26596)، وقال محققو المسند: إسناده ضعيف لضعف ليث: وهو ابن أبي سليم، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، غير خلف بن خليفة، فقد روى له مسلم، وهو صدوق.
  9. رواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2/1329)، برقم (4009)، وأحمد (4/364)، برقم (19250)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (9 / 9).