السبت 26 / ذو القعدة / 1446 - 24 / مايو 2025
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوٓا۟ أَوْلِيَآءَهُۥٓ ۚ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا ٱلْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ.
يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول ﷺ بين أظهرهم، ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم وأسر سراتهم، وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك.

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن الاستغفار الواقع هو استغفار المؤمنين، وأنه كان سبب ارتفاع العقوبة عنهم، لكن الله يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، ولم يقل: وفيهم من يستغفر، فأضاف الاستغفار إليهم، ليدل على أنه يريد بذلك الكفار الذين استحقوا العذاب، وهذا الاستغفار غير واقع منهم وهم في غاية الكفر والعناد ويقولون: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً،  فتفسير ابن جرير المتقدم أقرب والله أعلم، وبه يفهم ما بعده من قوله: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وكثير من أهل العلم استشكل هذا، ثم قال: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ فيُجمع بين هذا وبين هذا، فبعضهم يقول: هذا من قبيل النسخ، وهذا بعيد؛ لأن هذا خبر والخبر لا يتطرقه النسخ، ولكنهم لجئوا إلى هذا لمحاولة دفع الإشكال، وعلى قول ابن جرير يكون المعنى في غاية الوضوح، وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ أي: فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد.

ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال تعالى في يوم الحديبية: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة الفتح:25].

هذا في قضية معينة وهي دخول الجيش إلى مكة في قصة الحديبية، فكان المانع وجود بعض المؤمنين الذين لو دخل الجيش لوقع عليهم القتل الخطأ، فدفع الله ذلك لَوْ تَزَيَّلُوا أي: لو تميزوا عن الكفار لوقع بالكفار النكال والبأس الذي يجريه الله على أيدي المؤمنين، لكنهم يقولون: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا [سورة الأنفال:32]، يريدون عقوبة إلهية، فذكر الله أنهم مستحقون لها، فالاستغفار ليس واقعاً من المؤمنين الذين بين أظهرهم، ويكون ذلك مانعاً من عقوبة البقية، فالكفر إذا وقع وظهر فإن الناس يستحقون العقوبة، والمؤمنون ينجيهم الله ، وإن كانوا يمالئونهم وليس لهم عذر وقع العذاب بالجميع، ولذلك لما جاءوا معهم في غزوة بدر نزل فيهم قول الله : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [سورة النساء:97]، فلا عذر لهم، هؤلاء ممن قتل مع المشركين في يوم بدر من المسلمين، نبيه ومنبه من بني الحجاج، وجماعة خرجوا في يوم بدر مع المشركين، وهم مسلمون.

وقوله: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: وقوله: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنفال:34] أي: وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة؟، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به، ولهذا قال: وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ أي: هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي ﷺ وأصحابه كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ۝ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [سورة التوبة:17-18]، وقال تعالى: وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ [سورة البقرة:217] الآية.
وروى الحاكم في مستدركه عن رفاعة قال: جمع رسول الله ﷺ قريشاً فقال: هل فيكم من غيركم؟ فقالوا: فينا ابن اختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا فقال: حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا، إن أوليائي منكم المتقون[1] ثم قال: هذا صحيح ولم يخرجاه.
وقال عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ قال: هم محمد ﷺ وأصحابه وقال مجاهد: هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا.
  1. المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال (2/358)، برقم (3266).