السبت 26 / ذو القعدة / 1446 - 24 / مايو 2025
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلَّا مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا۟ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم ذكر – تعالى - ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام، وما كانوا يعاملونه به فقال: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [سورة الأنفال:35] قال عبد الله بن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس     ونبيط بن شريط وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الصفير. وزاد مجاهد: وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس - ا - في قوله: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، والمكاء الصفير، والتصدية التصفيق، وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس - ا - وكذا روي عن ابن عمر -ا- ومجاهد ومحمد بن كعب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وحجر بن عنبس وابن أبزى نحو هذا.
وروى ابن جرير عن ابن عمر - ا - في قوله: وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً  قال المكاء: الصفير، والتصدية التصفيق.
وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد: وَتَصْدِيَةً قال: صدُّهم الناس عن سبيل الله قال: فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة الأنفال:35] قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق: هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي.


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكانت عمارة المشركين للبيت الحرام كما أخبر ربنا – تبارك وتعالى - : وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [سورة الأنفال:35]، ولذلك لما كانوا بهذه الحال من الإشراك والاشتغال بالباطل والصد عن سبيل الله لم يكونوا أولياء البيت الحرام؛ لأن عمارته إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح والصلاة والذكر، وقد قال الله : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [سورة التوبة:17].
والذي عليه عامة أهل العلم أن المكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق، قال عنترة:

حَلِيل غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَنْدَلاً تَمْكُو فَرَائِصُهُ كَشِدْقِ الْأَعْلَمِ

وقال حسان بن ثابت :

إذا قام الملائكة انبعثتم صلاتكم التصدي والمكاء

وبعضهم فسر المكاء بوضع الأصابع في الفم، والتصدية بالتصفير، وهذا خلاف المشهور، وقد كان الكفار يفعلون المكاء والتصدية لسببين:
الأول: تقرباً إلى الله وتعبداً.
الثاني: يصفرون ويصفقون ليشغلوا النبي ﷺ وحتى لا يستمع إليه أحد، وقد قال الله – تبارك وتعالى - عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [سورة فصلت:26] وهذا الفعل منهم في غاية السفه، ولا يفعله صاحب المروءة وإنما يفعله سفهاء الناس.
وقد أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية المنع من التصفيق والتصفير؛ لأن الله قد ذم ذلك وعابه، فلا يليق بالمسلم أن يشابه الكفار.
وفي بعض الروايات الإسرائيلية أن المراد بقوله - تبارك وتعالى - عن قوم لوط ﷺ: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [سورة العنكبوت:29] التصفير والتصفيق والأفعال التي لا تليق، وقد قال النبي ﷺ إنما التصفيق للنساء[1].
ويفهم من هذا الحديث أن تصفيق المرأة في غير الصلاة جائز من باب أولى، فالتصفيق في حق النساء أسهل منه في حق الرجال، ومعلوم أن المرأة قد يترخص في حقها أكثر مما يترخص في حق الرجل، مثل الضرب بالدف فإنه لا يجوز للرجال لا في النكاح ولا في العيد ولا في غيره، ولكن النساء يحل لهن ذلك، نظراً لما جُبلن عليه، ومغايرتهن للرجال في الطبيعة والخلقة.
فلا يحسن بالرجل أن يصفق ولا يصفر، والنبي ﷺ كان إذا أعجبه شيء كبر، وإذا تعجب من شيء سبح.
قوله: فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة الأنفال:35] هذه الآية كقوله – تبارك وتعالى - : ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [سورة الدخان:49]، مع أن العذاب إنما يقع على أبدانهم ونفوسهم، والذوق معلوم أنه يختص باللسان، ولكن صار يعبر عنه بكل من وجد غبّ شيء وألمه.

  1. رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول أو لم يتأخر جازت صلاته فيه عائشة عن النبي ﷺ، (2 / 95)، برقم (684)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء (2 / 27)، برقم (982).