"وقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي: جمعت، كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38]، قال ابن عباس: يحشر كل شيء حتى الذباب، رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً [سورة ص:19]، أي: مجموعة.
هنا وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً جاء به من أجل بيان معنى الجمع، مَحْشُورَةً يعني: مجموعة، لكن ليس المراد يوم القيامة هنا في الآية، وإنما ذلك لما أعطى الله لنبيه ﷺ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ [سورة ص:19]، فهذه من الأشياء التي خصه الله بها، أعني سليمان - عليه الصلاة والسلام -.
لكن الآية الأخرى التي ذكرها في سورة الأنعام وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] إلى أن قال: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ، هذا الحشر يوم القيامة، فهذا دليل من القرآن على حشر هذه الدواب، والبهائم، وهنا وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ هل المقصود به حشر يوم القيامة، أو أن ذلك في الدنيا؟ الرواية السابقة عن أبي بن كعب أن ذلك في الدنيا، أنها تختلط مع الناس، تختلط مع بعضها، لا يفر بعضها من بعض، والوحش يقال لكل ما لم يأنس من الحيوان، سواء كان ذلك من الصيود، أو كان من غيرها، يعني السباع، كله يقال له: وحش، يعني: آكلة اللحوم، وكذلك أيضاً التي تأكل النباتات: الظباء وغيرها، كل ذلك يقال له: وحش، الحُمر الوحشية، السباع؛ لأنها لا تأنس، فهي تفر من الناس ومن مجامعهم، فعند ذلك على قول أُبيّ: تختلط، والمعنى الآخر أنها تحشر يوم القيامة، تبعث حتى يقتص بعضها من بعض، وبعضهم يقول: حشْرُها موتُها، وجاء هذا عن ابن عباس ، وبعضهم يقول: تضم في ذلك اليوم إلى الناس، تختلط بالناس، تكون يعني أليفة، لا تستوحش من مخالطتهم.
والربيع يقول: أتى عليها أمر الله، ما هو أمر الله؟ ابن عباس يقول: ماتت، لكن كلمة الربيع مبهمة - أتى عليها أمر الله -، يحتمل أن يكون الموت، ويحتمل أن يكون أنها تختلط مع الناس ويذهب ما بها من الاستيحاش، أو غير ذلك.
ابن جرير جمع بين معنيين، الجمع، والإماتة، قال: جُمعت، فأميتت، وهذا يمكن أن يحمل على أنها تجمع - تحشر - يوم القيامة، فيقتص بعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني تراباً، هذا الذي دل عليه الحديث، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، فتبقى هذه الآية محتملة أن يكون هذا الحشر في الدنيا، ولها حشر في الآخرة، ثم يقال لها: كوني تراباً، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الحشر يوم القيامة يقتص بعضها من بعض، لكن الحشر يوم القيامة - ولو حملت هذه على الدنيا كما جاء عن أبيّ ثابت لهذه الوحوش، أو الحيوانات، هنا ذكر الوحوش مع أن كل الحيوانات تحشر حتى غير الوحوش، كما قال النبي ﷺ: حتى تقتص الشاة الجَلحاء[1]، يعني التي ليس لها قرون من الشاة القرناء، هذه ليست من الوحوش، ولعل هذا هو السبب الذي جعل بعض السلف كأُبيّ يقول: هذا في الدنيا، أي أنها تختلط؛ لأنه خص الوحوش، وإلا فيوم القيامة كل الحيوانات تحشر فلماذا خص الوحش؟
يمكن لقائل أن يقول: إنه إذا كان المراد يوم القيامة خصت الوحوش لأنها نافرة لا تأنس، ومع ذلك فإن الله قادر على جمعها وحشرها مع تفرقها، وشدة نفورها، ولذلك الشيء بالشيء يذكر، الله - تبارك وتعالى - لما ذكر الحجيج وذكر التعجل، والتأخر قال: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203]، مناسبة ذكر الحشر هنا في نفور الحجيج كما لفت بعض أهل العلم قال: الناس يتفرقون من كل ناحية بعد الحج، لا يلتقون إلا يوم القيامة، كيف تجمع هؤلاء الحجيج الذين جاءوا من أصقاع الدنيا بعدما يتفرقون في اليوم الثاني عشر، والثالث عشر؟ ما الذي يجمعهم؟ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة البقرة:203]، يجمعهم يوم الحشر، هؤلاء الذين يذهبون بعضهم يموت، وهذا في المشرق، وهذا في المغرب، وهذا لا يحج غير هذه الحجة، لا يمكن أن يجتمعوا جميعاً في سنة واحدة، ويحج كل هؤلاء الذين حجوا، ولذلك هذا المشهد في تفرق الناس -الحجيج- في اليوم الثاني، وفي اليوم... هو يذكِّر بأشياء من الآخرة لا تخفى على ذي لُب.
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (8847)، وقال محققوه: "إسناده صحيح".