وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ أهله هنا يقول: يرجع إلى أهله في الجنة، قاله قتادة، إلى أهله في الجنة من هم؟
يحتمل أن يكون الأهل بمعنى الذين هم من عشيرته في الجنة، كما يقول بعض أهل العلم، ويحتمل أن يكون الزوجات والأولاد والذين سبقوه إلى الجنة ينقلب إليهم مسرورًا، ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما أعد له في الجنة من الحور، والولدان ينقلب إليهم مسرورًا، أو أن المراد جميع ذلك، يرجع إلى أهله مسرورًا، وجاء عن قتادة أنهم أهل أعدهم الله له في الجنة، ولكن هذا يحتمل، ومن سبقه من أهله في الجنة فإنه لا شك يصير إليهم، ويلحق بهم، ويكون في غاية السرور، وهذا أيها الإخوان هو السرور الحقيقي، وهذه الغبطة الحقيقية، وهذا هو النجاح الحقيقي أن الإنسان في ذلك اليوم لمّا تعطى الصحف لأصحابها يأخذ كتابه بيمينه، فهذا هو الذي يطير فرحًا، ويقول بأعلى صوته أمام الخلائق: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ هذا هو الفوز الأعظم، الفوز الأكبر، هذا هو الفوز الكبير، وأما من أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره - نسأل الله العافية - فهذا هو الذي يخسر الخسارة التي ليس بعدها خسارة، فهذا الذي يكون في حسرة يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ [سورة الحاقة:25-26]، هذا الذي لا يستطيع أحد أن يتوسط، ولا يتدخل، ولا يشفع، ولا يدفع، ولا يعاوض، ولا يساوم، ولا بالقوة، إنما الهلاك المحقق هو مصيره - نسأل الله العافية -، وهذا الفراق الذي ليس بعده لقاء، والعذاب الذي ليس بعده راحة، فما يحصله الإنسان في الدنيا من نجاح في دراسة، أو نجاح في عمل، أو وظيفة، أو مال، أو كسب في تجارة، أو غير ذلك مما يفرح به الناس هذا فرح لا يذكر، ونجاح لا يذكر بالنسبة للنجاح الحقيقي، قد يتعثر الإنسان في الدنيا في مشروعات، في تجارة، يتعثر في عمل، يتعثر في دراسة، يتعثر ثم ماذا؟.
يعيد الكرة ثانية، وثالثة، وما مات هؤلاء الذين تعثروا من الجوع، بل لربما صرفهم ذلك إلى ما هو أجدى وأنفع، فترى الرجل الذي تعرفه، ولم يفلح في دراسة إذا لقيته بعد سنين إذا هو في حال قد فتح الله عليه، لو أعطيته ما أعطيته من الأموال على أن يرجع إلى دراسته التي أخفق فيها لا يرجع، ورأينا هذا، لكن الإخفاق الحقيقي هناك إذا أخذ الكتاب بشماله، النجاح الحقيقي هناك إذا أخذ الكتاب باليمين، فهذا الذي ينبغي أن تتوجه إليه الهمم، والأعمال، وأن يشتغل الإنسان في تحقيقه، وتحقيق هذا المطلب هو العمل في هذه الحياة الدنيا، امتداد الحياة من أولها إلى آخرها، أن يسخر ذلك في طاعة الله، والعبودية له من أجل أن يفوز هذا الفوز الحقيقي، وإلا فالدنيا قصيرة، لا شيء، والذين ماتوا هم أسرى في القبور ينتظرون البعث من أجل أن يأخذ الواحد كتابه في هذا أو في هذا، ليس هناك مجال للتوبة في القبر، ولا أعمال صالحة، ولا استدراك، ولا مراجعة، هو ينتظر فقط، هذا يقول: ربي أقم الساعة، وهذا يقول: ربي لا تقم الساعة، إذًا الواحد لا يدري متى يموت، ونحن كل يوم في كل فرض يُصلَّى على جنائز، فيحتاج الإنسان أن يفكر، وأن ينظر، ويطرد أسباب الغفلة، ويجدّ ويجتهد؛ من أجل أن يفلح، ويأخذ كتابه بيمينه، هذا هو الفوز الحقيقي الذي ليس بعده كدر، ولا تنغيص، ولا مرض، ولا صداع، ولا ألم، ولا مشكلات، ولا إزعاج، ولا لغو، ولا تأثيم، الراحة الكاملة - والله المستعان -.