"وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:11-17].
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: قال ابن عباس: الرجع: المطر، وعنه: هو السحاب فيه المطر، وعنه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ تمطر ثم تمطر، وقال قتادة: ترجع رزق العباد كل عام، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم."
ابن القيم - رحمه الله - له كلام على قوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، يقول - رحمه الله تعالى - : "ونبه على هذا بقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي: تُختبر، وقال مقاتل: تظهر، وتبدو، وبلوت الشيء: إذا اختبرته؛ ليظهر لك باطنه، وما خفي منه، والسرائر: جمع سريرة، وهي: سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه لله، فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتختبر ذلك اليوم حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له.
وقال عبد الله بن عمر - ا -: يبدي الله يوم القيامة كل سر، فيكون زينًا في الوجوه، وشينًا فيها، والمعنى: تختبر السرائر بإظهارها، وإظهار مقتضياتها من الثواب، والعقاب، والحمد والذم.
وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو: أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحًا...[1]."
هو تكلم عن السرائر بأنها مخبآت النفوس، ثم وسع المعنى، قال: "وفي التعبير عن الأعمال بالسرائر"، يعني: ليست فقط هي مخبآت النفوس، ومكنوناتها مما لا يطلع عليه، وإنما أيضاً الأعمال، فقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي: تبلى مخبآت النفوس، وأعمال الناس، فالتعبير عن الأعمال بالسرائر يقول: لأنها ناتجة عنها.
يقول: "فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحًا، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا، وظلمة، وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم، والظهور لها، قال الشاعر:
فإنّ لها في مضمرِ القلبِ والحشا | سريرةَ حبٍّ يوم تُبلى السرائرُ"[2] |
لا شك أن السر خلاف العلانية، وأن ذلك ما يخفى على الناس، وإنما يكون هذا أول ما يكون في المقاصد، والنيات، وما يضمره الإنسان من نفاق، وإيمان، وما إلى ذلك، هذه كلها مما لا يطلع عليه الناس، ولكن تبدو لهم العلانية في الآخرة، ويظهر كل شيء، ويبدو، ولا يخفى، وتبتلى سرائر الناس، فيظهر ما كان خافيًا، ويلقى العبد جزاءه على ما كان عليه من حقيقة ينطوي عليها قلبه في الدنيا، وهذا يدعو إلى تصحيح النيات، وتصحيح المقاصد، فلربما إذا عمل الإنسان عملاً يفني فيه عمره، ونيته فيه مدخولة، فيكون ذلك نقصًا، وشينًا، ويورثه ذلك أيضاً حسرة، وعذابًا؛ لأن الإنسان يحاسب، ويعذب على هذه الأعمال، والمقاصد الفاسدة، كالرياء، والسمعة، فهي من الشرك، فيحاسب عليها، ولا يخرج الإنسان كفافًا لا له، ولا عليه، فينقضي عمر الإنسان، وتذهب جهوده، وأعماله، وسعيه، وتعبه من جراء ما يتحدث عنه، ويبديه بطريقة، أو بأخرى للناس، كصيام، أو قيام، أو اعتكاف، أو قراءة، أو طلب علم، أو جهاد، أو غير ذلك، فيكون ذلك نقصًا في حقه، فلا يكون كمالاً، ولا يكون كفافًا لا له ولا عليه، فمثل هذه الآيات تدعو إلى المحاسبة الشديدة للنفس؛ لئلا تضيع الأعمال، ثم تنقلب إلى حسرات، وجرائم يحاسب عليها العبد، وهي في لبوس طاعات في الدنيا - والله المستعان -.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ، يقسم بالسماء الموصوفة بهذه الصفة.
يقول ابن كثير هنا: "قال ابن عباس: الرجع: المطر"، وهذا قال به كثيرون من أهل اللغة، وأصحاب المعاني، والمفسرين كالزجاج، وقال به الخليل بن أحمد أيضاً، وعزاه الواحدي إلى المفسرين جميعًا، مع أن هذا ليس محل اتفاق بين المفسرين، لكن قال به كثيرون، وهذا قول الجمهور، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ يعني: المطر، لماذا قيل له: الرجع؟ بعض العلماء يقولون: لأنه يرجع ثانية، يعني: يقولون: لكون المطر في أصله - وهو السحاب - يتبخر من البحار، ثم يرجع إلى الأرض ثانية، هذا ليس من الاكتشافات الجديدة التي عرفها الناس اليوم، هذا يعرفونه في الجاهلية، كما يقول أبو ذؤيب الهذلي:
شربنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعتْ | متى لُجَجٍ خُضرٍ لهنّ نئيجُ |
وهي: السحب الثقيلة المليئة بالماء، من أين شربن؟ شربن بماء البحر، هذا شاعر جاهلي.
فإذاً: المطر يسمى: رجعًا باعتبار أنه يرجع ثانية بعد أن كان مصدره من هذه الأبخرة بإذن الله أو أنه يرجع مرة بعد مرة، يعني: المطر يتكرر، وهذا هو الأشهر من أقوال أهل العلم، فقيل له: رجع من الرجوع، فهو ينزل مرة بعد مرة، ويتكرر نزوله.
وقال ابن كثير أيضا: وعنه: هو السحاب فيه المطر، وهذا ليس ببعيد، يعني: هذا قريب من الذي قبله، بأي اعتبار؟ باعتبار ما سبق: أنه يتكون من الأبخرة الصاعدة من البحر، ثم يرجع، أي: السحاب يتكون من البخار، ثم بعد ذلك ينزل المطر.
وقال: "وعنه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ: تمطر، ثم تمطر"، يعني: هذا تفسير للتسمية، وهكذا علل بذلك بعض أصحاب معاني القرآن، مثل الزجاج: أن ذلك لتكرار المطر، ولرجوعه ثانية، وعبارة ابن جرير - رحمه الله - قريبة من هذا، باعتبار أن السماء ترجع بالغيوم، وأرزاق العباد كل عام، يعني: هذا بمعنى قول من قال: إن المطر يرجع مرة بعد مرة، وابن جرير يقول: هذا وصف للسماء: أنها ذات الرجع، أي: ترجع بالغيوم، وترجع بأرزاق العباد كل عام، ويلاحظ أن قول ابن جرير يشبه قول قتادة، وابن القيم - رحمه الله - له تعليق على هذا المعنى.
يقصد بالتمثيل: أنه حينما يقال: المطر مثلاً، والآخر يقول: السحاب.
يعني: ابن القيم - رحمه الله - عمم المعنى في قوله: ذَاتِ الرَّجْعِ، فإن ما ينزل على العباد من الخيرات والبركات إنما هو من قِبل ما ينزله الله من السماء، ومن ذلك المطر، فيرى ابن القيم أن هذا من قبيل التفسير بالمثال، وأنه أحد الصور الداخلة تحت هذا المعنى الكبير.
- التبيان في أقسام القرآن (ص: 105).
- المصدر السابق (ص: 105 - 106).
- المصدر السابق (ص:106).
- المصدر السابق (ص:106 - 107).