قوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ فيه ثلاثة أقوال: الأول: إذا ذهب، والثاني: حتى يُذهب بعضه بعضاً، والقول الثالث: إذا سار، أي: والليل إذا سار، كما يقول ابن جرير: سار فذهب، يعني: أقسم بالليل في حال سريانه، فأقسم بالفجر، وأقسم بالليل في هذه الحال؛ ولهذا بعضهم قال - وهو قول روي عن ابن عباس - ا -: إن الفجر فُسر بالنهار، وهذا استبعده المفسرون، باعتبار أن الفجر ليس هو النهار، لكن لو أردنا أن نوجه هذا القول لو صح عن ابن عباس - ا - يقال: إنه قابله بالليل، فالنهار ليس الفجر فقط، وإنما عبر عن النهار بأشرف أوقاته وهو: الفجر، هذا لو أردنا أن نوجه هذا القول، لكني تركته؛ لأن المشهور والذي عليه عامة أهل العلم خلاف ذلك، وهناك أيضا رواية أخرى عن ابن عباس، وإلا فيمكن توجيهه بهذه الطريقة، لكن هذه هي القرينة على ذاك القول الذي أغفلت ذكره، وهي: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، أي: أنه قابل هذا بهذا - والله تعالى أعلم -.
ونلاحظ هنا: أن هذا الفعل: يَسْرِ حذفت منه الياء، فما قال الله: والليل إذا يسري، بل حذفت في الرسم، وحذفت أيضاً في اللفظ، أي: في القراءة، فنقرأ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، وما نقرأ: يسري، فما علة ذلك؟ ولماذا حذفت هذه الياء؟ انظر إلى همم العلماء في البحث عن خبايا القرآن، وإن كان الجواب لا يخلو من إشكال - أي: فيما سأورده الآن- فالأخفش إمام في اللغة يقول: سألت المُؤرِّج عن هذه العلة: لماذا حذفت الياء؟ فماذا قال له؟ وبماذا طالبه؟ قال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، انظر إلى هذا، فبعض الإخوان يستكثر إذا قيل له: تعال بعد الصلاة، في حال إذا كان عنده سؤال بعدما يجلس الواحد هنا، ويجيب على جميع الأسئلة، وينتهي الوقت، فإذا قيل له: انتظر، أو بعد الصلاة، أو نحو ذلك يستطيل هذا، ويستكثر، وبعض الإخوان يوافق، ولكن يأتيك قبل الأذكار، فأول ما نسلم يأتي ويسألك، فإذا قيل له: انتظر نكمل الأذكار يذهب، ولا يحتمل، وهذا يقول له: حتى تبيت على بابي سنة، ونحن نعتكف عشرة أيام، ونرى أنه تطاولَ الليلُ، والنهار، متى تنتهي هذه العشر؟ وانظر إلى الحال ليلة العيد إذا أعلن انتهاء الشهر، كأننا ننفر من أيام منى، فالناس يسرعون إلى أمتعتهم وكأنهم سيدركون ماذا - وأنا منهم - يقول الله: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، وتأمل هذا في ليلة العيد، وانظر كيف ينفر المعتكفون أسرع ما يكونون، تمامًا كما ينفرون من منى في اليوم الثاني عشر، فهم في غاية الإسراع.
يقول: حتى تبيت على بابي سنة كاملة، فبات على بابه سنة، يقول: بت على باب داره سنة؛ من أجل أن يحصل على هذا الجواب المبارك، هذا هو الصبر، والهمم، ماذا قال له في الجواب بعد سنة؟ الجواب فيه نظر أصلاً، قال له: الليل لا يسري، الله قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، ولكن هو قال له: الليل لا يسري، وإنما يُسرَى فيه، فهو مصروف عن جهته، يعني: أضيف الفعل إليه، يقول: وكل ما صرفتَه عن جهته بخستَه من إعرابه، فسقطت الياء؛ لأنه مصروف عن وجهه، هذا جواب غلّطه فيه العلماء من أهل اللغة، ومن المفسرين، وقالوا: هذا كلام غير مقبول، وغير صحيح، وليس كل ما صرف عن وجهه بخس من إعرابه، وذكروا أمثلة لذلك مما صرف عن وجهه ولم يبخس من إعرابه، وردوا عليه، وقالوا: الأصل هنا إثبات الياء؛ لأنه لا يوجد موجب لحذفها، وهي حرف علة، وحرف العلة يحذف في حالة الجزم إذا كان الفعل مجزومًا، وهنا لا يوجد، فالأصل إثبات الياء، فهي لام الفعل المضارع المرفوع: يسري، وهذا ليس بمجزوم، فلم تحذف لعلة، وهي: الجزم، إذًا قالوا: هذا لاتباع رسم المصحف، ومراعاة رءوس الآيات فقط، وإلا فالفعل مرفوع، فقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ؛ اتباعا للرسم، ومراعاة لرءوس الآيات: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [الفجر: 1-4] فلو قيل: والليل إذا يسري لصار ذلك مباينًا لرءوس الآيات، غير موافق لها.
على كل حال إنما ذكرت قول المؤرج لمّا سأله الأخفش؛ للعبرة، ففيه فائدة فيما يتصل بالهمة في طلب العلم.