يخبر تعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضاً منافقون مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ أي: مرنوا، واستمروا عليه، ومنه يقال: شيطان مريد، ومارد، ويقال: تمرد فلان على الله أي: عتا، وتجبر.
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ كلمة مرد تدل على التجرد، تقول: أرض مرداء يعني لا نبت فيها، وفرس أمرد يعني لا شعر عليه، وغصن أمرد يعني لا ورق فيه، فهذا معنى المَرَد مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ كأنهم تجردوا للنفاق، يعني أنهم منافقون نفاقاً خالصاً، فمن الناس من يكون فيه شعبة من نفاق؛ عنده نفاق كما قال النبي ﷺ: أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها[1]، فالمؤمن قد يجمع بين الإيمان وشيء من صفات المنافقين، لكن هؤلاء مردوا على النفاق يعني أنهم خلّص، واللفظة هذه تشعر أيضاً بأنهم قد حذقوا، وتمرسوا على التلون؛ لأن لفظة مرد كما تدل على التجرد تدل على ملاسة، وليونة، فهذا يعطيك - مثل جلد الحرير - ملمساً ناعماً، ويستطيع في كل مقام أن يتحدث باللغة التي تناسب هذا المقام، ويتلون بحسب مقتضى الحال، متمرس، وليس أخرق يمكن أن يأتي بواقع، ويخبط، ويخلط في المجلس الواحد، وإنما يتكلم بطريقة مناسبة، إذا تكلم أعجبك كلامه كما قال الله : وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [سورة المنافقون:4]، فهذا يحسن التمثيل، يحسن النفاق بحيث لا يستطيع كثير من الناس أن يعرفوا نفاقه، أو أن يثبتوا عليه ذلك.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في هذه الآية أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس، فلان في الجنة، وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك، قال نبي الله نوح : وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الشعراء:112]، وقال نبي الله شعيب : بَقِيَّتُُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [سورة هود:86] وقال الله لنبيه ﷺ: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.
بمعنى أن هذا الأثر الذي هو مستنبط من هذه الآية يدل على معنى عظيم وهو الطريقة التي كان عليها السلف ، أنه ما كان شغلهم في الأشخاص فلان فيه، وفلان ما فيه، فلان فعل، وفلان ترك، ثم يختلفون هل هو كذلك أو ليس كذلك، ثم بعد ذلك يتعادون، وكل واحد يتهم الآخر، ما كان السلف بهذه الطريقة، كان السلف يحذرون مما حذر الله منه، وينكرون المنكرات، ولا يكون شغلهم بعد ذلك هل فلان بفعله هذا فسقَ أو لا؟ هل اجتمعت فيه الشروط، وانتفت الموانع؛ أو لا؟
فواحد يقول: فسق، والثاني يقول: لم يفسق، ثم ينقسمون إلى فرقتين كل فرقة تلعن الثانية، فالسلف كانوا على غير هذه الطريقة، فهذه طريقة الجهال، وأصحاب الهوى، السلف ما كانوا بهذه الطريقة، يأتي الشاب ما ثني ركبته في مجلس علم يوماً واحداً، ولا رأيته في يوم واحد يطلب العلم ومعه دفتر! فلان كافر أو لا؟! أسئلة كلها عن العذر بالجهل، وتكفير المعين، تسأله تقول: ماذا درست من العلم؟ وعلى من قرأت؟ ما هي الكتب التي درستها؟ يقول: ما علاقة هذا بهذا؟ مع أنه يسأل عن كبار العلم؟ مسائل تتعلق بالعذر بالجهل، وتكفير المعين، فالسلف يحذرون مما حذر الله منه، هذا لا يجوز، هذا حرام، هذا كفر، ولذلك لما وقعت مسألة القول بخلق القرآن حذروا منها، وأفتى خمسمائة من علمائهم بكفر من قال بخلق القرآن، لكن ما تحولوا بعد ذلك إلى معركة فيما بينهم، وانقسموا إلى سبعين فرقة، هل المأمون كافر أو لا؟ هل المعتصم كافر أو لا؟ وهل المتوكل كافر أو لا؟ وكذلك ابن أبي دؤاد كافر أو لا؟ أبداً هذا لم يحصل بينهم، هذه أمة واحدة مجتمعة، فهذه المسائل يعني الحكم على الإنسان المعين أنه فسقَ أو صار مبتدعاً، أو أنه صار كافراً يحتاج إلى اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، ولستَ معنياً أنت بهذا، ويقال لهذا الشاب: لستَ معنياً بهذا، لا حاجة لك بهذا الدفتر، اطلب العلم، ادرس الأصول الثلاثة، والقواعد الأربعة، ومسائل الجاهلية، وكتاب التوحيد، والواسطية، والحموية، ادرس العلم، ادرس الحديث، والأصول، والتفسير، وهذه العلوم كلها مترابطة، وآخر ما تدرس هي مسائل العذر، وما العذر، والذين يكتبون في هذا غالباً الذي يقرأ وهو خالي الذهن يقرأ لهذا، هذا كلام شيخ الإسلام، وكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكلام من الدرر السنية، هذا كلام ممتاز، لكن في كلام آخر لهم ونفس العالم له كلام آخر في موضع آخر، هو في مقام الرد يقول كلاماً، وفي مقام التقعيد، والتنظير؛ يقول كلاماً آخر، هذه الرسالة كتبت في مناسبة معينة للتحذير من كذا، فما تجعل هي القاعدة فيأتي الذي هو خالي الذهن يقول فقط هذا الكلام!! هذا كلام العلماء صريح!!، ويأتي الشخص الذي في الضفة الأخرى، ويأتي بكلام آخر لهم ينقله من كتبهم، يقول: هذا كلامهم، ويأتي من يقرأ وهو خالي الذهن، صادف قلباً خاوياً فتمكنا، هذه مشكلة!! فلو اشتغلنا بهذا نبين للناس الحق، ودين الله الذي بعث به رسول الله ﷺ، ونحذرهم ما حذرهم الله منه، وبعد ذلك لا نبدأ نمسك هذا، وهل تنطبق عليه الشروط؟، هو فعل هذا أو ما فعله؟، ويأتي الإنسان ما عنده مبادئ من العلم؛ ويريد أن يكون حاكماً، وقاضياً، ومنفذاً أحياناً!! فهذا خطأ! خطأ! وافتراق الناس على أن فلاناً جيد أو غير جيد كله من عمل الشيطان، لا يفعله إلا من كان جاهلاً لا يعلم ما يجب به الافتراق ونحو هذا، أو عنده هوى!! وأحياناً يجمع بين الجهل، والهوى، مستعد أن يرمي من خالفه في هذا بكل قبيحة، فهذا الكلام عن قتادة - رحمه الله - كلام جيد مفيد - والله المستعان -.
يعني هنا سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ الله لم يبين لنا هاتين المرتين؛ لأنه لا حاجة لنا بهذا، هو سيتولى تعذيبهم وليس لنا ذلك فحسابهم على الله ، وبعض العلماء يقول: ما يحصل لهم من التعذيب في الدنيا بالأموال، والأولاد، والمرة الثانية في عذاب النار، وبعضهم يقول: المرة الثانية هي عذاب القبر؛ لأن الله قال: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ يعني عذاب النار، والذين قالوا: إن المرة الثانية هي عذاب النار، قالوا: إنهم يعذبون عذاباً خاصاً، المرة الثانية في النار، ثم بعد ذلك يردون إلى عذاب عظيم، إلى العذاب الشامل عذاب أهل النار، وبعضهم يقول: يعذبون في النار، ثم يردون إلى الدرك الأسفل منها، وبعضهم يقول: العذاب في الدنيا أخذ الزكاة منهم، وفضيحتهم، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة، ولا حاجة إلى تعين هذا، ولا دليل على تعين هذه الأمور، والله أخبرنا إنه سيعذبهم مرتين يحتمل أن يكون هذا ما يحصل لهم في الدنيا من الفضيحة، وكراهية المؤمنين لهم، وأنهم يشعرون دائماً بهاجس، وقلق، وخوف، وانزعاج؛ فلا تقر أعينهم، ويعذبون بهذه الأموال، والأولاد، والتي من أجلها وقعوا في النفاق، والمرة الثانية عذاب القبر، يحتمل هذا، لكن لا توجد حاجة إلى تحديد هذه الأمور، والله لم يحددها.
ولهذا ابن جرير - رحمه الله - قرر أن التحديد لا دليل عليه، وأن الاحتمال قائم، لكنه ما يقول لا يبعد أن يكون المراد عذابهم في الدنيا بأموالهم، وأولادهم، وفضيحتهم وعذابهم الثاني في القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وهو عذاب النار.
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (34)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (58).