الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِىِّ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة:117].
قال مجاهد وغير واحد: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد، والماء.
قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم، وأقفلهم من غزوتهم.
وروى ابن جرير عن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً، فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء،فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! إن الله قد عَوّدك في الدعاء خيراً، فادع لنا، قال: تحب ذلك؟، قال: نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت، ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر[1].
وقال ابن جرير في قوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ أي: من النفقة، والظهر، والزاد، والماء، مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي: عن الحق، ويشك في دين رسول الله ﷺ، ويرتاب، بالذي نالهم من المشقة، والشدة في سفرهم، وغزوهم، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم، والرجوع إلى الثبات على دينه إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.


في قوله: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ، تَابَ عَلَيْهِمْ من أهل العلم من قال: إن هذا يتعلق بالاستغفار تَابَ عَلَيْهِمْ من استغفارهم للمشركين، وبعضهم يقول: تَابَ عَلَيْهِمْ من التخلف في الغزو عن رسول الله ﷺ، والله هنا يقول: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ فهذه الآية تتحدث عن غزوة تبوك، وما حصل فيها من الأمور التي تعرفونها من الشدة، ومن تخلفوا، فالله - تبارك وتعالى - يذكر هنا توبته على النبي، والمهاجرين، والأنصار، وتوبة الله على عبده تأتي بمعنى أن يوفقه إلى التوبة تَابَ عَلَيْهِمْ بمعنى وفقهم للتوبة؛ لأن التوبة تأتي بمعنى الرجوع، تاب بمعنى رجع، رجع إلى الله : تَابَ عَلَيْهِمْ أي وفقهم إلى الرجوع إليه، والإنابة، وأيضاً توبة الله على العبد تأتي بمعنى رجوعه إلى عبده بالقبول، وغفران الذنب، والستر؛ ستر الإساءة فلا يفتضح، وهذه التوبة لا يلزم أن تكون من ذنب، وإنما تكون من رجوع العبد من حال إلى حال ولو كان ذلك من قبيل فعل خلاف الأولى، فهنا يذكر الله توبته على النبي، والمهاجرين، والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، فالله - تبارك وتعالى - تاب على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم[2]، وهنا في غزوة تبوك وهي آخر الغزوات يذكر توبته على النبي، والمهاجرين، والأنصار، فهذا لا يختص بموضوع الاستغفار للمشركين، الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ والساعة تطلق على الوقت المحدد من الزمان كما هو معروف، وتطلق على الزمن وهو المراد هنا، ليست ساعة محددة معينة فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ يعني وقت الشدة الحر، والقيظ، والحاجة، والضيق مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ بماذا؟ فسره بعضهم بأن ذلك يرجع إلى الشدة التي أصابتهم، أصابتهم شدة عظيمة كادت نفوسهم أن تتلف، وهذا فيه بعد؛ لأن الله ذكر هنا "الزيغ"، وعلقه بالقلوب، ولم يقل: تتلف نفوسهم، فلا يفسر ذلك بتلف النفوس بسبب الشدة التي أصابت الناس، ومنهم من فسره بمعنى آخر وهو أن هذه الشدة التي تحصل كادت أن تورث شكاً وخللاً في إيمان بعضهم!! كادت نفوسهم أن تضطرب، ففي الشدائد تمحّص النفوس، وكما ذكر الله في غزوة الأحزاب وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [سورة الأحزاب:10] تفرقت ظنونهم في الله ، فالمنافقون ظنوا الظنون الكاذبة السيئة، وأهل الإيمان حسنت ظنونهم بالله ، وهناك معنى ثالث ولعله الأقرب من هذه المعاني: مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ وذلك بالقعود عن الغزو مع رسول الله ﷺ مع أنه يجب عليهم في ذلك الحين، وترك نصرة الله، ونصرة رسوله ﷺ كراهية للشدة بسبب طول السفر، وقوة العدو، وكثرته، وشدة الوقت، حر شديد مع طيب الثمار.
وقوله: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ذكره مرة أخرى فقال: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُُوفٌ رَّحِيمٌ يمكن أن يكون هذا يرجع إلى الأول لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ، قال: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ كل ذلك عناية واهتماماً بشأن هذه التوبة، أو يكون المعنى الأول وفّقهم للتوبة ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ أي قَبِلها منهم، رجع عليهم بالقبول، ويمكن أن يكون متعلقاً بما قبله مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يكون "الهاء" الضمير يرجع إلى أقرب مذكور تَابَ عَلَيْهِمْ مَن؟ هؤلاء الذين ذكروا مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ تاب على هؤلاء.

  1. رواه ابن حبان في صحيحه، برقم (1383)، وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
  2. جزء من حديث رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الممتحنة، برقم (4608).