يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله ﷺ في غزوة تَبُوك من أهل المدينة، ومن حولها من أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر؛ لأنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو: العطش وَلا نَصَبٌ وهو: التعب وَلا مَخْمَصَةٌ وهي: المجاعة وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي: ينزلون منزلاً يُرهبُ عدوهم وَلا يَنَالُونَ منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم - وإنما هي ناشئة عن أفعالهم - أعمالاً صالحة، وثواباً جزيلاً إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ كما قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [سورة الكهف:30]".
فقوله - تبارك وتعالى -: مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ "ما كان" أحياناً تأتي مراداً بها النفي كقوله تعالى: مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]، وأحياناً تأتي مراداً بها النهي كما في هذا الموضع، وتدل على الامتناع كما مضى في بعض المناسبات تارةً الامتناع الشرعي، وتارةً الامتناع العادي يعني عادة، وتارةً الامتناع العقلي، وقوله: وَلا مَخْمَصَةٌ قال: هي المجاعة، وبعضهم قيده بالمجاعة التي يحصل معها الجوع، ويحصل معها ضمور البطن، وقوله: إِلا كُتِبَ لَهُمْ قال الحافظ - رحمه الله -: بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم - وإنما هي ناشئة عن أفعالهم - أعمالاً صالحة، وثواباً جزيلاً، بمعنى أن هذه الآية ذكر فيها أموراً تحصل للإنسان من غير أن يتطلبها أو أن يقصدها، فهي تحصل له من غير إرادته تعب، وعطش، وجوع وما أشبه هذا، فهذه لا يطلبها الإنسان، ولا يقصدها، بل تحصل له من غير إرادة، فهنا قال: إِلا كُتِبَ لَهُمْ فهذه الأعمال قال: ليست داخلة تحت قدرتهم - وإنما هي ناشئة عن أفعالهم - أعمالاً صالحة، وثواباً جزيلاً، أما الأعمال الأخرى التي ذكرها وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً، وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا [سورة التوبة:121] في تلك قال: إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، فيه ففرق في العبارة بين هذا وذاك، وهنا قال: إِلا كُتِبَ لَهُمْ، وهناك إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ وهو من أعمالهم، وحسناتهم التي عملوها.