الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا۟ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلْكُفْرِ ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ۝ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [سورة التوبة:17-18].
يقول تعالى: ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ومن قرأ: "مسجد الله" فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن ، هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي: بحالهم، وقالهم، قال السُّدِّي: "لو سألت النصراني: ما دينك؟ لقال: نصراني، واليهودي: ما دينك؟ لقال: يهودي، والصابئي، لقال: صابئي، والمشرك، لقال: مشرك".
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أي: بشركهم، وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ، وقال تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة الأنفال:34]".


هنا في قوله: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ مثل هذا الاستعمال تارة يرد في الممتنع شرعاً مثل قول الله : مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ [سورة التوبة:120]، وتارة يأتي في الممتنع عادة، وتارة يأتي في الممتنع عقلاً، فالله يقول: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ [سورة الأحزاب:40]، مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا [سورة النمل:60]، فالسياق هو الذي يبين المراد، وهنا الله - تبارك وتعالى - يقول: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي أن ذلك لا يقع منهم، ولا يتأتى منهم، ولا ينتظر منهم؛ لأنهم على الضد من ذلك، أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ فهم ليسوا بكفء، ولا أهل لهذا، مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ إنما تكون عمارة المساجد من قِبل أهل الإيمان، وقوله هنا: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ قرء الجمهور مَسَاجِدَ اللَّهِ بالجمع، وهناك قراءة أخرى أشار إليها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهي متواترة قرأ بها أبو عمرو وابن كثير أن يعمروا مسجد الله، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا من أن مسجد الله المراد به المسجد الحرام؛ ذكره بعض السلف، بل إن من أهل العلم من قال: إن مَسَاجِدَ اللَّهِ عبر به عن المسجد الحرام بناء على القاعدة المعروفة أنه قد يعبر بالجمع عن المفرد والعكس، فقالوا: إن مَسَاجِدَ اللَّهِ بمعنى مسجد الله، والحسن البصري - رحمه الله - وجه هذا باعتبار أن المسجد الحرام هو قبلة المساجد، فمن عمر المسجد الحرام فهو عامر لسائر المساجد، ومساجد الله جمع، ومسجد الله أيضاً مفرد مضاف، والمفرد المضاف يفيد العموم، فيمكن أن تكون القراءتان بمعنى واحد إما باعتبار أن مسجد الله بمعنى الجمع، أو عكس هذا أن مَسَاجِدَ اللَّهِ يقصد به المسجد الحرام، والذين قالوا: إن المقصود بهذا هو المسجد الحرام نظروا الى أن الآيات تتحدث عن المشركين الذين كانوا يفتخرون بعمارة المسجد الحرام كما قال الله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:19]، فإذا كان هذا هو المراد فهنا احتاجوا إلى أن يقولوا: إن مَسَاجِدَ اللَّهِ بمعنى المسجد الحرام هذا هو السبب، وهذه الآيات وإن كانت تتحدث عن المشركين الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام إلا أن ظاهرها العموم، فهي فيهم، وهم السبب المتعلق بنزولها، ولكن العبرة بعموم اللفظ إذا حملنا ذلك على العموم، فيقال: هذا فيهم، وفي غيرهم ممن يفعل المتناقضات، ويحارب دين الله ، ويسعى في الأرض فساداً؛ ثم بعد ذلك يدعي أنه يبني المساجد ويعمرها، ويفاخر بها وما أشبه هذا، وهذا موجود في بلاد كثيرة، تجد حرباً لله ولرسوله ﷺ، وتجد في المقابل من يبني مسجداً تحفة معمارية هائلة، ويأتيه السواح عراة يتفرجون عليه من أقطار الدنيا، تحفة معمارية للسياحة تنفق فيه أموال هائلة في بلاد يطحنها الفقر، وهذا الذي بناه يحارب الدعوة إلى الله، ويحارب الدعاة، ويحارب العلماء، ويحارب الحجاب، ويحارب الإسلام والمسلمين؛ فهذا تناقض، والعمارة يدخل فيها العمارة الحسية ببنائها، وتشييدها من غير مبالغة؛ لأن النبي ﷺ نهى عن تشييد المساجد وبنائها للمباهاة، ويدخل فيها العمارة المعنوية عمارة المساجد بذكر الله ، وإقام الصلاة؛ وما شابه ذلك من المعاني التي بنيت المساجد من أجلها، إقامة ذكر الله في الأرض، فهذا كله من عمارتها، والمشركون على خلاف هذا، فكيف يعمرون المساجد عمارة حسية؟!
وأيضاً إن نظرنا إلى المشركين في مكة الذين تتحدث عنهم الآيات هؤلاء وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً [سورة الأنفال:35] تصفيق، وتصفير هذه عمارة المسجد الحرام عندهم، والشرك بالله ، وتلبية شريكه كما تعرفون "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"، فهذا هدم للمساجد وليس ذلك من عمارتها في شيء.
مسألة: بناء الكافر للمسجد:

بمعنى أنه يتبرع ببناء مسجد، فمن أهل العلم من يقول: إن هذا لا يفعله الكافر؛ لئلا يكون له منة على المسلمين، ومثل هذه القضايا ينظر فيها إلى المصلحة ينظر فيها إلى المصالح الشرعية، فقد يتخذ المسلمون مسجداً بناه لهم الكفار؛ يعني لو أن المسلمين في بلاد الكفار تبرعت لهم البلدية، أو الجامعة التي يدرسون فيها ببناء، وقالوا: هذا مسجد لكم صلوا فيه، فيُصلَّى فيه، ولا يقال: لا؛ نحن نبنيه، أو نشتريه بمالنا، فمثل هذا يقبل، ويصلى فيه، لو قالوا لهم: هذه كنيسة ما صار يأتيها أحد، خذوها، وغيروا معالمها، واجعلوها لكم مسجداً؛ فهذا لا إشكال فيه، لكن لو أن أحداً من الكفار جاء وقال في بلاد المسلمين، وفيهم أهل غنى، ويسار، قال للمسلمين: أنا أريد أن أتبرع ببناء مسجد يمكن أن يقولوا له: لا نريد منك مسجداً، نحن في غنى عنك، يمكن أن يقولوا هذا، لكن لا يجب عليهم هذا الجواب، والآيات هنا تتحدث عن أناس يفتخرون أنهم أهل للدين وأهل مكة، وأهل عبادة، وأهل عمارة المسجد الحرام، يقولون: ماذا صنعتم أنتم؟ نحن أهل السقاية والرفادة، ونحن أهل الحرم والعمارة، فالله رد عليهم بهذا الاعتبار، وأما دخول الكفار إلى المسجد للبناء كأجير عامل، أو مهندس صوتيات أو نحو هذا فهذا لا إشكال فيه، يجوز ولا يحرم، وسيأتي قول الله : أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ [سورة البقرة:114]، لكن ليس المعنى أنه يحرم دخول الكافر المسجد ليس هذا معناه، لكن هناك صور يمنعون منها مثل إذا جاء هؤلاء العراة، الحفاة من الدين، إذا جاءوا يتفرجون، ويتسكعون في بلاد المسلمين؛ يريدون أن يدخلوا هم ونساؤهم المتبرجات العاريات، ويتفرجوا على المساجد، والمساجد القديمة، كما يقولون: التراث الإسلامي يقال لهم: لا يدخل هؤلاء هذه المساجد، ففرق بين هذا وهذا، فالكافر يجوز أن يدخل المسجد إما أن يكون بنّاء، أو يكون هذا الكافر يريد أن يسمع أو يرى المسلمين، فبعض الناس قد يأتي بكافر معه يقول: أريده أن يتعلم الإسلام، يريد أن يرى المسلمين وهم يصلون، وهم يفطرون في رمضان، وهم كذا؛ فهذا لا إشكال فيه، وهذا يقع كثيراً في البلاد التي فيها جاليات وكذا، يأتى بكافر وهذا يأتي بصاحبه، وهذا يأتي بشخص يعرفه لعله يسلم، ويرى المسلمين وما يعملونه بالمسجد؛ فلا إشكال في هذا، بل حتى المسجد النبوي حرم المدينة لا يمنع من دخوله الكفار، والنبي ﷺ ربط ثمامة بن أثال في المسجد، وجبير بن مطعم في المسجد، وجاء وفد نجران للنبي ﷺ، وقيل: إنه أسكنهم بالمسجد، الآن إذا قلنا العمارة محمولة على هذا وهذا، واعتبرنا أو قلنا بالمجاز: فالعمارة التي هي بالمعنى الحقيقي تصدق على العمارة الحسية أي البناء، وكون عمارة المساجد بالذكر، والصلاة، وكذا من قبيل المجاز، فعلى القول بالمجاز ما ذكرناه من أن العمارة تشمل هذا وهذا، يكون هذا من قبيل حمل اللفظ على معنييه الحقيقي والمجازي وهو أحد وجوه الجمع بين الأقوال في التفسير المشترك، يحمل على معنييه أو معانيه إذا لم يوجد مانع، وكذلك الحقيقة والمجاز عند القائل به إلى غير ذلك من الصور المتعددة.

"ولهذا قال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فشهد تعالى بالإيمان لعُمار المساجد".