الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
قَٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُوا۟ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَٰغِرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة، فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد ﷺ لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل، ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون آراءهم، وأهواءهم، وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله، ودينه؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيماناً صحيحاً لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد -رصلوات الله عليهر-، لأن جميع الأنبياء بشروا به، وأمروا باتباعه، فلما جاء وكفروا به - وهو أشرف الرسل -؛ عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله، بل لحظوظهم، وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم، وأفضلهم، وخاتمهم، وأكملهم؛ ولهذا قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ".


حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ هذه الآية - والله تعالى أعلم - مختصة بأهل الكتاب كما هو ظاهر، ولهذا ذهب الشافعي وأحمد إلى أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، ومن أُلحق بهم؛ وهم المجوس، وأما غير أهل الكتاب فإنهم لا تؤخذ منهم الجزية: بالقتال، أو الإسلام، خلافاً للإمام مالك - رحمه الله - ومن وافقه الذين قالوا: تؤخذ من عموم الكفار حتى المشركين، واختلفوا في تفصيلات أخرى هل تؤخذ من نصارى العرب أو لا؟

"وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله، رسوله؛ بقتال أهل الكتابين: اليهود، والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول الله ﷺ لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فَأَوْعَبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة، ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جَدْب، ووقت قَيْظ، وحر، وخرج رسول الله ﷺ يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها، وأقام على مائها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامَه ذلك لضيق الحال، وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعدُ - إن شاء الله -.
وقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي: إن لم يسلموا، عَنْ يَدٍ أي: عن قهر لهم وغلبة، وَهُمْ صَاغِرُونَ أي: ذليلون، حقيرون، مهانون".


حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ الجزية قيل: إنها من جزى يجزي بمعنى كافأ يعني كأنها في مقابل الحماية التي تحصل لهم من المسلمين، فيدفعون هذا المال إزاء هذا المطلب، فالمسلمون يوفرون لهم الحماية، وهم يدفعون مقابل ذلك هذه الرسوم التي يقال لها: الجزية، وهذا قال به جماعة من أهل العلم فسروه بهذا، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنها بهذا الاعتبار، ومن أهل العلم من فسرها بغير هذا فقالوا: الجزية هي الطائفة قطعة أو جزء من المال، جزية جزء من المال يدفعه أهل الذمة بمعنى يجزوه أي يقضوه للمسلمين يعني قضاء، وهذا القول هو اختيار ابن جرير، ومن الفقهاء ابن قدامة، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قال: أي إن لم يسلموا يعني يعطوا الجزية قال: عَنْ يَدٍ أي: عن قهر لهم، وغلبة، وهذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، واختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - عَنْ يَدٍ، وبعضهم قال: يعني عن يد مواتية، غير ممتنعة عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وهذا كأنه فيه بعد، وبعضهم قال: عَنْ يَدٍ يعني أن يسلمها بيده غير مستنيب، لا يستنيب أحداً، لماذا لا يستنيب أحداً؟ ليكون ذلك إذلالاً له، كل واحد يأتي بجزيته بنفسه ما في أحد يقول: يرسل الخادم، ولا يرسل السائق، ولا يرسل طرفاً آخر يؤديها عنه، لا، لا بد أن يأتي هو بها فلا يستنيب كما قال ابن جرير: من يده إلى يد الأخذ مباشرة ما في وسيط، ولا يضعها في صندوق، ولا يضعها في حساب، وإنما يدفعها يسلمها بيده مباشرة؛ لأن هذا فيه شيء من الإذلال ولا يخفى، وبعضهم يقول: عَنْ يَدٍ يعني نقداً ما يدفعها مقسطة، وبعضهم يقول: عَنْ يَدٍ يعني منكم أنتم تفضلتم وتكرمتم بقبولها منهم، وما قتلتموهم، أو أخرجتموهم، فهذا تفضل منكم عَنْ يَدٍ يعني منكم تجاههم أي إنعام صادر منكم، وهذا بعيد غاية البعد، وقوله هنا: عَنْ يَدٍ أي: عن قهر لهم، وغلبة، قال: وَهُمْ صَاغِرُونَ أي ذليلون، حقيرون، مهانون؛ فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة، ولا رفعهم عن المسلمين إلى آخره، فبعض أهل العلم قال: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ أي يأتي بها ماشياً، ويدفعها بنفسه ما يركب وهو قادم بها!! إذلالاً، وبعضهم قال: لا بد أن يشعر بالمهانة، والذلة؛ بحيث إنه يُترك فترة ينتظر يعني يشعر بالاستخفاف، ولهذا قال الإمام أحمد: يستحب أن يشعر بالمهانة، أو بالذلة أو نحو ذلك؛ لأن الله قال: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ما يأتي مكرماً، ومعززاً، ويستقبل وتؤخذ منه، يأتي بها وهو صاغر، ويدفعها، وبعضهم قال: يكون الآخذ جالساً، والمعطي واقفاً، وبعضهم يقول: يدفعها هكذا يعني يكون الآخذ يده فوق، والمعطي يده أسفل؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى[1]، والعادة أن اليد التي تعطي هي اليد العليا، قال: لا عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ لا بد أن يكون هكذا، وبعضهم قال أكثر من هذا قال: يُترك فترة حتى يشعر بالمهانة ثم يُجر!!.
ولا يساء إليهم بهذه الطريقة بتلْتلتِهم وكذا، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن هذا ليس هو المطلوب، وإنما المقصود أن التزامه بأحكام الملة، وجريان الجزية عليه هذا هو الصغار، والذل فـ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ خلاص قبل أن يدفع هذه الجزية، ومن الصور التي يحصل بها مثل هذا أن يأتي بها بنفسه مثلاً كما قال بعض السلف، فهو لا يُعزَّز، ولا يكرم.

"فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة، ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء، صَغَرة، أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: لا تبدءوا اليهود، والنصارى؛ بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه[2].
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تلك الشروط المعروفة في إذلالهم، وتصغيرهم، وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: "كتبت لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى من أهل الشام:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا، وذرارينا، وأموالنا، وأهل ملتنا".


يعني هذا على لسان النصارى، كتبوه لعمر.

"وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا، ولا فيما حولها ديرًا، ولا كنيسة، ولا قِلاية، ولا صَوْمَعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خُطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل، ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة، وابن السبيل، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نأوي في كنائسنا، ولا منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركاً، ولا ندعو إليه أحدًا؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه".


إذا كانوا لا يبنون كنيسة جديدة، ولا يجددون القديمة؛ فمعنى ذلك أن المسألة مسألة وقت سيضمحل هذا كله، أماكن العبادة التي أقاموها، ولا يجددون شيئاً منها، ولا يبنون شيئاً جديداً، ثم يتلاشون، وينتهون يعني هذه المسألة مسألة الجيل الموجود ينقرض، وينتهي، والبقية يذوبون مع المسلمين، ويدخلون في الإسلام، أو يبقون بدون دور عبادة؛ لأنها ستندثر وتنهدم، ولا يجددونها.

"وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف".


يعني ما يركبون الخيل، ولا يتقلدون، العرب من عادتهم تقلد السيف يضعون السيف كالقلادة، فهذه عادتهم، والعجم يربطون حزاماً ويكون بجانبه السيف، فلا يتشبهون بالمسلمين بتعليق السيف على صدورهم.

"ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجزَّ مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زِيناً حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا".


الزنار معروف هو حزام عريض يضعه النصارى يلبسونه بطريقة معينة، ويكون نازلاً من إحدى الجهات يتميز به النصارى، ليس الحزام الذي يلبسونه على البنطال.

"وألا نظهر صُلُبنا، ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين، ولا باعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين، ولا نطلع عليهم في منازلهم.
قال: فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه: ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا، وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم، وَوَظفْنا على أنفسنا؛ فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة، والشقاق".


هذه الشروط العمرية معروفة، ومشهورة، وفي بعض رواياتها أكثر من هذا راجعوا أحكام أهل الذمة، وهذا رد على الذين يقولون: الإسلام دين التسامح والمحبة، فإذاً الإسلام دين العزة، والعدل، والقوة، والقهر لأعداء الله - تبارك وتعالى -، لكن المسلمين إن كانوا ضعفاء فيأخذوا بالرخص من العفو، والصفح، والإعراض، والصبر وما أشبه ذلك، وإذا كانوا أقوياء طبقوا عليهم مثل هذه الأشياء، والله المستعان يعني هناك فرق كبير بين أن نغير دين الله، نمسخ دين الله، ونكذب على الله، وبين أن نقول: هذا ليس وقته، هذا كله حق، وهذا هو الدين، لكن الأمة ضعيفة لا تستطيع أن تطبق هذه الأشياء، فالمصلحة تقتضي أن المسلمين يكونون في مرحلة مثل المرحلة المكية كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة النساء:77]، إلا إذا اعتدى الكافر عليهم في بلادهم فيجب دفعه بكل مستطاع، فرق بين أن نقول هذا وبين أن نقول لا، الإسلام ما فيه جهاد، ولا فيه قتال، الإسلام دين العفو، والصفح، والتسامح، والمحبة، والوئام، والسلام، وإذا ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر!! هذا هو الإسلام، والجهاد في سبيل الله هو حماية المشروع الإسلامي، والكلام الفارغ الذي يُكذب فيه على الله، هذا الكلام ليس صحيحاً، الإسلام دين القوة، والعزة، والغلبة، والقهر لأعداء الله ، لكن هذا إذا كان في المسلمين قوة، أما إذا كانوا ضعفاء فعندئذ الإعراض، والصفح، والصبر، والأخذ بأسباب القوة؛ حتى تتمكن الأمة من أعدائها، وتستطيع أن تحمي نفسها، والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، برقم (1361)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة، برقم (1033).
  2. رواه الترمذي، كتاب السير عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب، برقم (1602)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند، برقم (7617)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (704).