روى الإمام أحمد عن أبي بكرة أن النبي ﷺ خطب في حجته فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات، والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: أي يوم هذا؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟، قلنا؛ بلى، ثم قال: أي شهر هذا؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي بلد هذا؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟، قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم - قال: وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه[1] ورواه البخاري[2] في التفسير وغيره، ورواه مسلم[3]".
فقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ المراد بـ"كتاب الله " هنا اللوح المحفوظ، وقول النبي ﷺ: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات، والأرض من أهل العلم من قال: المراد به أنهم كانوا يتلاعبون بأشهر السنة، فمنهم من جعل السنة ثلاثة عشر شهراً، فالنبي ﷺ أخبر بهذه الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فأبطل ذلك، وأقر الشهور، وأبقاها على ما خلق الله - تبارك وتعالى -، ومن أهل العلم من يقول: كانوا يتلاعبون بالشهور بمعنى أنهم يؤخرون محرم إلى صفر، وصفر إلى ربيع الأول، وربيع الأول إلى الثاني وهكذا، فلما حج النبي ﷺ في تلك السنة كان عندهم لربما شهر ذي الحجة يقع في شهر محرم، فلما حج النبي ﷺ كان شهر ذي الحجة في ذي الحجة، ووقعت حجته في شهر ذي الحجة، وبعضهم يقول: وقع ذلك في حجة أبي بكر، ثم استمر ذلك، وأبطل ما كان عليه عمل أهل الجاهلية من إنساء الشهور ابتداء من حجة أبي بكر الصديق ، وبعضهم يقول: إن المراد أن الحجة التي وقعت للنبي ﷺ كانت في وقت الاعتدال بين النهار والليل، فالليل مساوٍ للنهار ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات، والأرض يعني معتدلاً طول الليل كطول النهار، فيحصل النقص والزيادة في بعض الأوقات في السنة صيفاً وشتاءً، وبعضهم يقول غير هذا.
بمعنى أنهم كانوا يستطيلون ثلاثة أشهر محرمة، ما يصبرون، أي ذو القعدة يقعدون فيه ما ينطلقون، ولا يحصل منهم غزو، ولا غارة، وفي الحج يحجون فيأتيهم محرم، وهم يتلمظون على الغارات، ولربما حصل لهم شيء من المسغبة، والحاجة؛ لأن كثيراً منهم يعيش على الغارة، والنهب، والسلب، فيطول عليهم الأمر ثلاثة أشهر بلا نهب، ولا إغارة، وذلك قوام عيش كثير منهم، فيتلاعبون بشهر محرم، يجعلونه في صفر، ويجعلون صفر هو المحرم، وهي فرصة أيضاً ثمينة أن الحجاج يرجعون، فينهبونهم، ويغيرون عليهم، غنيمة باردة.
يعني كأن البيوت تكون صفراً من أهلها، ينتشرون بعدما تنتهي أشهر التحريم، هم يستطيعون أن يسافروا في أشهر التحريم، لكن المقصود الإغارة، فهذا يدل على كثرة ما يقع من ذلك عندهم، تخلو البيوت.
وشهر ربيع أول: سمي بذلك لارتباعهم فيه، والارتباع الإقامة في عمارة الربع، ويجمع على أربِعاء كنصيب، وأنصباء، وعلى أربِعة، كرغيف وأرغفة".
الارتباع الإقامة في عمارة الربع، يعني الدار يرتبعون أي يقيمون فيها.
"وربيع الآخر: كالأول.
وجمادى: سمي بذلك لجمود الماء فيه، قال: وكانت الشهور في حسابهم لا تدور، وفي هذا نظر؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة، ولا بد من دورانها، فلعلهم سموه بذلك، أول ما سمي عند جمود الماء في البرد كما قال الشاعر:
وَلَيلَةٍ منْ جُمادى ذَاتِ أنْدِيَة | لا يُبْصِرُ العبدُ في ظَلماتها الطُّنُبَا |
لا يَنْبَحُ الكلبُ فيها غَير وَاحدَةٍ | حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خُرْطُومه الذَّنَبَا |
الآن بهذا الاعتبار إذا قيل: إن جمادى؛ لتجمد الماء، ومعروف أن جمادى قد يكون في الصيف، وأن شهر رمضان مثلاً؛ لشدة الحر، وقد يأتي رمضان في الشتاء، فيقول هنا: وكانت الشهور في حسابهم لا تدور، يعني دائماً جمادى في البرد، ورمضان في الحر الشديد، لكن هذا فيه إشكال بهذا الاعتبار! ربيع قبل جمادى، والربيع يكون بعد الشتاء، يقول: وكانت الشهور في حسابهم لا تدور، وفي هذا نظر؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة، ولا بد من دورانها، فلعلهم سموه بذلك أول ما سمي عند جمود الماء في البرد يعني سمي في وقت كانت الأجواء بهذا الاعتبار، فرمضان شديد الحر، فسمي بهذا، وهكذا، ثم استمر هذا، ولو صار جمادى في شدة الحر، ورمضان في شدة البرد، والعلم عند الله ، ومثل هذا لا يترتب عليه عمل.
"ويُجمع على جُمَاديات، كحبارى، وحُبَاريات، وقد يذكر، ويؤنث، فيقال: جمادى الأولى، والأول، وجمادى الآخر، والآخرة.
رجب: من الترجيب وهو التعظيم، ويجمع على أرجاب، ورِجَاب، ورَجَبات.
شعبان: من تشعب القبائل وتفرقها للغارة، ويجمع على شَعَابين وشَعْبانات.
ورمضان: من شدة الرمضاء، وهو الحر، يقال: رمضت الفصال: إذا عطشت، ويجمع على رَمَضَانات، ورَماضين، وأرْمِضَة قال: وقول من قال: "إنه اسم من أسماء الله"؛ خطأ لا يعرج عليه، ولا يلتفت إليه.
قلت: قد ورد فيه حديث؛ ولكنه ضعيف، وبيَّنته في أول كتاب الصيام.
شوال: من شالت الإبل بأذنابها للطراق، قال: ويجمع على شَوَاول، وشَوَاويل، وشَوَّالات.
القَعدة: بفتح القاف - قلت: وكسرها - لقعودهم فيه عن القتال، والترحال، ويجمع على ذوات القعدة.
الحِجة: بكسر الحاء - قلت: وفتحها - سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه، ويجمع على ذوات الحجة.
أسماء الأيام:
أولها الأحد، ويجمع على آحاد، وأُحاد، ووحود، ثم يوم الإثنين، ويجمع على أثانين، الثلاثاء: يمد، ويُذَكَّر، ويؤنث، ويجمع على ثلاثاوات، وأثالث، ثم الأربعاء بالمد، ويجمع على أربعاوات، وأرابيع، والخميس: يجمع على أخمسة، وأخامس، ثم الجمعة - بضم الميم، وإسكانها، وفتحها أيضاً - ويجمع على جُمَع، وجُمُعات.
السبت: مأخوذ من السَّبْت وهو القطع؛ لانتهاء العدد عنده، وكانت العرب تسمي الأيام أول، ثم أهون، ثم جُبَار، ثم دبار، ثم مؤنس، ثم العروبة، ثم شيار، قال الشاعر - من العرب العرباء العاربة المتقدمين -:
أُرَجِّي أن أعيشَ وأن يَومِي | بأوّلَ أو بأهونَ أو جُبَارِ |
أو التالي دُبَار فإن أفُتهُ | فمؤنس أو عروبةَ أو شيارِ |
وقوله تعالى: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تحرمه، وهو الذي كان عليه جمهورهم، إلا طائفة منهم يقال لهم: "البَسْل" كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر تعمقاً، وتشديدًا.
وأما قوله: "ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما كانت تظنه ربيعة من أنَّ رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم، فبيّن ﷺ أنه رجب مضر لا رجب ربيعة.
إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سَرْدٌ، وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج، والعمرة، فحُرِّم قبل شهر الحج شهر وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت، والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره، ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً.
وقوله تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم، والحَذْو بها على ما سبق في كتاب الله الأول.
وقال تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا الآية فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ في كلِّهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً، وعَظم حُرُماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح، والأجر أعظم.
وقال قتادة في قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً، ووزرًا؛ من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، قال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظّم الله، فإنما تُعظَّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم، وأهل العقل".
وخلاصة ما ذكر في مرجع الضمير في قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أنه يرجع إلى الأشهر جميعاًً، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يعني في كلهن، والمعنى الثاني وهو المشهور الذي عليه الجمهور فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ يعني الأشهر الحرم، وهذا هو الأقرب، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ولا يقال هنا: إن مفهوم المخالفة فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأشهر الحرم يعني أنه يجوز أن يظلم الإنسان في ما عدا الأشهر الحرم، وإنما لحرمة هذه الأشهر فإن الظلم يقع فيها، فإذا وقع فيها فإنه يكون أشد من سائر الشهور فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنفسكم بالقتال، و استباحة ما حرم الله - تبارك وتعالى -.
وأما قوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فهو إذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [سورة البقرة:194]، وقال تعالى: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ الآية [سورة البقرة:191]".
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا كأنه يرد على من قال: إن الآية منسوخة، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يعني بقتال، فنُسخت، نُسخ تحريم القتال عند بعض أهل العلم، بعضهم يقول: بهذه الآية: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً يعني في كل زمان، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن معنى وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً أي جميعاً، كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً، وهنا ابن كثير - رحمه الله - قال: إنّ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً تحمل على أن المراد إنْ بدءوكم بالقتال في الشهر الحرام، ثم بعد ذلك بدأ يرد على الأدلة الأخرى التي استدل بها من قال بأن حرمة الأشهر أو القتال في الأشهر الحرم أن ذلك قد نسخ، ومن أهل العلم من يقول: إن الآية منسوخة بآية السيف.
وإذا قال ابن كثير - رحمه الله -: "الأشهر أنه منسوخ" لا يعني أنه يرجح هذا، إذا قال: الأشهر كذا لا يعني أنه يرجحه.
يعني النبي ﷺ لم يبتدئ قتالهم بالشهر، وهم الذين أعدوا الجموع، واجتمعوا لحربه ﷺ، وخرجوا من الطائف، فإذا كان مثل هذا فإنه لا يمتنع القتال، ويقاتلون، وهذا لا يدل على أنه منسوخ، فالنبي ﷺ قاتلهم في شوال، وشوال ليس من الأشهر الحرم، ثم استمر القتال، وهذا من الأدلة التي يستدل بها من قال: إن القتال في الأشهر الحرم منسوخ، وهذا الجواب عنه.
- رواه أحمد في المسند، برقم (20386)، وقال محققوه: حديث صحيح.
- رواه البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، برقم (1654).
- رواه مسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679).