هذا مما ذم الله - تعالى - به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله، وتحريمهم ما أحل الله، فإنهم كان فيهم من القوة الغضَبِية، والشهامة، والحمية؛ ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ليواطئوا عدة ما حرم الله: الأشهر الأربعة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ قال: النسيء أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى "أبا ثُمَامة"، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب، ولا يُعاب، ألا وإن صفر العام الأول العام حلال، فيحله للناس، فيحرم صفراً عاماً، ويحرم المحرم عاماً، فذلك قول الله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: الْكَافِرِينَ وقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يقول: يتركون المحرم عاماً، وعاماً يحرمونه"، وروى العوفي عن ابن عباس - ا - نحوه.
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ أصل لفظة النسيء من الإنساء وهو التأخير، يعني حينما يؤخرون المحرم إلى صفر فهذا من الإنساء، وقوله: زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يعني زيادة على كفرهم بالله - تبارك وتعالى - هم كفار مشركون، ومع ذلك يأتون بهذا التبديل والتغيير لدين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - عن زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بالبناء للمجهول على قراءة الكوفيين، و قراءة الباقين يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا والمعنى على القراءتين يضلهم الشيطان، يضلهم به رؤساؤهم، وكباراؤهم، وشياطينهم، يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يذهبون عن الحق، والصواب، وملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وهذه الآية تدل على أن الكفر، وأن الكفار على مراتب في كفرهم، وشدته، وغلظه، فإضافةً إلى الإشراك بالله يكون عندهم جرائم أخرى يعذبهم الله عليها، ولهذا قال الله - تعالى -: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [سورة المدثر:42-45] وما أشبه هذا من الآيات، والنصوص التي تدل على هذا المعنى.
وإنساؤهم للأشهر الحرم لم يكن على طريقة واحدة، يعني تارة يغيرون كل الأشهر كما جاء في بعض الروايات، وتارة يغيرون صفراً سنة وسنة، يعني سنة يغيرون المحرم يجعلونه صفراً، وتارة يغيرون كل سنتين يعني منهم من كان يغير كل سنتين، أهل جاهلية، كل شيء مما أملاه الشيطان، وأهواء النفوس؛ فعلوه، ولذلك تجد الاختلاف الكثير المنقول عنهم في قضية البحيرة، والسائبة، والوصيلة وكذا، فتتبُّعُ هذا، وتطلب الوصف الدقيق له؛ أمر قد لا يكون له جدوى، فتملي عليهم أهواؤهم فيفعلون هذا تارة، وهذا تارة، ومنهم من يفعل هذا وهذا.
يعني هم يريدون أن تكون الأشهر المحرمة أربعة، فإذا استحلوا شهر المحرم صارت ثلاثة، فهم يجعلون المحرم صفراً على أساس أن تكون أربعة لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ.
وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب "السيرة" كلامًا جيدًا، ومفيدًا حسنًا، فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحل منها ما حرم الله، وحرم منها ما أحل الله ؛ "القَلَمَّس" وهو: حذيفة بن عبد فُقَيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعدَّ بن عدنان، ثم قام بعده على ذلك ابنه عَبَّاد، ثم من بعد عباد ابنه قَلَع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف؛ وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام، فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيبًا، فحرم رجباً، وذا القعدة، وذا الحجة، ويحل المحرم عاماً، ويجعل مكانه صفراً، ويحرمه عاماً ليواطئ عدَّة ما حرم الله، فيحل ما حرم الله، يعني: ويحرم ما أحل الله".
بعضهم يقول: إن الذي غيَّر في الأشهر الحرم هو عمرو بن لحي الخزاعي الذي غيَّر دين إبراهيم ﷺ، وهو أول من سيب السائبة، وأول من حمى الحامي، وأول من جاء بالأصنام إلى جزيرة العرب، وفيه الحديث: أن النبي ﷺ رآه في النار يجر قصبه[1]، وبعضهم يقول: إن الذي غيَّرها رجل يقال له: نعيم بن ثعلبة، وسواءً كان الرجل من كنانة أو غير ذلك؛ هذا لا أثر له، ولا يترتب عليه فهم الآية، ولا يترتب عليه حكم من الأحكام، وفي هذا يقول كميت:
ألسنا الناسئين على معدٍّ | شهورَ الحلِّ نجعلها حراما |
يفتخرون بهذا.
وتكلم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على مسألة نسخ الأشهر فقال الشيخ -رحمه الله تعالى-: "نقولُ: إِنَّ مِنْ عَادَتِنَا التي نَجْرِي عليها في هذه الدروسِ أن نتعرضَ لِمَا نَظُنُّ أنه يسألُ عنه طلبةُ العلمِ، وقد مَرَّ في الآيةِ الماضيةِ سؤالٌ معروفٌ يتساءلُ عنه طَلَبَةُ أهلِ العلمِ، وَنَسِينَا أن نتكلمَ عليه، فَأَحْبَبْنَا أن نَسْتَدْرِكَهُ الآنَ تَتْمِيمًا للفائدةِ، ونعنِي بذلك: أنا ذَكَرْنَا أن العلماءَ اختلفوا في نسخِ الأربعةِ الْحُرُمِ، وأن قومًا قالوا: نُسِخَتْ، فجازَ للمسلمينَ الجهادُ في كُلِّ السَّنَةِ، وأن جماعةً من العلماءِ قالوا: إن تحريمَها باقٍ لم يُنْسَخْ، وذكرنا أنَّا كُنَّا أولاً نعتقدُ صحةَ نَسْخِهَا، وَأَنَّا عَرَفْنَا بعدَ ذلك أن الصحيحَ عدمُ نَسْخِهَا، وَذَكَرْنَا أن من أصرحِ الأدلةِ على نسخِها ما ثَبَتَ أن النبيَّ ﷺ حاصرَ ثقيفًا بالطائفِ في بعضِ ذِي القعدةِ وهو شهرٌ حرامٌ، ولو لم يكن القتالُ فيها حلالاً لَمَّا حَاصَرَهُمْ فيها، فَعَلِمْنَا مِنْ هنا أن طالبَ العلمِ يقولُ: إذا قررتُم أن التحقيقَ عدمُ نسخِها فما وَجْهُ حصارِ النبيِّ ﷺ لثقيفٍ في الشهرِ الحرامِ؟!
هذا هو السؤالُ الذي كُنَّا نَوَدُّ أن نتعرضَ للإجابةِ عنه، وهذا السؤالُ أجابَ عنه جماعةٌ من العلماءِ بما مُلَخَّصُهُ في نُقْطَتَيْنِ وَهُمَا:
أن حصارَ النبيِّ ﷺ لثقيفٍ كان ابتداؤُه في شهرٍ حلالٍ، والدوامُ قد يغتفرُ فيه ما لا يغتفرُ في الابتداءِ؛ لأن مِنَ المسائلِ ما يُحَرَّمُ فيها الابتداءُ ولا يحرمُ فيها الدوامُ، ألا تَرَوْنَ أن الرجلَ الْمُحْرِمَ لا يجوزُ له أن يبتدئَ تزويجًا، ولو تزوجَ قبل إحرامِه، ثم أَحْرَمَ؛ لم يَنْفَسِخْ تزويجُه بهذا الإحرامِ الطارئِ على تزويجِه، وكذلك الإحرامُ يُمْنَعُ ابتداءُ الطِّيبِ فيه، فلو كان مُتَطَيِّبًا قبلَه لاَ يَمنعُ الدوامَ على الطِّيبِ الأولِ الإحرامُ عندَ جماهيرِ العلماءِ، فالشاهدُ أن الدوامَ في بعضِ الصورِ قد يُغْتَفَرُ فيه ما لا يُغتفر في الابتداءِ، وفي هذه الصورةِ يتأكدُ بشيءٍ آخَرَ وهو ما قَدَّمْنَا في كلامِنا على غزوةِ حُنَيْنٍ في تفسيرِ آيةِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [سورة التوبة:25] أن النبيَّ ﷺ لَمَّا فَتَحَ مكةَ في رمضانَ عامَ ثمانٍ - ولم يكن يريدُ أن يغزوَ هوازنَ - سَمِعَ أن مالكَ بنَ عوفٍ النصريَّ سيدَ هوازنَ جَمَعَ مَنْ أَطَاعَهُ من هوازنَ وفيهم ثقيفٌ؛ لأن ثقيفًا من هوازنَ؛ لأن ثقيفَ بْنَ منبهِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ بنِ منصورٍ، وأنهم تَجَمَّعُوا له يريدونَ حربَه، فَهُمُ الذينَ بدءوا بإرادةِ الحربِ، ولم يَكُنِ النبيُّ ﷺ قَاصِدًا حربَهم - في ذلك الوقتِ - قبلَ ذلك، فَلَمَّا هَزَمَهُمُ النبيُّ ﷺ يومَ حنينٍ، واستفاءَ أموالَهم؛ رَجَعَ فَلُّهُمْ - والفَلُّ بقيةُ المنهزمينَ - فَتَحَصَّنُوا بحصنِ الطائفِ.
فحصارُه ﷺ للطائفِ ليستنزلَ الذين كانوا يقاتلونَه في غزوةِ حنينٍ من تمامِ غزوةِ حنينٍ، وكانوا هم البادئين بالقتالِ، والأشهرُ الْحُرُمُ إذا بُدِئَ المسلمونَ فيها بالقتالِ قَاتَلُوا، كما تَقَدَّمَ في قولِه: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194] وكما قَدَّمْنَاهُ في الكلامِ على قولِه تعالى: وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:191]، فهذا هو الذي أَجَابَ به العلماءُ عن حصارِ النبيِّ ﷺ لثقيفٍ على القولِ ببقاءِ حرمةِ الأشهرِ الْحُرُمِ"[2] أ.هـ.
فالشيخ - رحمه الله - كان يرى أن الأشهر الحرم قد نسخ تحريم القتال فيها؛ ثم تراجع عنه.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله تعالى -: " قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا ابْتَدَأَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ جَعَلَ السَّنَةَ اثنَى عَشَرَ شهراً؛ قَوْله: مِنْهَا أَرْبَعَة حرم قَدْ ذُكِرَ تَفْسِيرُهَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَوْلُهُ: ذَلِك الدّين الْقيم قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ الدِّينُ الْقيم مَجَازُهُ الْقَائِمُ أَيِ الْمُسْتَقِيمُ، فَخَرَجَ مَخْرَجَ سَيِّدٍ مِنْ سَادَ يَسُودُ كَقَامَ يَقُومُ، قَوْلُهُ: فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم أَيْ فِي الْأَرْبَعَةِ بِاسْتِحْلَالِ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي.
قَوْلُهُ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّمَانِ السَّنَةُ، وَقَوْلُهُ: كَهَيْئَتِهِ أَيِ اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ حَالَتِهِ، وَلَفْظُ: الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى قَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ، وَالْمُرَادُ بِاسْتِدَارَتِهِ وُقُوعُ تَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ الشَّمْسُ بُرْجَ الْحَمَلِ، حَيْثُ يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَار، وَوَقع فِي حَدِيث ابن عمر عِنْد ابن مَرْدَوَيْهِ أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ، قَوْلُهُ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا أَيِ السَّنَةُ الْعَرَبِيَّةُ الْهِلَالِيَّة، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي سَبَبِ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَانُوا يَجْعَلُونَ السَّنَةَ اثنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَتَدُورُ الْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ هُوَ تَفْسِيرُ الْأَرْبَعَةِ الْحرم، قَالَ ابن التِّينِ: الصَّوَابُ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ، يَعْنِي لِأَنَّ الْمُمَيّزَ الشَّهْر قَالَ: وَلَعَلَّه أَعَادَهُ على المعنى، أَيْ ثَلَاثُ مُدَدٍ مُتَوَالِيَاتٍ انْتَهَى، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّ الَّذِي لَا يُذْكَرُ التَّمْيِيزُ مَعَهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَذِكْرها مِنْ سَنَتَيْنِ لِمَصْلَحَةِ التَّوَالِي بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَإِلَّا فَلَوْ بَدَأَ بِالْمُحَرَّمِ لَفَاتَ مَقْصُودُ التَّوَالِي، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ بَعْضِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَقِيلَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَجْعَلُونَ صَفَرًا الْمُحَرَّمَ؛ لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لَا يَتَعَاطَوْنَ فِيهَا الْقِتَالَ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: مُتَوَالِيَاتٌ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْحَاءٍ مِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، فَيُحِلُّ فِيهِ الْقِتَالَ، وَيُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي صَفَرٍ وَيُسَمِّيهِ الْمُحَرَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُ ذَلِكَ سَنَةً هَكَذَا، وَسَنَةً هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ سَنَتَيْنِ هَكَذَا، وَسَنَتَيْنِ هَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ صَفَرًا إِلَى رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَرَبِيعًا إِلَى مَا يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِيرَ شَوَّالٌ ذَا الْقَعْدَةِ، وَذُو الْقَعْدَةِ ذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُعِيد الْعدَد على الأَصْل، قَوْله: وَرَجَب مُضر أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْظِيمِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، فَيُقَالُ: إِنَّ رَبِيعَةَ كَانُوا يَجْعَلُونَ بَدَلَهُ رَمَضَانَ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ مَا ذُكِرَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَصَفَرٍ؛ فَيُحِلُّونَ رَجَبًا، وَيُحَرِّمُونَ شَعْبَانَ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ تَأْكِيدًا، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ نَسَئُوا بَعْضَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَيْ أَخَّرُوهَا فَيُحِلُّونَ شَهْرًا حَرَامًا، وَيُحَرِّمُونَ مَكَانَهُ آخَرَ بَدَلَهُ، حَتَّى رُفضَ تَخْصِيصُ الْأَرْبَعَةِ بِالتَّحْرِيمِ أَحْيَانًا، وَوَقَعَ تَحْرِيمُ أَرْبَعَةٍ مُطْلَقَةٍ مِنَ السَّنَةِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَشْهُرَ رَجَعَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَبَطَلَ النَّسِيءُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانُوا يُخَالِفُونَ بَيْنَ أَشْهُرِ السَّنَةِ بِالتَّحْلِيلِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ؛ لِأَسْبَابٍ تَعْرِضُ لَهُمْ، مِنْهَا: اسْتِعْجَالُ الْحَرْبِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، ثُمَّ يُحَرِّمُونَ بَدَلَهُ شَهْرًا غَيْرَهُ، فَتَتَحَوَّلُ فِي ذَلِكَ شُهُورُ السَّنَةِ وَتَتَبَدَّلُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى ذَلِكَ عِدَّةٌ مِنَ السِّنِينَ اسْتَدَارَ الزَّمَانُ، وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، فَاتَّفَقَ وُقُوعُ حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ"[3].
وقال الجصاص - رحمه الله -: "وَقَوْلُهُ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو؛ وَهُمْ الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ قَدْ كَانُوا قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ أَحَدٌ يُظْهِرُ الْكُفْرَ فِي وَقْتِ نُزُولِ بَرَاءَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى ذَلِكَ فِي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، وَهَمٌ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْمًا مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ الطُّلَقَاءُ؛ مِنْ نَحْوِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَحْزَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقَ قَلْبُهُ مِنْ الْكُفْرِ"[4].
هذا بعيد، لكن يمكن أن تكون الآية صدر براءة نزل بعد الفتح، ويكون بعض الآيات نزلت قبل ذلك، ويمكن أن يكون أئمة الكفر كما سبق لا يختص بأئمة الكفر من قريش، وإنما سائر الطوائف وملل الكفر، وخص أئمة الكفر؛ لأن الناس تبع لهم في نقض العهود، ومحادة الله .
ويقول - رحمه الله -: "فَيَكُونُ مُرَادُ الْآيَةِ هَؤُلَاءِ دُونَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ، وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ، وَبَدَرَهُمْ بِالْقِتَالِ، وَالْحَرْبِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا، وَسَائِرَ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُعَاضِدِينَ لِقُرَيْشٍ عَلَى حَرْبِ النَّبِيِّ ﷺ وَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقِتَالِهِمْ، وَقَتْلِهِمْ إنْ هُمْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَطَعَنُوا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ"[5].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويسمون هذا العيد وكل مخرج يخرجونه إلى الصحراء باعوثاً، فالباعوث اسم جنس لما يظهر به الدين كعيد الفطر، والنحر عند المسلمين"[6].
يعني خروجهم للاستسقاء: باعوث، خروجهم للعيد: باعوث.
"الشعانين: عيد مسيحي يقوم يوم الأحد السابق لعيد الفصح، يحتفل فيه بحمل السعف ذكرى لدخول السيد المسيح بيت المقدس، وهي كلمة دخيلة"[7].
وفي كتاب: "أعياد القبط": عيد الزيتونة ويعرف عندهم بعيد الشعانين، ومعناه التسبيح، ويكون في سابع أحد من صومهم، وسنّتهم في عيد الشعانين أن يخرجوا سعف النخل من الكنيسة، ويرون أنه يوم ركوب المسيح العنو - وهو الحمار - في القدس، ودخوله إلى صهيون وهو راكب والناس بين يديه يسبحون، وهو يأمر بالمعروف، ويحث على عمل الخير، وينهى عن المنكر، ويباعد عنه، وكان عيد الشعانين من مواسم النصارى بمصر التي تزين فيها كنائسهم، فلما كان لعشر خلون من شهر رجب سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة كان عيد الشعانين؛ فمنع الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله النصارى من تزيين كنائسهم، وحمْلِهم الخوص على ما كانت عادتهم، وقبض على عدة ممن وجد معه شيئاً من ذلك، وأمر بالقبض على ما هو مُحّبس على الكنائس من الأملاك، وأدخلها في الديوان، وكتب لسائر الأعمال بذلك، وأُحرقت عدة من صلبانهم على باب الجامع العتيق، والشرطة"[8].
- رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قصة خزاعة، برقم (3333)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2856).
- العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير، (5/497-499)، تحقيق: د/ خالد بن عثمان السبت.
- فتح الباري، لابن حجر (8/324-325)، دار المعرفة - بيروت.
- أحكام القرآن، للجصاص (3/112)، عبد السلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية.
- المرجع السابق (3/112).
- اقتضاء الصراط، لابن تيمية(1/213)، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية - القاهرة.
- انظر: القاموس الفقهي، للدكتور: سعدي أبو حبيب (198).
- المواعظ والاعتبار، المقريزي (1/331).