الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْءَاخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْءَاخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ

المصباح المنير المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ۝ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [سورة الأنفال:38-40].
يقول تعالى لنبيه محمدﷺ : قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ أي: عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ أي: من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم.


قوله: إِن يَنتَهُواْ، يعني انتهوا عن الكفر، فسبب المغفرة هو دخول الإسلام، ولا يكفي الانتهاء عن القتال، وهذا دليل على أن ما عمله الكفار يكفّره الله إذا دخلوا في دين الله أفواجاً، وإن لم يستحضروا توبة من أعمالهم.

كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر[1].


قد يفهم من هذا الحديث أن العبد إذا أساء وعصى، فإنه يؤاخذ بأعماله التي كانت في الجاهلية، وهذا ليس مراداً - والله تعالى أعلم - لأن النصوص تدل على أن الله – تبارك وتعالى - يغفر لهم جميع الذنوب.
وقال بعض أهل العلم: إنه إذا دخل الإسلام وهو مصر على بعض الذنوب، كالزنى مثلاً، فإنه لا يغفر له ما قارف في الجاهلية من هذا النوع من المعاصي، وهذا القول رواه ابن هانئ عن الإمام أحمد - رحمه الله -، لكن الذي عليه عامة أهل العلم: أن الكافر إذا دخل في الإسلام فإن الله يغفر له جميع الذنوب، أما معنى قوله ﷺ : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر، فهو أن من أحسن في الإسلام فلم يبدل ولم يغير ولم تحصل منه ردة أو نفاق، فلا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، أما من دخل في الإسلام ثم ارتد، أو دخل في الإسلام رياءً أو نفاقاً فإنه لا يغفر له، وهذا الذي عليه عامة المحققين. 

وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله ﷺ قال: الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجب ما كان قبلها.


هذا الحديث جاء من طريق يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله ﷺ بكذا ؟ أما بشرك رسول الله ﷺ بكذا ؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعدّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاثة لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله ﷺ مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ﷺ فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفر لي، قال: أما علمتَ أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟[2] إلى آخر الحديث.

وقوله: وَإِنْ يَعُودُواْ [سورة الأنفال:38] أي: يستمروا على ما هم فيه، فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ​​​​​​​ [سورة الأنفال:38] أي: فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة.


والسنة هي الشيء الثابت، والسنن لا تقاس باليوم والسنة والعشر السنوات، ومن نظر إلى صفحة التاريخ كاملة يتضح له ذلك، فأين التتر؟، وأين تلك الجيوش العارمة والهمج الذين هجموا على بلاد المسلمين؟ وأين الحملات الصليبية والاستعمار الذي طبق جميع بلاد المسلمين؟

  1. رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة (6/2536)، برقم (6523)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية؟ (1/111)، برقم (120).
  2. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1 / 112)، برقم (192).

مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ ۝ إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة التوبة:38-39].
هذا شروع في عتاب من تخلَّف عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك حين طابت الثمار، والظلال؛ في شدة الحر، وحَمَارّة القيظ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أي: تكاسلتم، وملتم إلى المقام في الدعة، والخفض، وطيب الثمار أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ أي: ما لكم فعلتم هكذا أرضاً منكم بالدنيا بدلاً من الآخرة؟
ثم زهّد - تبارك وتعالى - في الدنيا، ورغب في الآخرة، فقال: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ كما قال الإمام أحمد عن المستَوْرِد أخي بني فِهْر قال: قال رسول الله ﷺ: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع؟ وأشار بالسبابة[1]، انفرد بإخراجه مسلم[2].
وقال الثوري، عن الأعمش في الآية: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ قال: كزاد الراكب.
وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ قال: "ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه"، فلما وُضع بين يديه نَظَر إليه فقال: أمَا لي من كَبِير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول: "أفٍّ لكِ من دار، إن كان كثيرُك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور"".


فقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ ما الذي يمنعكم إذا طلب منكم النفير في سبيل الله أي الجهاد؟ وهذا غالب ما ترد فيه هذه اللفظة من المعنى، كثيراً ما يعبر في القرآن بـ"سبيل الله" ويراد به الجهاد، ومن أهل العلم من عممه بجميع المواضع، بل إن من أهل العلم من قال مفسراً لقول النبي ﷺ: من صام يوماً في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفا[3] قالوا: صام يوماً في سبيل أي في الجهاد، وهو تفسير له وجه من النظر معتبر،   وقوله: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ النفْر بمعنى الانتقال بسرعة من مكان لآخر لأمر يحدث، انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ قال: أي تكاسلتم، وملتم إلى المقام في الدعة، والخفض، وطيب الثمار، اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ اثاقلتم أصلها تثاقلتم وعدي بـ "إلى"؛ لأنه متضمن معنى الميل، والإخلاد، ملتم إلى الأرض أخلدتم إلى الأرض، ومعلوم أن الفعل قد يضمن معنى الفعل فيعدى بتعديته، وهذا أبلغ و أكثر في المعاني، اثَّاقَلْتُمْ مضمن معنى الإخلاد والميل، فعدي بـ "إلى".

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (18008)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه المستورد بن شداد، فمن رجال مسلم، وروى له البخاري تعليقا.
  2. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2858).
  3. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الصوم في سبيل الله، برقم (2685)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، برقم (1153).