قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله: فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [سورة التوبة:2]".
انسلاخ الشهر تكامله جزءاً فجزءاً، شيئاً فشيئاً؛ حتى ينقضي، فشبه ذلك بسلخ الجلد، ومباينته للجسد؛ تقول: سلخت الشاة، فانسلاخ الأشهر الحرم معناه انقضاؤها، فإذا انسلخ الأشهر الحرم: المتبادر عند إطلاق الأشهر الحرم أنها الأشهر الأربعة التي قال الله في هذه السورة: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [سورة التوبة:36]، وهي ثلاثة سرد، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فهل المراد فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ يعني المشركين الذين لا عهد لهم؟، قلنا: إن المشركين منهم من له عهد مطلق فهذا يحد بأربعة أشهر، ومنهم من عهده دون الأربعة الأشهر فيكمل له أربعة أشهر، ومن له عهد أكثر من أربعة أشهر - محدد - ولكنه ظهر منه إخلال ونقص فيمهل أربعة أشهر، ومن لا عهد له أصلاً قال الله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فمن أهل العلم من قال: المراد هؤلاء، يعني إذا انسلخت الأشهر الحرم المعروفة التي بقي منها من يوم النحر خمسون يوماً؛ عشرون يوماً من ذي الحجة، وشهر المحرم فهذه خمسون يوماً، فما تكون أربعة أشهر التي بقيت عليهم إذا حملناها على هذا المعنى فيكون ذلك مختصاً بالمشركين الذين ليس بين المسلمين وبينهم عهد، فإنهم لا يقتلون أصلاً، يعني هؤلاء ليس بينهم وبين المسلمين عهد، فهؤلاء لا يقتلون في الأشهر الحرم يعني لا في ذلك العام، ولا في غيره؛ بناءً على أن آية براءة التي يقول الله فيها عن الأشهر الحرم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ يعني لا يجوز القتال فيها، ومن أهل العلم - كما سيأتي - من يقول: إنها منسوخة، بعضهم يقول: منسوخة بالذي بعدها مباشرة، وهو قوله: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً يعني في كل حين، ولا تتقيدوا بوقت معين، وسيأتي الكلام على هذا، والأرجح أنها غير منسوخة؛ فعلى كل حال الكلام الآن في هذه الآية فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ يحتمل أن يكون المراد اقتلوا المشركين الذين لا عهد بينكم وبينهم، فهذه هي آية السيف، ويحتمل أن يكون المراد بالأشهر الحرم أشهر الإمهال الأربعة، هل هذه أشهر الإمهال الأربعة التي تبدأ من يوم النحر، أربعة أشهر من يوم النحر هل هذه يقال لها: الأشهر الحرم؟ بأي اعتبار أُطلق عليها ذلك، وتُرك ما اشتهر وعرف من أن الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة المعروفة فيجيب من يقول بهذا يقول: إنها أشهر حرم باعتبار أن دماء المشركين حرمت فيها؛ لأن الله أمهلهم هذه المدة أربعة أشهر، فيحرم قتالهم، وقتلهم في هذه المدة، فقيل لها أشهر حرم بهذا الاعتبار، كما قيل للأشهر الحرم المعروفة بذلك؛ لحرمة القتال فيها، فلما حرم القتال في هذه - في وقت الإمهال - قيل لها: أشهر حرم فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ، وقالوا - أيضا -: إن الباقي ما يقال له: أشهر بالجمع، إنما هو شهر وعشرون يوماً، وأشهر الحرم المعروفة، والله ذكر ذلك بصيغة الجمع قال: الأشهر الحرم، والذين يقولون: إن المقصود بها الأشهر الحرم المعروفة يجيبون عن هذا فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ بأنها التي بقي منها خمسون يوماً.
وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي: من الأرض، وهذا عام، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191]".
قوله هنا: فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ أي إذا أنقضت الأشهر الأربعة، ابن كثير حمله على أشهر الإمهال، وقيل لها: حُرم؛ لأنه تحرم فيها دماء المشركين فيقول: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم، وأجلناهم فيها؛ فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم، ابن كثير كلامه لم ينتهِ، والمؤلف اختصر منه جزءًا مهماً كان المفروض أن يُذكر، وهو يتضمن قاعدة، وبقية كلامه يقول: لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، هذا وجه الترجيح، فقال: إنها أشهر الإمهال؛ لأن عود العهد على مذكور فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ، فـ"ال" في الأشهر العهدية، "الحرم" معهود العهد هنا هل هو عهد ذكري؟ أو عهد ذهني؟ أو عهد حضوري؟ العهد الذهني معناه أنه غير مذكور هنا، عهد ذهني أيْ شيء معهود تعرفونه لو قيل: إنها الأشهر الحرم يعني إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ [سورة التوبة:36]، المقصود منها أربعة حرم هذا يسمى بالنسبة للآية هنا فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ عهد ذهني معهودة في أذهانكم، والآية التي فيها الأشهر الحرم الأربعة المعروفة لم تأت إلى الآن، وإذا كان العهد هو المذكور قبله فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فيكون العهد هنا عهداً ذكرياً مذكوراً قبله، كما قال الله : أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [سورة المزمل:15-16]، والرسول هو المذكور قبل قليل، فهذا عهد ذكري فتكون "ال" عهدية، الرسول مذكور آنفاً، والعهد الحضوري مثلما تقول: الرجل غير منتبه، أيُّ رجل؟ الذي أنا انظر إليه مثلاً، تقول: الرجل غير منتبه، فهذا عهد حضوري، فابن كثير وجّه الترجيح يقول: إن كون العهد يعود إلى مذكور أولى من معهود في الذهن، هذا وجه الترجيح، فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ أي إذا انقضت الأشهر الأربعة، وهذا الذي قاله ابن كثير رجحه جماعة منهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، والأول: أنها الأشهر الحرم المعروفة إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ التي بقي منها خمسون يوما من يوم النحر هذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير، والآية تحتمل هذا وهذا، ولو نظرنا من الناحية الواقعية العملية بالنسبة إلينا الآن لا يترتب عليها عمل بالنسبة لنا، وإنما نريد أن نعرف مسألةً وقعت وحصلت وانتهت، لكن الآن الذي عندنا فقط هو: هل الأشهر الحرم يجوز القتال فيها أو لا يجوز؟ القتال فيها فقط، فالأشهر الحرم الأربعة وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، أمّا أنه متى يبدأ الإمهال، متى تبدأ هذه من يوم النحر وما بعده خمسون يوماً أو أنها أشهر الإمهال؟ انتهى هذا كله، ولسنا الآن من الناحية العملية نستفيد شيئاً من معرفة هذا، والمسائل التي لا ينبني عليها عملٌ الجهلُ بها لا يضر، وتطويل الزمان بدراستها، وبحثها؛ أمر غير محمود، مع أن هذه الصورة أو هذا المثال من أوضح الأمثلة على مسألة علمية في أصلها - ليست من فضول العلم - يترتب عليها عمل كبير؛ إلا أنه بالنسبة إلينا نحن الآن لا يترتب عليها عمل، فتكون بهذا الاعتبار من فضول العلم، وهذا من أعجب الأشياء، بهذا الاعتبار من فضول العلم، العادة أن فضول العلم مثل: كم عدد طوابق سفينة نوح؟ ومن أي الخشب صنعت؟ ومن أول من ركب؟ وآخر من ركب؟ وأين رست؟ وأين يقع الجودي؟ إذا كان اسم جبل وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [سورة هود:44]، والكهف أين يقع؟ وكم عدد الذين كانوا فيه؟ فمعرفة هذا لا يترتب عليه فائدة، هنا هذه مسألة في ذلك الحين يترتب عليها أمر عظيم يتعلق بالدماء، ولكن بالنسبة لنا الآن مايترتب عليها شيء فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ سواء كانت أشهر الإمهال الأربعة أو غير ذلك، فهذا من الأمثلة الفريدة التي تتحول فيها مسألة من صلب العلم إلى فضول العلم، ولو طَرَق سمع كثير من الناس لأول وهلة أن الاشتغال بهذا من فضول العلم لربما مافهموا وجه ذلك، هو من فضول العلم بالنسبة لمن جاء بعدُ، فالنبي ﷺ أعلم الناس بمراد الله ، وحملها على مراد الله - تبارك وتعالى -، وحصل فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ وهذه إما أن تخص بالذين لا عهد لهم، ويقال: كما يقول ابن جرير: هؤلاء إذا انتهت الأشهر الباقي منها خمسون يوماً فاقتلوهم، أو يقال: إنها في الجميع فيمهلون أربعة أشهر وهي أشهر الإمهال، فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ التي أمهلناهم فيها فاقتلوهم، وهذا الأمر بقتلهم في آية السيف هذه هو في وقت قوة الأمة، والذي خوطب بهذا - فاقتلوا المشركين - ليس الآحاد، وإنما خوطبت الأمة باعتبار أن الذي يقوم بهذا من بسط يده يعني الإمام لا يقوم به أفراد الناس، ولا يجوز لأحد أن يقتل المشركين من عند نفسه هكذا، فيكون افتئاتاً على الأمة، هذا لا يجوز بحال من الأحوال، والمشركون أنواع منهم من يكون له عهد فهذا لا يجوز قتله في عهده، ومنهم من يكون له أمان وهذا لا يجوز قتله ولو أعطاه الأمان واحد من أدنى المسلمين، ومن له ذمة بمعنى أنه من أهل الذمة يعني يكون من أهل البلد مثل القبط في مصر، وكذا البلاد التي فتحها المسلمون وفيها أهل كتاب، فهؤلاء لا يجوز قتلهم، والمستأمن، والحربي، الحربي هو الذي يقتل المحارب، طبعا في أوضاع الأمة الآن المنقسمة إلى كيانات قد يكون محارباً بالنسبة لهؤلاء وليس محارباً بالنسبة لهؤلاء، فهذه المسائل تحتاج إلى أن يفرق بينها، وأن يتفقه الإنسان في الدين، ويعرف مراد الله - تبارك وتعالى -، ولا يُحمل النصوص ما لا تحتمل، ولا أحد من أهل العلم يقول: إنه يجوز لآحاد الناس أن يقوموا بمثل هذه الأمور فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ أبداً، وإلا لصارت أمور الناس فوضى، أما إن كان لهم عهد أو ذمة فإنه لا يجوز لا للإمام ولا لغير الإمام أن يقتلهم، يعني لو قتلهم الإمام لكان ظالما لهم، ومن كان يتخوف منه الخيانة ينبذ إليه عهده، والذي ينبذ إليه العهد الإمام وليس آحاد الناس، وإلا صارت أمور الناس فوضى، ويحصل بسبب ذلك من الفساد الشيء الكثير، تصور لو أن أحمقَ جاء إلى سائقك أو سائق جارك البوذي أو الهندي وقتله، ورمى برأسه في الزبالة، أو علق جثته بجدار الجيران؛ فلا أحد يقبل هذا، ولا يجوز بحال من الأحوال، ولا فرق بين هذا وبين مَن عيونه زرقاء؛ مثله، كلهم كفار، كما أن هذا لا يقتل، لماذا يخص القتل بغيره من الأجناس الأخرى من الكفار؟!، فالحاصل أن هذا لا يجوز، ولا يفهم من هذه الآية أبداً أن ذلك لآحاد الناس، وما جنى على الجهاد إلا مثلُ هذه الحماقات، وما يحصل بسبب هذا إلا الفساد العريض، والآن صار كثير من الناس يتحرج من الدعاء للمجاهدين، يقول: اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، ولا يقول: المجاهدين!! كله بسبب الحماقات، وصار كثير من الناس يفهم إذا قيل: المجاهدون أنهم من يرتكبون مثل هذه الحماقات، فينبغي أن نفرق بين هذا وهذا، ونفهم معنى الجهاد حقيقة، وما خرج عنه، وأحيانا للأسف تستوي التصرفات لو أنه فعلها أشد أعداء الإسلام، أو فعلها من ينتسب للإسلام؛ النتيجة واحدة، أحياناً الجهل، وضعف النظر وقلة النظر في العواقب يؤدي أحياناً بالشخص إلى أن يفعل فعل أعدى أعداء الإسلام!! يعني على سبيل المثال الآن ما وقع في الحبانية، وسمعتم بالذي في العراق المسجد الجامع جاءت شاحنة، وفُجر أكثرُ من سبع وخمسين جثة، من رجال، ونساء، وأطفال مسلمين مصلين، فبعضهم ينسبه لبعض من ينتسب للجهاد، وبعضهم يقول: لا، هؤلاء بعض المندسين الذين يريدون الإساءة إلى المجاهدين، ما تدري من الذي يفعل هذا، هذا متوقع، وهذا متوقع، والنتيجة واحدة، فعل هذا الجاهل يمكن أن يقوم به واحد من الموساد، أو من الرافضة؛ من أجل أن يضرب هؤلاء المجاهدين، ويؤلب الناس عليهم، ويقول لهم: هؤلاء مجرمون و...، فهذه المفاهيم لا يمكن أن تكون هي مراد الله بهذه الآيات، بل إن الأمة حتى ممثلة في الإمام أو الخليفة إذا كانت الأمة ضعيفة فإنها لا تعمل بهذه الآية: فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ تعمل بالآيات المكية: كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ [سورة النساء:77]، فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109]، لكن في نفس الوقت لا تغير حقائق الدين، يقال: هذا دين الجهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، والجهاد منه جهاد دفع، ومنه جهاد طلب، والأمة لن تكون قوية ممكّنة إلا إذا كانت أمة مجاهدة، تجاهد أعداءها، ولا يجوز أن الأمة تكون بحالة من الاستخذاء: إذا لطمك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر، وإنما كما قال الله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [سورة الشورى:39]، فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة كما قال النبي ﷺ، وحتى يقاتل آخرهم الدجال، فهذا ماضٍ، وسيأتي رجال في أصلاب آبائهم يجاهدون في سبيل الله ، لكن تبقى هذه الحماقات والجهالات مثل الفقاعة تذهب، ولا يصح إلا الصحيح، ويبقى الحق الجهاد الخالص النقي الذي يرضاه الله ، ورسوله ﷺ، ولا أنفع للناس من العلم، والفقه في الدين، فهذا الإنسان المسكين الجاهل الذي تاب لحينه، ويرى أن عنده ذنوباً ما يكفرها إلا القتل في سبيل الله، ويرى أن دراسة التجويد، والفقه، والحديث هذا تطويل، فالأفضل أن يموت، ويرتاح، وبأقرب وقت، فيتهافت على الموت بأي طريقة، ثم قد يلقي بنفسه إلى التهلكة في الدنيا، والآخرة - نسأل الله العافية -، فيحتاج الإنسان إلى فقه، والفِرَق ما ظهرت في التاريخ إلا بسبب الجهل أو الهوى.
يعني باعتبار أن الأخذ هو الأسر، والأخيذ هو الأسير وَخُذُوهُمْ أي ائسروهم.
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ المرصد هو الموضع الذي يرقب فيه العدو، يعني اجلسوا لهم في كل طريق، وفي كل مكان تستطيعون أن تتمكنوا منهم فيه، فهذا خطاب للأمة ممثله بالإمام هو الذي يطلب المشركين، ويقتلهم، ويقعد لهم في كل مرصد بالشروط المعروفة، وليس بالظلم، والبغي؛ إلا جهاد الدفع إذا هجم الكفار على بلد من بلاد المسلمين فيجب صدهم ما في إمام للبلد، قُتل الإمام الذي فيها، أو مات، أو ما كان يستحق أصلاً؛ فيجب على كل مستطيع أن يدفعهم، فهذا جهاد الدفع.
يعني كلام الحافظ ابن كثير: نبه بأعلاها على أدناها، يعني فإن تابوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة يعني وصاموا رمضان، وحجوا بيت الله الحرام هذا معناه، اقتصر على الصلاة، والزكاة قال: نبه بأعلاها على أدناها بمعنى أن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، وأشرفها، والزكاة هي رأس العبادات المالية، ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه[2]، فالزكاة أفضل من الصدقة، فنبه على هذا وهذا بهذين، ووجه الجمع بين الصلاة والزكاة من أهل العلم من قال: إن سعادة العبد دائرة بين أمرين الإحسان إلى الخلق ورأس ذلك الزكاة، والإحسان مع الخالق ورأس ذلك الصلاة، فهي صلة بين الرب والعبد فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ [سورة التوبة:11]، وهذا يحتج به من يقول: إن تارك الصلاة كافر؛ لأن الله جعل ذلك مقيداً به فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ، يعني: مفهوم المخالفة إن تابوا، ولم يقيموا الصلاة؛ فليسوا بإخوان لنا في الدين وهذا معناه.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: لم يبق لأحد من المشركين عهد، ولا ذمة؛ منذ نزلت براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر".
هذا يقال فيمن لا عهد له، لا عهود جديدة في ذلك الوقت؛ حينما نزلت الآية، لكن ليس معنى الآية أنه لا يجوز للمسلمين أن يعاهدوا المشركين، لا، وقد حصل عهود بعد هذه الآية بين المسلمين وبين المشركين بعد النبي ﷺ فهذا بحسب ما تقتضيه المصلحة، فإن اقتضت مصلحة المسلمين أن يوجد عهد فإنهم يعاهدونهم لكن لا يعاهدونهم عهوداً مفتوحةً، وإنما إلى مدة، وإن لم تقتضِ المصلحة فلا عهد، لكن الكلام في زمن النبي ﷺ من كان ليس لهم عهد فلا عهود جديدة لهم، وإنما السيف بعد انقضاء الأشهر الحرم، وذلك بالنسبة للعهود بعدهم أي بعد النبي ﷺ بحسب حاجة المسلمين، بحسب ضعفهم، وحسب قوتهم، وحسب مصالحهم وهكذا، تصور لو أن أصحاب النبي ﷺ - حاشاهم - انطلقوا في الأرض كلما رأوا مشركاً جلسوا يقتلونه بمفردهم، هم هكذا؟! هذا معاهد، وهذا ذمي، وهذا مستأمن، والسيف المرهف كلما وجدوا مشركاً قطعوا رأسه!! يتصور هذا؟! يتصور هكذا؟! أبداً، لكن من الناس من لربما تستفزه نفسه، وقلة العلم، وقلة الورع؛ فيظن أنه بهذا يتقرب إلى الله .
- رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:5]، برقم (25)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة...، برقم (22).
- رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب التواضع، برقم (6137).