الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَٰرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة:60].
لما ذكر الله - تعالى - اعتراض المنافقين الجهلة على النبي ﷺ، ولمْزهم إياه في قَسْم الصدقات؛ بيَّن تعالى أنه هو الذي قسمها، وبيَّن حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يَكِلْ قَسْمها إلى أحد غيره، فجزّأها لهؤلاء المذكورين.
وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية - على المشهور - لشدة فاقتهم، وحاجتهم.
ورُوي عن ابن عباس - ا -، ومجاهد، والحسن البصري، وابن زيد، واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير: هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً، والمسكين: هو الذي يسأل، ويطوف، ويتبع الناس.
وقال قتادة: الفقير: من به زمانة، والمسكين: الصحيح الجسم".


قول ابن كثير - رحمه الله- هنا: لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي ﷺ، ولمْزهم إياه في قَسْم الصدقات؛ بيَّن تعالى أنه هو الذي قسمها، وبيَّن حكمها، وتولى أمرها بنفسه، هذا يسمى عند المفسرين علم المناسبة بين الآية والآية التي قبلها، ثم قال: ورُوي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن البصري، وابن زيد ... إلى آخره، وقال: واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو ... هذا في الفرق بين الفقير والمسكين، إذا ذكر المسكين منفرداً دخل في معناه الفقير، وإذا ذكر الفقير منفرداً دخل في معناه المسكين، بلا إشكال، لكن إذا ذكر الفقير والمسكين معاً فهل هما بمعنى واحد، أو أن المعنى يختلف؟

كثير من أهل العلم يقولون: هذا مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، يعني إذا اجتمعا في اللفظ الفقراء، والمساكين؛ افترقا في المعنى، صار الفقير له معنى، والمسكين له معنى، و إذا افترقا يعني ذكر أحدهما اجتمعا يعني في المعنى، وخلاف العلماء في هذا كثير، ولا أعلم شيئاً يمكن أن يحتج به يرفع هذا الخلاف، وكل طائفة تحتج لما ذهبت إليه ببعض الأمور التي تلتمسها، يقول هنا: اختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً، والمسكين هو الذي يسأل، ويطوف، ويتبع الناس، فهم مشتركون في الحاجة لكن على هذا القول قول ابن جرير، وقال به آخرون غير ابن جرير أيضاً، وهو منسوب لابن عباس، وبه قال الإمام الأزهري اللغوي المعروف باعتبار أنهما مشتركان في الحاجة، واختار ابن جرير والأزهري أن حال الفقير أشد؛ لأنهما نظرا إلى معنى المسكنة قال: المسكنة هي الذل، مذلة، وهذا الذل أتاه من مد يده، فيذهب إلى هذا، ويقوم يتكلم بالمسجد، ويتبع هذا، ويطرق باب هذا، فيحصل له ذل بسبب ذلك، وهذا الذل هو المسكنة، فصار الذي يسأل ذليلاً، والذي لا يسأل يكون متعففاً وهو الفقير، يقول: وقال قتادة: الفقير من به زمانة، والمسكين صحيح الجسم؛ يعني يشتركان في الحاجة، لكن جعل الفقير هنا أشد من المسكين، ليس بعكس القول الأول، فالقول الأول لا يقول: إن المسكين أشد، المسكين يذهب، ويطوف، ويسأل، ويحصل، وهنا جعل الفقير أشد، باعتبار أن فيه إعاقة، والمسكين صحيح الجسم لكنه ما عنده شيء، الفقير والمسكين، وهذا لا دليل عليه، وبعض أهل العلم كابن قتيبة يقول: المسكين أشد حالاً من الفقير، فالفقير قد يجد بعض الشيء، ولكنه لا يكفيه، والمسكين لا يجد شيئاً فكأنه تمسكن من شدة الحاجة، ظهر ذلك عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقد يحتج هؤلاء ببيت من الشعر يقول:

أما الفقير الذي كانت حلوبته وَفْقَ العيال فلم يُتْرك له سَبَدُ

يقول هذا عنده حلوبة فيسمى فقيراً، ومن يعكسون القضية ويقولون: الفقير أشد حاجة من المسكين؛ يحتجون بقول الله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [سورة الكهف:79]، قالوا: عندهم سفينة، ويؤجرون، أو يشتغلون في البحر بالصيد، ولكنهم لا يحصلون كفايتهم، وإذا تأملت تجد أن هذه الاحتجاجات فيها نظر؛ لأنا قررنا في الأول أنه إذا ذكر أحد الاسمين دخل فيه الآخر، فقوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يعني معناه فقراء، وهكذا بيت الشعر هذا؛ وإن كان لا يحتج به في هذا المعنى أصلاً، ولا يعرف هذا الشاعر، وما قيمة كلامه أصلاً حتى يرجح به بين الأقوال، لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وكثير من السلف يفسرون ذلك بقوله ﷺ: ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده التمرة والتمرتان[1]، أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -، فمثل هذا من الناحية العملية نحن نحتاج إلى أن نعرف أن الفقراء من مصارف الزكاة سواء كان يسأل، أو لا يسأل، وهذا الذي يترتب عليه العمل، سواء كان يسأل الناس، ويتعرض لهم، أو يتعفف، والمتعفف أولى حينما نوازن، المتعفف أولى من غيره، يعني المصرف الواحد فيه أولويات حينما يقال مثلاً: وَالْغَارِمِينَ فأصحاب الديون يتفاوتون، فالذي لحقه دين وهو محبوس بدينه أولى من الطليق، ثم الذي لحقه دين بسبب التكثر يريد أن يكون تاجراً، ويستدين من أجل أن ينشىء مصانع، وينشئ ورشاً، ونحو هذا تكثراً؛ هو موظف، وراتبه عشرة آلاف؛ لكنه يستدين من هذا خمسمائة ألف، ومن هذا مليوناً، ومن البنك الفلاني خمسمائة؛ ليشتري مزرعة، ويشتري خمسين من الإبل، ويشتري مخبزاً، ويشتري محل منجرة، ومصنع ألمنيوم، ويركب سيارة قيمتها أربعمائة ألف، ثم بعد ذلك يتورط، فالعشرة الآلف لا تسدد، ويأتي ويطوف بورقة ويقول: يا جماعة أنا ركبتني الديون، وأنا تعبت، وأنا ما عاد أستطيع؛ عجزت، فمثل هذا لا يعطى من الزكاة، بخلاف من أصابته الديون في جائحة، أصابته الديون في أمور ضرورية من العلاج، أو من تحصيل قوت عياله، أو نحو هذا فمثل هذا أولى الناس بالزكاة.

"ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية:
فأما "الفقراء" فعن ابن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: لا تحل الصدقة لغَنِيٍّ، ولا لذي مِرَّة سَويّ[2] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي".

قوله: لا تحل الصدقة لغني وهذا معروف، ولا لذي مِرة سويٍّ يأتيك شاب عمره ثلاثين سنة ذي مرة أي قوي، وسَويّ يعني ليس به إعاقة، سليم الأعضاء، ويأتي ويقول: أعطوني من الزكاة، لماذا لا تعمل؟ قال: ما وجدت عملاً!! فمثل هذا ليس به بأس، شاب نشيط، لا يُعطَى، وهو أيضاً لا يعذر بأخذها، لا تحل له صدقة التطوع إذا كان هو الذي يسأل، وذكر النبي ﷺ أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة، وهذا ليس منهم.

"وأما المساكين: فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس، فتردُّه اللقمة، واللقمتان، والتمرة، والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجدُ غنًى يغنيه، ولا يُفْطَن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً[3] رواه الشيخان.
وأما العاملون عليها: فهم الجباة، والسعاة؛ يستحقون منها قسطاً على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله ﷺ الذين تحرم عليهم الصدقة، لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث: أنه انطلق هو والفضل بن عباس - ا - يسألان رسول الله ﷺ ليستعملهما على الصدقة، فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس[4]".


والعاملون عليها كم يعطون؟ ومن أين يعطون؟ من أهل العلم من قال: إنهم يعطون الثمن، وهو قول الشافعي - رحمه الله - باعتبارهم صنفاً من الأصناف الثمانية، فتقسم بالسوية، فيعطون الثمن؛ وهذا فيه نظر، ويقابله قول من قال كالإمام مالك - رحم الله الجميع -: إنهم يعطون من بيت المال، وهذا فيه إشكال؛ لأن الآية صريحة في أنهم يعطون من الزكاة إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ... هم يعطون من الزكاة، والأقرب - والله تعالى أعلم - أنهم يعطون من الزكاة بحسب عملهم، حسب ما يؤدون من العمل بما يصلح مما يليق، كما يقال: أجرة المثل، فيقدر لهم شيء من هذا يعطونه، والزكوات لا تقسم بالسوية إلى ثمانية أقسام، ولا يجب أن يستوعب بها الأقسام الثمانية، يعني عندك زكاة لا يجب أن تقسمها ثمانية أقسام، وتعطي كل هذه الأصناف الثمانية، هذا الذي عليه عامة أهل العلم، بل نقل بعض أهل العلم الإجماع كالإمام مالك - رحمه الله - على أنه لا يجب استيعاب هذه الأصناف الثمانية، ولكن هذا الإجماع فيه إشكال؛ لأن من أهل العلم من خالف في هذا كالشافعي - رحمه الله - فإنه يرى أنها تستوعب، لكن ابن عبد البر - رحم الله الجميع - حمل قول الإمام مالك على أن ذلك من إجماع الصحابة: أنه لا يجب الاستيعاب، وهذا الذي دل عليه القرآن، والسنة، فمن تأمل قول النبي ﷺ مثلاً في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن: تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم[5] فذكر صنفاً واحداً، واعتذار النبي ﷺ حين قالوا: إن خالد بن الوليد منع زكاة ماله، وبيَّن لهم أمراً وهو أنه حبس أدْراعَه، وأعْتادَه، وفي رواية: وأعْتادَه في سبيل الله[6]، فمن أهل العلم من فسر هذا بأنه احتسب الزكاة في هذا الذي احتبسه في سبيل الله على هذا التفسير، وهو أحد الأقوال في معناها، ويحتج به على أن الزكاة تصرف في مصرف واحد؛ يمكن هذا، فجعلها في سبيل الله وهو الجهاد، فلا إشكال في أن تصرف الزكاة في باب من هذه الأبواب -والله تعالى أعلم -.

"وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام: منهم من يُعطَى ليُسلم كما أعطى النبي ﷺ صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان شهدها مشركاً، قال: "فلم يزل يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إليّ" كما روى الإمام أحمد عن صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله ﷺ يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إليّ"[7]، ورواه مسلم، والترمذي.
ومنهم من يُعْطَى ليحسُن إسلامه، ويثبت قلبه؛ كما أعطَى يوم حنين أيضاً جماعة من صناديد الطلقاء، وأشرافهم؛ مائة من الإبل، مائة من الإبل وقال: إني لأعطي الرجل وغيرُه أحبُّ إليّ منه؛ مخافة أن يَكُبَّه الله على وجهه في نار جهنم[8].
وفي الصحيحين عن أبي سعيد : أن علياً بعث إلى النبي ﷺ بذُهَيبة في تربتها من اليمن، فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعُيَينة بن بدر، وعلقمة بن عُلاثة، وزيد الخير، وقال: أتألّفهم[9].
ومنهم من يُعطَى لمَا يرجى من إسلام نظرائه، ومنهم من يُعطَى ليَجبِي الصدقات ممن يليه، أو ليدفع عن حَوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد، ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع - والله أعلم -".


فمن أسلم ولم يثبت إسلامه فإنه يعطى الزكاة لتثبيت الإسلام في قلبه، أو لكف شره أحياناً عن المسلمين سواء كان من المسلمين، أو كان من غيرهم، وعمر لم يعطهم، وبيَّن علة ذلك أن الله قد أعز دينه فلم يعد بحاجة إلى أحد، وعلى هذا مشى جماعة من أهل العلم كالشعبي من التابعين، وهو مذهب الإمام مالك، وأصحاب الرأي، وهذه مسألة ترجع إلى السياسة الشرعية؛ لأنه لا يجب استيعاب هذه الأصناف، فيمكن أن يستغني عن هؤلاء في وقت من الأوقات يكون الدين فيه قويًّا وظَهَر فلا يعطون، ولكن ليس معنى ذلك أن نصيبهم قد ارتفع، فلا يوجد دليل على النسخ، وإنما غاية ما هنالك أن عمر رأى في وقته أن هؤلاء الآن لا حاجة إليهم، فإذا احتيج إلى مثل هذا فإنهم يعطون، ورفْعُ عمر لها ليس من تغيير الأحكام الشرعية؛ فإنه لم يغير حكماً أنزله الله - تبارك وتعالى -؛ وإنما رأى أن هؤلاء لا يعطون فقط لا أنه غيَّر الحكم، يعطون في وقت ضعف المسلمين، في وقت الحاجة، وفي وقت عمر كان الدين أعزّ ما يكون، وأقوى ما يكون، فإذا احتيج إلى هذا أُعطوا، وللأسف إن مثل هذه القضية احتج بها الملبسون الذين ينادون بتجديد الدين بطريقتهم وهو تغيير شرائع الإسلام، فيقولون: عمر ألغى سهم المؤلفة قلوبهم، فهم يريدون أن يلغوا جملة من شرائع الإسلام التي لا تروق لهم، ويريدون أن يقرؤوا القرآن كما يقولون بطريقة جديدة معاصرة بعيداً عن فهم السلف، ويقولون: لسنا متعبدين بفهم السلف، فهؤلاء يريدون مسخ الدين، ولهذا بعضهم رأى إسقاط الحدود الشرعية أصلاً، وإلغاء حكم الردة!! وهلم جراً، وإذا تولى الإنسان إعطائها - إعطاء الزكاة - بنفسه، فالذين قالوا بأن المؤلفة قلوبهم لم يعد هنالك حاجة إليهم لمّا كثر الإسلام وانتشر، يقولون: يقسمها على ستة!! بحيث إنه يُسقط السعاة؛ لأنه هو الذي قدمها بنفسه، فلا يعطي العاملين عليها، ولا هؤلاء المؤلفة قلوبهم.

"وأما الرقاب: فرُوي عن الحسن البصري، ومقاتل بن حيان، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جُبَير، والنَّخعي، والزهري، وابن زيد: أنهم المكاتَبون، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه.
وقال ابن عباس - ا -، والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، أي: إن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب، أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالاً.
وقد ورد في حديث مرفوع أن الله يعتق بكل عضو منها عضواً من مُعتقها حتى الفَرْج بالفرج، وما ذاك إلا لأن الجزاء من جنس العمل وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:39]".


هنا يقول: قال ابن عباس والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة يعني "وفي الرقاب" هل المراد به أن تشتري عبداً وتعتقه؟ أو أن المراد المكاتب؟، والمكاتب هو العبد أو الأمة الذي يتعاقد مع سيده على أن يصير حراً إذا دفع له قدراً من المال يتفق معه عليه، ويكون منجماً بأقساط، فيقول له مثلاً: تدفع لي عشرة آلآف، كلَّ شهر ألفاً ثم بعد ذلك تكون حراً، فيمكّنه من العمل من أجل أن يكتسب، ثم بعد ذلك يؤدي إليه الكتابة، فهل المراد بـ"الرقاب" هذا أو المراد بـ"الرقاب" كما قال ابن عباس والحسن بأنه العتق؟ والقول بأنه هو العتق قال به جماعة غير ابن عباس كابن عمر من الصحابة، وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، والذين قالوا بأنه المُكاتَبة مثل: عمر بن عبد العزيز، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وهو اختيار ابن جرير، قالوا: إن الرقاب هم المكاتبون؛ لأن الزكاة تنتقل من الغني للفقير، وقالوا: هي في المكاتبين وليس في اشتراء الأرّقاء، وإعتاقهم؛ لأنهم نظروا إلى قضية وهي أن الرقيق إذا اشتراه، وأعتقه؛ يترتب عليه الولاء لمن أعتق، وهذا نفعٌ يرجع إلى المُعتِق، قالوا: فالزكاة يبذلها، ولا يرجع إليه نفع من جراء ذلك، وهذا كيف يتحقق في المكاتب؟، المكاتب حينما يعتق لو جاء أحد، وساعده في مال المكاتبة؛ ما يكون الولاء للذي ساعده، فقالوا: الزكاة لا يرجع نفع من جرائها للمزكي، فإذا أعتق الرقبة صار له الولاء، وهذا نفع، والأقرب - والله أعلم - أن الرقاب يشمل هؤلاء جميعاً، يشمل الأرقاء الذين يُشترون، ويعتقون، ويشمل المكاتب لقوله تعالى: وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ، وأيضاً يشمل الأسارى إطلاق الأسير - فك الأسير - فإنه يعطي من الزكاة.

"وفي المسند عن البراء بن عازب قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! دُلَّني على عمل يقربني من الجنة، ويباعدني من النار، فقال: أعتق النسَمة، وفك الرقبة، فقال: يا رسول الله! أوَليسا واحداً؟ قال: لا، عتق النسمة أن تُفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها[10].
وأما الغارمون فهم أقسام: فمنهم من تحمّل حمالة، أو ضمن ديناً فلزمه، فأجحف بماله، أو غرم في أداء دينه، أو في معصية؛ ثم تاب، فهؤلاء يدفع إليهم، والأصل في هذا الباب حديث قَبِيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله ﷺ أسأله فيها".


تحملت حمالة يعني لو جاء بين طائفتين بينهم شر، وقتال، ونزاع؛ فأصلح بينهم، وقال لهم: القتلى عليّ ديتهم، والجراح، وكذا أنا أتحملها بعروشها، فركبه من جراء هذا ديون، وهو ما عنده، وقد يكون عنده مال فيعطَى من الزكاة، ولو كان غنياً، يعني لو أن أحداً من الناس عنده ملايين، وجاء وتحمل حمالة بين طائفتين حصل بينهم قتال، وتحمل الديات؛ يعطى من الزكاة.

"فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، قال: ثم قال: يا قَبِيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالة فحلَّت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال: سدادًا من عيش -، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه، فيقولون: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال سداداً من عيش - فما سواهن من المسألة سحت، يأكلها صاحبها سحتاً[11] رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها، فكثر ديْنه، فقال النبي ﷺ تصدقوا عليه، فتصدق الناس فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي ﷺ لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك[12] رواه مسلم.
وأما في سبيل الله: فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان".


بالنسبة للغارمين، ومن ركبته الديون؛ فالأولى بذلك أن لا يكون هذا على سبيل التوسع، والسفه في التصرف بالمال، ثم يعطى من الزكاة، فإن هذا لا يعطى، ولو فتح هذا المجال للناس فكل الناس سيكونون من الغارمين، يذهب ويقترض من البنوك، ومن غير البنوك، ويركب ما يشاء من المراكب، ويسكن ما يشاء من القصور، ويقول: أنا من الغارمين؛ أعطوني من الزكاة، فهذا لا يعطى، وفِي سَبيلِ اللّهِ هذا هو المشهور أن سبيل الله هو الجهاد، وهذا لا شك فيه، لكن من أهل العلم من وسع المراد بذلك فأدخل الحج، والعمرة في سبيل الله، وهذا قال به ابن عمر ، وكان الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه يقولان: إن الحج في سبيل الله داخل في هذا الحد، والنبي ﷺ قال لما سألته عائشة - ا - عن الجهاد للنساء قال: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة[13] فسماه جهاداً، فبهذا الاعتبار قال بعض أهل العلم بأن الإنسان يعطى للحج، وعلى هذا القول ليس معنى ذلك أن يكون هذا مقدماً، ويبدأ الناس يجمعون الزكوات من أجل أن يُحجِّجوا من لا يستطيع الحج! وهناك ما هو أولى من هذا بكثير، فهؤلاء الناس أصلاً قد أسقط الله عنهم الحج، وهم معذورون، وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [سورة آل عمران:97] فالذي لا يستطيع أن يحج فإنه لا حاجة به إلى أن يأخذ من الزكوات ليذهب إلى الحج، وهناك مصارف معطلة هي أحوج ما تكون إلى هذه الزكوات - والله تعالى أعلم -.

"وابن السبيل: وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده؛ وإن كان له مال، وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده، وليس معه شيء، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه، وإيابه، والدليل على ذلك الآية، وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث مَعْمَر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: لا تحل الصدقة لغنيّ إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكين تُصُدق عليه منها فأهدى لغنيّ[14]".


ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا أن ابن السبيل يشمل من أراد أن ينشئ سفراً وليس معه شيء، يعني هذا ليس على إطلاقه، فلو أن أحداً في بلده، وأراد أن يذهب، ويسافر ليتنزه، يبغي أن يسافر للسياحة في الأجازة هو وأولاده ويقول: أنا ما عندي أعطوني من الزكاة!! يقال له: لا تحل لك الزكاة، لكن يكون هذا في حالات، يكون سفره فيها تدعو إليه الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، أو للضرورة، ولو أن أحداً من الناس يريد أن يسافر للعلاج مثلاً وليس عنده ما يكفيه للسفر، ليس عنده قيمة التذكرة، ما عنده شيء؛ فإنه يعطى من الزكاة، ولو أن أحد هؤلاء العمال جاء، وجلس شهراً واحداً، ثم أراد أن يرجع إلى بلده لمرض، أو لأي سبب من الأسباب؛ فقال له صاحب العمل: أنت لم تجلس المدة التي تعاقدنا عليها فأنت لا بد أن تتحمل التذكرة تشتريها من مالك!! والرجل ما عنده شيء، ومضطر أن يسافر؛ فإنه يعطى من الزكاة، وهكذا من فقد ماله في السفر، أو أن النفقة قد قصرت، وانتهت، فإنه يعطى ما يصلح لمثله، ولو كان غنياً في بلده، والمقصود أنه لا يستطيع أن يتوصل إلى ماله، أما اليوم فيمكن عن طريق البنوك، أو الحوالات، فإذا كان يستطيع أن يتوصل إلى ماله فلا يعطى، لكن إذا كان لا يستطيع فإنه يعطى ولو كان غنياً في بلده، ولا يكون ذلك على سبيل الإقراض، والدين، يعطى ما يصلح لمثله، فينقل بالوسيلة التي ينتقل بها عادة، ويسكن ويأكل مما يسكن فيه، ويأكله؛ عادة في بلده، فقد يكون لا يركب، ولا يسكن إلا في أرقى الأماكن، فيعطى ما يصلح لمثله؛ لأن المسلم تحفظ له كرامته، فهؤلاء يعطون من مال الزكاة، ويعطون من الفيء، ويعطون من الغنيمة، فإن لم يوجد شيء من هذا يعطون من بيت مال المسلمين، ولو وَجد أحداً يقرضه فإنه يعطى، وقد قال الإمام مالك - رحمه الله -: إنه إن وجد من يقرضه فإنه لا يعطى، وهذا الآية ظاهرها العموم - والله أعلم -، وَابْنِ السَّبِيلِ [سورة التوبة:60] لماذا سمي بابن السبيل؟ نسب إلى الطريق؛ لملازمته لها، وَابْنِ السَّبِيلِ كما يقال للطائر المعروف: ابن الماء؛ لملازمته للماء، ولا زال الناس يعبرون بمثل هذا يقولون: فلان طرقيّ يعني على سفر، مسافر، ابن السبيل نسبوه هنا إلى الطريق.

"وقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي حكماً مقدراً بتقدير الله، وفَرْضِه، وقَسْمه وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بظواهر الأمور، وبواطنها، وبمصالح عباده، حَكِيمٌ فيما يفعله، ويقوله، ويشرعه، ويحكم به، لا إله إلا هو، ولا رب سواه".
  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31]، برقم (4265)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يُفطن له فيتصدق عليه، برقم (1039).
  2. رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني، برقم (1637)، والنسائي، كتاب الزكاة، باب إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها، برقم (2597)، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة، برقم (652)، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى، برقم (1839)، وأحمد في المسند، برقم (6530)، وقال محققوه: "إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير ريحان بن يزيد العامري، وثقه ابن معين وابن حبان، وقال حجاج، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم وهو الراوي عنه سفيان: هو الثوري"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7251).
  3. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [سورة البقرة:31]، برقم (4265)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه، برقم (1039).
  4. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة، برقم (1072).
  5. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (1331)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (19).
  6. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، برقم (983).
  7. رواه أحمد في المسند، برقم (27638)، وقال محققوه: حديث صحيح، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ﷺ شيئاً قط فقال لا، وكثرة عطائه، برقم (2313)، غير أنه قال غزا رسول الله ﷺ غزوة الفتح فتح مكة، ورواية أحمد أنها غزوة حنين، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم، برقم (666)، وابن حبان في صحيحه، برقم (4828).
  8. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273]، وكَمْ الغِنَى، برقم (1408)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تألُّفِ قلبِ من يخاف على إيمانه لضعفه والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع، برقم (150).
  9. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [سورة المعارج:4]، وقوله - جل ذكره -: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [سورة فاطر:10]، برقم (6995).
  10. رواه أحمد في المسند، برقم (18647)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وابن حبان في صحيحه، برقم (374).
  11. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة، برقم (1044).
  12. رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين، برقم (1556).
  13. رواه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (3074)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، (4/151)، برقم (981).
  14. رواه ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب من تحل له الصدقة، برقم (1814)، وأحمد في المسند، برقم (11538)، قال محققوه: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين لكن اختلف في وصله وإرساله، وصحح الموصول ابن خزيمة والحاكم، والبيهقي وابن عبد البر، والذهبي، وعلى فرض إرساله يتقوى بعمل الأئمة، ويعتضد، ورجح المرسل الدارقطني، وابن أبي حاتم.