السبت 27 / شوّال / 1446 - 26 / أبريل 2025
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۖ فَمَا ٱسْتَقَٰمُوا۟ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُوا۟ لَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [سورة التوبة:7].
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين، ونظِرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثُقفوا فقال تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، وأمان، ويُتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله، كافرون به وبرسوله، إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني يوم الحديبية، كما قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الآية [سورة الفتح:25]، فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي: مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه، وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وقد فعل رسول الله ﷺ ذلك، والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله ﷺ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً، فعند ذلك غزاهم رسول الله ﷺ في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر، والغلبة عليهم؛ فسموا الطلقاء، وكانوا قريباً من ألفين، ومن استمر على كفره، وفر من رسول الله ﷺ بعث إليه بالأمان، والتسيير في الأرض أربعة أشهر، يذهب حيث شاء: منهم صفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام، والله المحمود على جميع ما يقدره، ويفعله".


فيقول الله : كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، والمقصود بمن عوهدوا عند المسجد الحرام يعني في صلح الحديبية، وهذا معلوم لا إشكال فيه، والمراد بهؤلاء الذين عاهدهم النبي ﷺ عند المسجد الحرام في صلح الحديبية هم قريش، ومن دخل في هذا العهد، وذلك - كما هو معلوم في السيرة، والتاريخ - أن بعض القبائل اختارت الدخول مع قريش في هذا العهد، وبعض القبائل اختارت أن تدخل مع رسول الله ﷺ، يعني تحالفوا مع رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، فقريش نقضت العهد، وذلك بأنهم أعانوا حلفاءهم من بني بكر على حلفاء رسول الله ﷺ من خزاعة؛ أعانوهم بالسلاح كما في القصيدة المعروفة التي جاءت خزاعة تستنهض بها رسول الله ﷺ وفيها:

في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكَّدا وجعلوا لي في كداء رصدا

إلى أن قال:                 

هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركّعاً وسجداً

فالشاهد أنهم بهذا يكونون قد نقضوا العهد، وعليه لا يكون المراد هنا: إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ليس المراد به قريش؛ لأن قريشاً نقضت، ولقيت جزاءها، يعني حينما نزلت هذه الآيات كانت مكة قد فتحت، وإنما سيّر لهم النبي ﷺ الجيش في السنة الثامنة بناء على نقضهم العهد؛ فليست هي المرادة بقوله: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، ولهذا اختلف المفسرون في المراد بذلك، ولا شك أن المراد به بعض من دخل في هذا العقد والعهد والصلح، وابن جرير - رحمه الله - يقول: المقصود بهم قوم من جذيمة ابن الدُّئل، فهؤلاء دخلوا في هذا الصلح، أو أن ابن جرير ذكر هذا على أنه أحد الأقوال، وذلك لا يبعد، لكن البعيد أن يكون المراد به قريش، وبعضهم قال: إن المراد بهذا هم قوم من خزاعة، وخزاعة اختلف فيهم العلماء من أهل السير وغيرهم هل كانوا مسلمين، أو لم يكونوا مسلمين؟ فمن قالوا: إنهم كانوا على الإسلام احتجوا بقوله:        

هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعاً وسجداً

قالوا: كانوا مسلمين، وبعضهم يقول: لم يكونوا مسلمين، ولكن كانوا حلفاء لرسول الله ﷺ، والذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - أنهم بعض بني بكر من كنانة ممن أقام على العهد، ولم ينقض، فقريش نقضت، وهؤلاء لم ينقضوا، فقريش أعانوا حلفاءهم - على قول ابن جرير - من بني الدُّئل على حلفاء النبي ﷺ من كنانة؛ هذا اختيار ابن جرير، ذكر الأقوال، واختار هذا، على كل حال تحديد هؤلاء بالاسم أمر لا يترتب عليه بالنسبة إلينا كبير فائدة، لكن معنى الآية أن الله يذكر أهل الإشراك كيف يكون للمشركين عهد عند الله، ورسوله، كيف يكون لهم عهد وهم بهذه المثابة؟ جعلوا لله  ندًّا، وعبدوا غيره إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فالإسلام يأمر بالوفاء بالعهود، فهؤلاء الذين عاهدوا عند المسجد الحرام منهم من نكث كقريش، فقاتلهم النبي ﷺ، ومنهم من بقي على عهده، فالذين بقوا على عهدهم الله - تعالى - يأمر بالوفاء بهذا العهد فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ هذا هو المراد - والله تعالى أعلم -.