الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلَا عَلَى ٱلْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا۟ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۚ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة التوبة:91-93].
ثم بيَّن تعالى الأعذار التي لا حَرَج على من قعد معها عن القتال فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى، والعَرَج، ونحوهما، ولهذا بدأ به، ومنها ما هو عارض بسبب مرض عَنَّ له في بدنه، شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره، لا يقدر على التجهز للحرب، فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا، ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس، ولم يُثبِّطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ".


لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى يقول: ثم بيّن تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال هذه الأعذار الصادقة الحقيقية، قال: فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب بمعنى أن الضعفاء هم الذين مثل الزمْنى (الإنسان الضعيف في بنيته الذي لا يستطيع أن يجاهد، والإنسان المقعد)، فمثل هؤلاء أعذارهم دائمة، ومستمرة، وهناك أعذار عارضة طارئة في البدن مثل: المرض العارض ونحو ذلك فهذا معذور، وهناك أعذار أخرى مثل: الفقر الشديد ليس عنده ما يتجهز به، فكل هؤلاء عَذرهم الله بهذا الشرط: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، قال هنا: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ لكن إذا نصحوا لله، ورسوله؛ معناها أن هؤلاء يعذرون بهذا الشرط، نصحوا لله، ورسوله؛ أي مع محبتهم للمجاهدين، ودفاعهم عن أعراضهم، وتوليهم، وتولي أولياء الله، وأهل الإيمان، والبراءة من أعداء الله ، والإيمان بالله - تبارك وتعالى -، وبغض كل ما خالف شرع الله، ودينه، وأمره، وكتابه، هذا معنى إذا نصحوا لله، والناصح هو الخالص من كل شيء، أما إذا جلس وهو معذور أعرج أو أعور، وجمع بين العور الحقيقي، والعور المعنوي؛ منافق كالشاة العوراء تعور بين الغنمين، فجلس يخذل، ويثبط، ويستهزئ، يوالي أعداء الله ، يكذب على الله ، وعلى رسوله ﷺ، ويقول في دين الله ما ليس منه، فمثل هذا لا يعذر حتى لو كان مقعداً، أو أعمى، أو أعرج، فقد جمع بين عمى البصر، وعمى البصيرة، فهذا معنى إذا نصحوا لله، ورسوله، ثم قال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يمكن أن تكون هذه الجملة مقررة لمضمون ما سبق أي ليس على المعذورين الناصحين من سبيل، هؤلاء معذورون ونصحوا لله، ورسوله، فهؤلاء ليس عليهم من سبيل لمعاتبتهم، أو مؤاخذتهم، أو معاقبتهم على قعودهم، ويمكن أن تكون عامة مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء الذين ذكروا هم من جملتهم مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وهذه الآية كثيراً ما تُذكر في موطن ليس هو معناها، فأحياناً هذا يقع في ألسن الناس كثيراً يستعملون هذا، فإذا الإنسان تبرع بشيء ثم بعد ذلك قصر فيه، أو ضيعه، أو تركه يقال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ تبرع به من عند نفسه، قام وأراد أن يعمل بعمل تطوعاً تبرعاً من عنده دون أن يأخذ عليه مقابلاً، ثم بعد ذلك أدار ظهره، ومشى!! لا تستطيع إلا أن تهز كتفيك أحياناً وتقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فهذا ليس معناها، فهذا ليس من المحسنين وإنما من المسيئين، فالإنسان إذا التزم بشيء، ووعد به ؛يجب عليه الوفاء، فإذا أخلف، ونكل؛ فهذا من المسيئين وليس من المحسنين، ولا يقال له: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ لكن يقال هذا: من باب جبر الخواطر أحياناً، وعدم جرح المشاعر وما أشبه هذا، وإلا فمثل هذا مذنب، ومسيء، وما ضيع أعمالَ الناس، والدعوة إلى الله ، والأعمال الخيرية، والبرامج التطوعية؛ إلا هذه النوعيات من الناس، يأتي ويضرب صدره، ويقول: أنا أتولى المشغلة الفلانية، أنا أتولى العمل الفلاني، أنا أتولى اللجنة الفلانية، ويشتغل يوماً، ويومين، وثلاثة؛ ثم تكتشف أن الرجل مضيع لعمله، ولا يأتي، ولم يصنع شيئاً، ويقول: والله انشغلت بمشوار وكذا!!، تقول له: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وما هو بمحسن، وإنما مسيء، فالإنسان ما يتكلم بشيء إلا ويعرف كيف يكون الخروج منه، وما يلتزم بشيء إلا ويقوم به على الوجه الكامل، وإلا من البداية يقول: لا أستطيع، ويكون هذا أفضل له، وخيراً له، يتجمل أحياناً بوعود، ويعطيك الشمس بيد، والقمر بيد، ويشتغل أياماً، وبعدها يدير ظهره، هذا لا يساوي شيئاً بعد ذلك، لا يمكن أن تكل إليه عملاً، ولا تثق منه بوعد، ولا تطمئن إلى أي عمل يمكن أن يقوم به، فدائماً لا أحد يدخل في عمل إلا ويعرف الخروج منه، ولا تلتزم بشيء إلا إذا كنت تستطيع أن تقوم به على الوجه المطلوب، وإلا اعتذر وأرِح الناس، ابن القيم - رحمه الله - ذكر أن الإنسان إذا عرض له عمل من الأعمال أو نحو هذا ينظر هل يستطيع هو القيام به أو لا؟ هل له نية فيه أو لا؟ إذا كان يحتاج إلى أعوان هل عنده أعوان أو لا؟ فيقلب أمره في هذه الأمور جميعاً، ثم بعد ذلك يقول: نعم، أو يقول: لا.

"وقال الأوزاعي: خرج الناس إلى الاستسقاء، فقام فيهم بلال بن سعد، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا نسمعك تقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا، وارحمنا، واسقِنا، ورفع يديه، ورفعوا أيديهم؛ فَسُقوا".
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: وذلك أن رسول الله ﷺ أمرَ الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل بن مقرن المزني فقالوا: يا رسول الله! احملنا، فقال لهم: والله لا أجد ما أحملكم عليه[1] فتولوا وهم يبكون، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة، ولا محملاً، فلما رأى الله حرْصَهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه، فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ... إلى قوله تعالى: فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ".
  1. رواه الروياني في مسنده، برقم (909).