وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ هؤلاء الذين ذكرهم من السلف فسروا الوالد بآدم، وَمَا وَلَدَ يعني وولد آدم، وَمَا وَلَدَ "ما" هذه بمعنى "مَن"، ومعلوم أن "ما" تستعمل لغير العاقل، أو لغير من يوصف بالعلم، و"مَن" تستعمل للعاقل، أو لمن يوصف بالعلم، يعني أحيانًا ما يعبرون بالعاقل يتحرزون يقولون مثلاً: الملائكة يوصفون بالعلم، ولا يقال: عقلاء، لأنه لم يرد هذا الوصف، فالغيبيات إنما يوقف في أوصافها على ما ورد من النقل، فهنا استعملت "ما" بمعنى "مَن" "وما ولد"، وعلى التفسير بأنه آدم مثلاً، أو غير ذلك ممن يوصف بالعقل - يعني من العقلاء - فيكون ذلك دليلاً على جواز استعمال "ما" للعاقل، وله نظائر في القرآن، وسيأتي - إن شاء الله - : وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا "السماء، وما بناها": ومَن بناها، يعني الله على أحد القولين المشهورين، بل هو الأشهر كما سيأتي - إن شاء الله - ، ومَن بناها يعني الله، "والأرض وما طحاها" يعني ومن طحاها أي الله، "ونفس وما سواها": ومن سواها.
القول الآخر فيها: أن "ما" مصدرية، وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا، وهكذا في الألفاظ التي بعده.
فهنا وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ بمعنى ومَن ولد، يعني أقسم بالوالد، وبولده أيضًا، فهنا هؤلاء من السلف قالوا: الوالد آدم، "وما ولد" يعني ومن ولد، يعني وأولاده، أقسم بآدم، وولده.
وابن كثير قال: هذا حسن قوي، وعلل ذلك بأنه أقسم بأم القرى وهي المساكن، فأقسم بعده بالساكن، وهم بنو آدم، وهذا مثلما أشار ابن القيم - رحمه الله - إلا أن ابن القيم هناك يتحدث عن النبي ﷺ لكنه لم يكن يتحدث عن هذا، على كل حال هذا قول وليس ذلك محل اتفاق، لكن الذين قالوا: إنه آدم ومن ولد قالوا: لأنه يعني ليس الحيوانات مثلا، وإنما آدم وولده، أقسم الله بهم لأنهم أعجب ما خلق الله في الأرض، وهم الأشرف، لما فيهم من الأوصاف التي تميزوا بها من العقل، والبيان خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [سورة الرحمن:3-4] فميّزه بهذه الأمور عن جملة هذه المخلوقات، ميزه بالتدبير، هذه المخلوقات لا عقل لها، ولا بيان، فهي لا تبين عما في نفسها، وليس لها تدبير، وإنما يدبرها أربابها، والبشر فيهم الأنبياء، والعلماء، والصالحون، وهذا لا يوجد في غيرهم من هذه المخلوقات التي بثها الله في هذه الأرض إلا أنه يوجد في الجن من أهل الصلاح، لكن لا يوجد فيهم أنبياء، فهذا توجيه لتفسيره بآدم، وأولاد آدم، والولد يشمل الذكر، والأنثى كما هو معلوم، فالذكر يقال له: ابن، والأنثى يقال لها: بنت، وبعضهم حمل قوله: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ على هذا النوع من المخلوقات - بني آدم - لكنه خصه بشيء أعلق بالبيت الحرام، قالوا: الوالد إبراهيم والولد إسماعيل وبعضهم يقول: الولد هو إسماعيل، ومحمد ﷺ؛ لأنهم الذين كانوا بمكة، فإسماعيل - عليه الصلاة والسلام - كان بمكة، ومحمد ﷺ أيضًا كان بها.
وبعضهم كعكرمة وسعيد بن جبير يقولون: وَوَالِدٍ يعني الذي يولد له، وَمَا وَلَدَ يعني العاقر، جعلوا "ما" نافية، حملوا الآية على النوعين من يولد له، ومن هو عقيم وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لكن التركيب على هذا المعنى يكون قلقًا، هذا قسم فيكون أقسم بالوالد هل الوالد يعني من له ولد، "وما ولد" من لم يولد له؟ أقسم بمن يولد له ومن لا يولد له؟ هذا فيه بُعد - والله تعالى أعلم -.
وأحسن من هذا كله ما قاله ابن جرير - رحمه الله - من أن ذلك يحمل على العموم، فإن الله - تبارك وتعالى - لم يقيد ذلك بمعنى خاص، لم يقيده بآدم، لم يقيده بفرد من الأفراد، ولم يقيده بإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وإنما قال: وَوَالِدٍ فيشمل كل والد، وَمَا وَلَدَ يشمل كل من كان منه من الأولاد.
وعلى هذا الإطلاق فإن ذلك يشمل الآدميين وغير الآدميين، ومن هنا يمكن تخريج استعمال "ما" هنا في كونها جاءت، واستعملت في موضع "مَن" يعني إذا كان آدم، وإبراهيم، والناس فهذا يستعمل معه في الأصل "مَن"، فاستعملت "ما"، فهنا يقال: هذه من الحالات الثلاث التي تستعمل فيها "ما" في موضع "مَن" أنه إذا اشترك العاقل، وغير العاقل فعبر عن ذلك فقد تستعمل "ما" التي لغير العاقل لكون غير العاقل أكثر، يعني يسمونه التغليب، غلّب غير العاقل على العاقل؛ لكون غير العاقل أكثر يدخل فيه بهيمة الأنعام، يدخل فيه الوحوش، يدخل فيه الحشرات، يدخل فيه الأسماك، يدخل فيه خلائق لا يحصيها إلا الله أما العاقل فيدخل فيه الإنس، والجن فقط، فيكون من باب التغليب استعملت "ما" في موضع "مَن".