الخميس 29 / ذو الحجة / 1446 - 26 / يونيو 2025
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِى كَبَدٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ وقال ابن أبي نجيح، وجريج، وعطاء عن ابن عباس: فِي كَبَدٍ قال: في شدة خلق، ألم ترَ إليه، وذكر مولده، ونبات أسنانه، وقال مجاهد: "في كبد" نطفة، ثم علقة، ثم مضغة يتكبد في الخلق، قال مجاهد: وهو كقوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [سورة الأحقاف:15] وأرضعته كرهًا، ومعيشته كره، فهو يكابد ذلك، وقال سعيد بن جبير: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ في شدة، وطلب معيشة، وقال عكرمة: في شدة وطول، وقال قتادة: في مشقة، وعن الحسن: يكابد مضايق الدنيا، وشدائد الآخرة."

نعم هذه المعاني التي ذكرت هي جميعًا ترجع إلى شيء واحد، يعني هذا الذي يسمى باختلاف التنوع الذي مضى الكلام عليه في شرح مقدمة أصول التفسير، اختلاف التنوع كل هذا يرجع إلى شيء واحد، فكل واحد عبر بعبارة هي في نفس المؤدى، وتدور حول المعنى الذي عبر عنه الآخر، كل ذلك يرجع إلى معنى متحد، فهنا قوله - تبارك وتعالى -: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ هذا جواب القسم، أُقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد، ووالد وما ولد، أقسم بالوالد، وما ولد، على ماذا؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ، هذا هو المُقسم عليه، فهنا هذه الأقاويل في شدة خلقه، وذكر مولده، ونبات أسنانه، هؤلاء الذين نقلوا هذا المعنى عن ابن عباس - ا - وهكذا أيضًا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة يتكبد في الخلق، وحملته أمه كرهًا، ووضعته كرهًا، وأرضعته كرهًا، ومعيشته كره فهو يكابد ذلك، وفي شدة، وطلب معيشة إلى آخر ما ذُكر، هنا كلام الحسن أعم، وأوسع يكابد مضايق الدنيا، وشدائد الآخرة، وجاء عنه: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضراء، هذا عن الحسن أيضًا، ابن جرير فسره بمعنى عام كعادته لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ حذف المقتضى ما قال: في كبد في كذا في خلقه، ونشأته، وولادته مثلاً، فِي كَبَدٍ في طلب معيشته، وإنما ذلك على العموم "في كبد" يعني في شدة يكابد الأمور، ويعالجها، خُلق الإنسان فكان ذلك سمة له حينما خُلق فهو يكابد، خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [سورة طه:117] الجنة لا كبد فيها، ولا شقاء، ولا معاناة، ولا تعب، أما هذه الحياة الدنيا فهي معاناة منذ أن يكون الإنسان حملاً في بطن أمه، فأمه تكابد، والله أعلم بحاله حينما ينتقل في هذه الأطوار، فيثقل حملها، ثم تعاني من الولادة، فيخرج إلى الدنيا باكيًا، يستقبلها باكيًا، فيخرج إلى عالم جديد لم يألفه، ثم بعد ذلك يبدأ في مكابدة من أجل أن يتعرف على ما حوله، يكابد في طعامه، وشرابه، يكابد في مزاولاته كلها، في مراحله المختلفة منذ نشأته، وطفولته، وشبابه وكهولته، وشيخوخته وهو في كبد، يطلب الرزق في كبد، يعاني من الآلام، والأمراض في كبد، يعاني من الهموم في كبد، يعاني من المشكلات في كبد، يعاني من الحر، والبرد هو في كبد، يعاني من أذى الناس فهو في كبد، يكابد مع النفس في مجاهدتها فهي تدعوه إلى الشهوات، وهو يحجزها فهو في كبد، في كل أحواله يكابد، في كبد مع الشيطان، وما يدعوه إليه، وما يوسوس به، كل هذا كبد، فهذا دل على أن السمة البارزة التي خلق عليها هذا الإنسان هي المكابدة، هذا هو الأصل، وما يعرض له من الراحة فإن ذلك أيضًا لا يخلو من مكابدة، وهو لا ينفي هذا الوصف، المستمر، الثابت الراسخ فيه، وهذا أمر في غاية الأهمية إذا عرفه الإنسان، ووطن نفسه عليه فإنه يخف عليه هذا الكبد، يعني يعرف أن هذه هي طبيعة الحياة، وأن هذا هو الأصل فيها، وأن الراحة إنما هي في الجنة، وليست في الدنيا، وأن الدنيا محل مكابدة، معاناة مستمرة يعاني مع الأولاد، والذي ليس عنده أولاد يعاني، الأولاد يعانون، الفقير يعاني، والغني يعاني، والصحيح يعاني، والمريض يعاني، والطبيب يعاني، والمطبَّب يعاني، الكل يعاني، الكل في معاناة، فإذا لقي الشدائد، وحصل له ما يكرهه في هذه الحياة الدنيا تذكر أن هذه جبلتها، وطبيعتها، وأنها خلقت على هذا وهكذا ركبت، وركب هذا الإنسان، فعلاقته معها مبنية على هذا الأصل، والأساس، فلا يحصل له تعجب، واستغراب، ويستنكف، أو يستنكر ما يعرض له من الشدائد في هذه الحياة الدنيا، الأصل فيها المكابدة، والله قال: لَتُبْلَوُنَّ [سورة آل عمران:186] فهذا لابدّ منه، ولهذا لما ذكر الله  - تبارك وتعالى - الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ [سورة الأحزاب:22] مباشرة قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هم ماذا رأوا؟ رأوا الابتلاء، رأوا الأعداء يحيطون بهم قد نزلوا بساحتهم، رأوا الخوف، وموجبات الخوف الذي بلغت منه القلوب الحناجر، ومع ذلك كان الجواب هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ تذكروا أن الله وعدهم بالابتلاء لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ [سورة التوبة:16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ [سورة البقرة:214] تذكروا هذا المعنى، وأنه أمر لابدّ منه، فلما لاح لهم البلاء قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فكان ذلك سببًا للثبات، فإذا تذكر الإنسان هذا الأصل كان ذلك من أعظم ما يعينه على الثبات، وملاقاة الشدائد، والأهوال بالصبر، واليقين، فلا ينكسر، أو يسوء ظنه بربه - تبارك وتعالى - أو يتسخط على القدر كما قال المنافقون: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12] يعني وعودًا لا حقيقة لها، أين النصر وهؤلاء الأعداء يحيطون بنا، والواحد لا يستطيع أن يقضي حاجته من شدة الخوف لا يأمن، فأين الوعد الذي وعدنا به من النصر، والتمكين؟ الصحابة مباشرة قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ كما قال ابن كثير - رحمه الله -: الابتلاء الذي يعقبه النصر، جمع بين المعنيين؛ لأن المفسرين بعضهم قال: النصر، وبعضهم قال: الابتلاء، الابتلاء الذي يعقبه النصر، فإن النصر، والتمكين لا يحصل إلا بعد الابتلاء، لا يحصل إلا بعد التمحيص، فإذا كان الناس يُمكَّنون من غير تمحيص، ولا ابتلاء هرول معهم من يصبر ومن لا يصبر، هرول معهم صحيح الإيمان، وسقيم الإيمان، المؤمن والمنافق  - والله المستعان -.

فالحسن يقول: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضراء، لا يخلو عن أحدهما، يعني هو في حال النعمة يكابد، في حال الضر يكابد، وابن جرير يقول: يكابد يعني في شدة يكابد الأمور، ويعالجها، هذا هو المراد - والله تعالى أعلم - لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ فهذا من أهم الأشياء التي تروض النفوس في سيرها في هذه الحياة الدنيا من أجل أن توطن على لون من الصبر لا يحصل معه انكسار، وجزع، وتراجع في مطالب الدنيا، أو في مطالب الآخرة، قد تأتيه المصائب في دنياه في أمواله، يموت أحد، يموت الأولاد، يموت الأب، ويبقى الأولاد صغارًا ما عندهم أحد إلى غير ذلك، وفي أمور الآخرة أيضًا يبتلى في دينه، في إيمانه.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "فذكر فيه جواب القسم، وهو قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ وفسر الكبد بالاستواء وانتصاب القامة، قال ابن عباس في رواية مُقسِم: منتصبًا على قدميه، وهذا قول أبي صالح، والضحاك، وإبراهيم، وعكرمة، وعبد الله بن شداد، قال المنذر: سمعت أبا طالب يقول: الكبد الاستواء، والاستقامة.

وفُسر بالنصَب، وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، ورواية عن علي، وعن ابن عباس، قال الحسن: لم يخلق الله خلقًا يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال سعيد بن أبي الحسن: يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، وقال قتادة: يكابد أمر الدنيا والآخرة، فلا تلقاه إلا في مشقة، وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: يعني حمله، وولادته، ورضاعه، وفصاله، ونبت أسنانه، وحياته، ومعاشه، ومماته وكل ذلك شدة، قال مجاهد: حملته أمه كرهًا، ووضعته كرهًا، ومعيشته في شدة فهو يكابد ذلك.

وعلى هذا فالكبد من مكابدة الأمر، وهي معاناة شدته، ومشقته، والرجل يكابد الليل إذا قاسى هوله، وصعوبته، والكبد شدة الأمر، ومنه تكبد اللبن إذا غلظ، واشتد، ومنه الكبِد؛ لأنه دم يغلظ، ويشتد، وانتصاب القامة والاستواء من ذلك؛ لأنه إنما يكون عن قوة وشدة، فإن الإنسان مخلوق في شدة بكونه في الرحم، ثم في القِماط، والرباط، ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة العيش، والأمر، والنهي، ثم مكابدة الموت، وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ثم مكابدة العذاب في النار، ولا راحة له إلا في الجنة.

وفُسر الكبد بشدة الخلق، وإحكامه، وقوته، ومنه قول لبيد:

يا عينُ هلّا بكيتِ أرْبدَ إذ قمنا وقام الخصومُ في كبدِ؟

 أي: في شدة وعناء، وهذا يشبه قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [سورة الإنسان:28]، قال ابن عباس: أي: خلقهم، وقال أبو عبيدة: الأسر شدة الخلق، يقال: فرس شديد الأسر، قال: وكل شيء شددته من قتب، أو غيره فهو مأسور، وقال المبرد: الأسر القُوى كلها، وقال الليث: الأسر قوة المفاصل، والأوصال.

وشد الله أسر فلان، أي: قوى خلقه، وكل شيء جُمع طرفاه فشد أحدهما بالآخر فقد أسر، وقال الحسن: شددنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق، والعصب، وقال مجاهد: هو الشرج يعني موضع البول، والغائط إذ خرج الأذى تقبُّرًا.

والمقصود أنه - سبحانه - أقسم في سورة البلد على حال الإنسان، وأقسم - سبحانه - بالبلد الأمين، وهو مكة أم القرى، ثم أقسم بالوالد وما ولد وهو آدم وذريته في قول جمهور المفسرين، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان، وأصل السكن، فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم[1]."

  1. التبيان في أقسام القرآن (ص:24).