الجمعة 17 / شوّال / 1445 - 26 / أبريل 2024
(236) قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ..} الآية:274
تاريخ النشر: ٠٥ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 804
مرات الإستماع: 1137

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- الأحق بهذه النفقات بعد ذلك ختم هذه الآيات بذكر من يستحقون الأجر والثواب من هؤلاء المنفقين، حث على الإنفاق ثم بعد ذلك قال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:274].

الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، الذين يبذلونها في مرضاة الله -تبارك وتعالى- ليلاً ونهارًا في كل الأوقات متى ما دعت الحاجة إلى ذلك، وكذلك في كل الأحوال في السر والعلانية، فهؤلاء هم الذين يستحقون الأجر فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وكذلك ينتفي عنهم الخوف والحزن لا يخافون مما يستقبلون ولا يحزنون على ما فات، فهذا حث على الإنفاق بالوجوه المشروعة في كل الأوقات وفي كل الحالات.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، يُلاحظ هنا أنه قدم الليل على النهار، وقدم السر على العلانية، فأخذ منه جماعة من أهل العلم من المفسرين معنى وهو أن ذلك يُشير إلى صدقة السر أفضل من صدقة العلانية، أما من جهة ذكر الليل قبل النهار؛ فلأن الليل مظنة لصدقة السر لا يطلع على ذلك أحد، وأما ما يتعلق بذكر السر قبل العلانية فهذا واضح، فقدم الأكمل والأشرف فصدقة الليل لا يطلع عليها الناس عادة، وذلك كان علي بن الحسين أعني زين العابدين -رحمه الله- من أئمة التابعين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إذا كان الظلام أخرج أحمال الصدقات يحملها على ظهرها، ويوصلها إلى أبواب الفقراء والمساكين، ثم ينصرف، فيجدونها عند أبوابهم لا يدرون من حطها وجاء بها، وما انقطعت صدقة السر كما قيل بالمدينة حتى توفي -رحمه الله، ففقد الناس ما كانوا يجدون عند أبوابهم ليلاً، ووجدوا في ظَهْره عند تغسيله آثار حمل هذه الأزواد والأطعمة والصدقات، قد أثرت في ظهره، كان يحملها بنفسه[1].

والتعبّر بالفعل المضارع هنا: الَّذِينَ يُنفِقُونَ يدل على التجدد أن هذا الإنفاق مستمر هو لا ينفق مرة واحدة ويقول: حسبي وكفاني بل ينفق ثم ينفق ثم ينفق؛ فهذا مدح لهؤلاء الذين يستمرون على البذل والإنفاق، الذين ينفقون أموالهم، لا يقول الإنسان: أنا تصدقت قبل سنة، في العام الماضي تصدقت، تصدقت قبل عشر سنوات وانتهى، جعلت وقفًا أو نحو ذلك، لا، الَّذِينَ يُنفِقُونَ، فالصدقة المُجزئة التي يستمر عليها صاحبها قليل دائم خير من كثير منقطع، هذا في كل الأعمال الصالحة حتى الصدقات لاسيما ما تؤثره هذه الصدقات من الآثار المحمودة على المتصدق أولاً من ترويض النفس وتربيتها، وكذلك أيضًا الانشراح الذي يحصل لصاحبها كما سيأتي.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- هنا: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فدخلت الفاء على الجواب، الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فهذا فيه تنبيه على أن ذلك الاستحقاق إنما هو على الإنفاق، فالذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم، أن الإنفاق يُجازى صاحبه بالأجر وانتفاء الخوف والحزن عنه، فهذه تدخل على جواب الشرط كما دخلت هنا على الخبر مما يُشعر أن ذلك فيه معنى الشرط، الذي ينفق فله أجره عند الله.

وقد مضى كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- عند الكلام على الآية الثانية من آيات الإنفاق من هذه السورة وهي قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى، لاحظ قال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:262]، لم يقل: فلهم أجرهم، هناك قال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ، بينما هنا قال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:274]، ففي الآية الأولى جُرد الجواب أو الخبر من الفاء: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وهنا قُرن بالفاء.

فهذه الفاء التي تدخل على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تُفهم معنى الشرط، شرط جزاء وإن كان ظاهر الجملة أنها خبرية فهذا يدل على أن هذا الأجر مستحق بما تضمنه من الصفة أو الصلة، فهنا لما كان يقتضي بيان حصر المستحق كما يقول ابن القيم -رحمه الله[2] مستحق الجزاء والأجر دون غيره جُرد الخبر عن الفاء في الموضع الأول: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:262]، يعني: أن الذي ينفق ماله لله ولا يمُن ولا يؤذي هو الذي يستحق الأجر المذكور، لهم أجرهم عند ربهم، لا الذي ينفق لغير الله -تبارك وتعالى- ولا ذاك الذي يمن أو يؤذي بنفقته.

فالموضع الأول لَهُمْ أَجْرُهُمْ ليس بموضع شرط وجزاء بل هو بيان مقام للمستحق للأجر من غيره، من الذي يستحق؟ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:262]، فذكر صفتهم الفارقة، يعني: الذي ينفق لكنه يؤذي أو يمن فهذا لا يستحق الأجر، فهنا في الآية الأولى ذلك في مقام بيان المستحق من غيره، الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [سورة البقرة:274]، فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال فدخلت الفاء على الخبر؛ ليدل ذلك على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار، وعلى أية حالة من السر والعلانية؛ فإنه سبب للجزاء والثواب على كل حال.

فينبغي للعبد أن يُبادر ولا يتأخر يؤخر صدقة النهار إلى الليل، أو الليل إلى النهار، أو السر إلى العلانية، أو العلانية إلى السر، فنفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت تكون سببًا للأجر، هذا حاصل كلام ابن القيم -رحمه الله، الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:274]، فهو يُرغبهم بالإنفاق، يقول: أيًا كانت هذه النفقة في السر أو العلانية في الليل والنهار فالأجر حاصل، هناك يُبين من يستحق الأجر ومن لا يستحق، أنهم الذين ينفقون ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى- في الآية الثانية التي أشرت إليها وفي هذه الآية الأخيرة هنا: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:274]، قدم هنا: فَلَهُمْ، وهناك قال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ولم يقل: أجرهم لهم؛ لأنه هناك قدم ما يتعلق بهم وذلك هو المعتنى به، هم حينما يتصدقون يريدون تحصيل الأجور والثواب، يريدون شيئًا يعود إليهم، يريدون عائدة هذه النفقات، قال: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وقوله -تبارك وتعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ، فهذا يدل على عِظم هذا الأجر والثواب إذا هو عند الله عند العظيم الأعظم الكريم الأكرم كما يقول السيد لمملوكه، أو يقول العظيم لمن دونه، يقول: أجرك عندي، جزاءك عندي، فهذا يورث كمال الطمأنينة أن هذا لن يضيع، وأنه سيكون وافيًا عظيمًا كثيرًا.

ثم تأمل هنا كيف نفى عنهم الخوف والحزن، الخوف هو قلق من أمر في المستقبل، والحزن بعكس ذلك لأمر مضى وقد يُستعمل الحزن بمعنى الخوف لكنه استعمال قليل.

ففي هذه الآيات في النفقات نفى الخوف والحزن عن هؤلاء الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى هذا في الآية الثانية، وفي الآية الأخيرة: بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، من مجموع ذلك يؤخذ أن الذين ينفقون أموالهم إنفاقًا على وجه من الإخلاص لله من غير التفات إلى ما سواه من الرياء والسمعة، ومن غير أن يتبعوا ذلك بالمن أو الأذى، كذلك يكون هذا الإنفاق في عموم الأحوال والأوقات أن هؤلاء مع الأجر عند الله إلا أنه ينتفي عنهم الخوف والحزن.

هذا الخوف والحزن، الخوف يدخل فيه الخوف مما يكون في الآخرة، لا يخافون في البرزخ في قبورهم، ولا يخافون في المحشر، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، فهؤلاء يكونون في حال من الطمأنينة إذا خاف الناس، يدخل في هذا الإطلاق حينما قال: وَلا خَوْفٌ، فخوف هنا نكرة في سياق النفي فهي للعموم بمعنى أنه لا خوف مُطلقًا فيكون نفيًا للخوف أيضًا في الدنيا، وكذلك في قوله: وَلا خَوْفٌ، فجاء هنا بضمير الفصل، ولم يقل: ولا يحزنون قال: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الاعتناء بهؤلاء وكذلك لتقوية النسبة بين طرفي الكلام وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، يعني: لا يتطرق إليهم الحزن.

والحزن قلق من أمر لأمر فائت، فهنا نفى عنهم الخوف والحزن فهذا يشمل الدنيا والآخرة لا يحزنون على ما فاتهم في الدنيا، ولا حزن عليهم في الدنيا، وهذا يدل أيضًا على أن هذه النفقات هي من أعظم أسباب شرح الصدر، وهذا أمر لا يخفى، فالذي ينفق ويعطي بنفسه ويذهب، ولذلك من أكثر الناس انشراحًا وسعادة من بين أهل الإيمان هم أولئك الذين يسعون على الفقراء والأرامل والأيتام ويوصلون ذلك بأنفسهم، الذي يساعد الناس يفرج الكربات ويذهب إلى المحتاجين من غير أن يؤذيهم، ولا يمن عليهم، ويوصل إليهم هذا الإحسان فهذا من أسعد الناس.

فبذل الإحسان إلى الناس تقديم المعروف بذل المعروف أيًّا كان كل بحسبه قد يكون هذا من المال، قد يكون البذل بالجهد أن يحمل متاعه، أو أن يعينه على أمر من الأمور، قد يكون هذا الإنسان عنده علم فيبذله للناس، قد يكون هذا الإنسان يعمل في الطب مثلاً فينظر في حاجات الناس، وينظر في أحوالهم وينظر في معاناتهم وينظر في عللهم وأدواءهم ويتلطف بهم ويرعاهم ونحو ذلك فهذا يجد من انشراح الصدر والسعادة حينما يُخفف عن الآخرين المعاناة، فالله يعوضه بأنواع الألطاف وهذا أمر مشاهد، والجزاء من جنس العمل: ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة[3]، هذا يوم القيامة فما بالك بالدنيا.

أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

  1. انظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 393).
  2. انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).
  3. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2580).

مواد ذات صلة