الأربعاء 26 / ربيع الآخر / 1446 - 30 / أكتوبر 2024
الحديث عن آيات الباب، حديث «لعن الله الواصلة..» إلى «لعن المتشبهين من الرجال بالنساء..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فهذا "باب جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين" بعد ما ذكر المصنف -رحمه الله- "باب تحريم لعن إنسان بعينه، أو دابة" جاء بهذا الباب الذي كأنه من قبيل التوضيح، وزيادة البيان للباب الذي قبله، وهو أن قائلاً قد يقول: إذا كان لا يجوز لعن إنسان، أو دابة بعينه، فقد جاء اللعن في نصوص الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، فما وجه ذلك؟ وهل يُعارض ما سبق من الأحاديث التي فيها النهي والمنع من لعن المعين؟

فالجواب: أنَّ اللعن باعتبار الوصف، أو الجنس لا إشكال فيه، كأن يقول: لعنة الله على الكافرين، أو لعنة الله على الظالمين، ولكن لا يلعن إنسانًا بعينه، إلا من ورد في حقه لعن معين عن النبي ﷺ، أو عُلم أنه مات على الكفر.

وقلنا: إنّ المنع من لعن المعين هو قول عامة أهل العلم (الجمهور) وهو اختيار المصنف -رحمه الله، أعني: النووي-، وهو ظاهر كلامه في هذا الباب، وكذلك في شرحه على صحيح مسلم[1]، وبه قال قبله جماعة، كالقاضي عياض[2]، وهو ظاهر صنيع الإمام البخاري، وبه قال ابن العربي أيضًا من المالكية[3].

وكرهه الإمام أحمد -رحمه الله-، وكذلك أيضًا قال به من المتأخرين كثيرون، كالشوكاني[4] والصنعاني، وطائفة، وهو قول عامة أهل العلم، وخلف في ذلك من خالف، يعني: بالقول بالجواز، كما هو المشهور عن ابن الجوزي من الحنابلة، أنه يجوز لعن المعين إذا كان مستحقًا لذلك.

وبعضهم يقول: يجوز لعن المعين قبل الحد، فإذا حد لم يجز لعنه، فإن الحدود تكون كفارة، وتطهر أهلها، فلا يجوز لعنه بهذا الاعتبار، ولكنه يلعن قبل ذلك، وهذا أيضًا فيه نظر.

والأقرب -والله أعلم- المنع من لعن المعين، لكن يجوز على سبيل الجنس، أو الوصف، قال الله تعالى: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] فهذا في جنس الظالمين، فهل لأحد من الناس أن يقول: إن فلانًا من الظالمين فيجوز لعنه فيلعنه بعينه؟ الجواب: لا، وقد يتوب، وقد يختم له بخير، فلا يلعن، وهذا اللعن على سبيل العموم، لا إشكال فيه، وقد يقول قائل: وأينا لم يظلم نفسه؟ فهل نحن داخلون أيضًا بهذا الوصف؟ الجواب: لا، وإنما المقصود بذلك من كان ذلك وصفًا ظاهرًا فيه، يعني: أنه معروف بالظلم.

ولهذا من باب الشيء بالشيء يذكر فيما يقال مثلاً: اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، هل يقال هذا أو لا يقال؟ قد يقول قائل: كلنا يعصي، فكأننا ندعو على أنفسنا، وقد يقول قائل: ليس الأمر كذلك، إنما المقصود ويذل فيه أهل معصيتك، يعني: الذين صار ذلك سمة بارزة فيهم، يقال فلان: من أهل المعاصي، وفلان من العصاة، وإلا فكل أحد تقع منه المعاصي، وكل أحد يقع منه الظلم، وأينا لم يظلم نفسه؟[5]، كما قال الصحابة ، لكن هل يقال عن الصحابة أو عن الأخيار من الأمة، أو عن أهل الصلاح بأنهم من الظالمين، وأنهم يدخلون في هذا العموم؟

الجواب: لا، وكذلك حينما يقال: ويذل فيه أهل معصيتك، هل معنى ذلك: أن الأخيار والصلحاء وإن كانت تقع منهم المعصية أن يكون ذلك من قبيل الدعاء عليهم؟ الجواب: لا؛ ولهذا فإن مثل هذه العبارة لو صححت بهذا الاعتبار فلا إشكال في هذا، وإذا قال قائل: ويهدى فيه أهل معصيتك، فهذا أيضًا لا إشكال فيه.

وقال تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ[الأعراف:44] يعني: بين أهل الجنة وأهل النار أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ يعني: نادى منادٍ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ و(أن) هذه مفسرة لهذا النداء، أذن أو نادى بهذا أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.

وثبت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال: لعن الله الواصلة والمستوصلة[6]، الواصلة هي التي تصل الشعر بشعر نفسها الذي قص، أو بشعر غيرها من رجل أو امرأة، والراجح: أنه يدخل فيه الشعر الصناعي، وشعور الحيوانات، وما أشبه ذلك، هذه الواصلة التي تقوم بالوصل كأن تشتغل كوافير، أو غير ذلك، أو متبرعة، والمستوصلة هي التي تطلب ذلك أن يفعل بها، تقول: صلي لي شعري، أي: تطلب الوصل بشعرها، وقد يلحق به أيضًا ما يركب من الرموش المستعارة.

على كل حال ليس المقصود الكلام على مسألة الوصل الآن، وإنما اللعن لعن الله الواصلة فإذا رأينا واصلة معينة، فهل يجوز نلعنها يعينها؟ الجواب: لا.

و"لعن رسول الله ﷺ آكل الربا ومؤكله..." هذا أيضًا في الصحيحين[7]، فهذا أيضًا ورد فيه اللعن، وليس ذلك يعني يلعن المعين، وأنه "لعن المصورين"[8]، وهذا ثابت في صحيح البخاري، وإذا رأينا أحد يصور لا يجوز أن تلعنه بعينه، وإنما نقول: لعنة الله على المصورين على سبيل العموم، واللعن قد يرد مطلقًا، ولكنه لا يقع للمعين الذي عمل هذا العمل، إما لانتفاء شرط، أو لوجود مانع، وقد توجد امرأة نامصة أو واصلة، أو مستوصلة، أو نحو ذلك، فورد اللعن في حق هؤلاء، لكن قد يتخلف عن فلانة لفقد شرط، أو لوجود مانع، وهذا لا نعلمه نحن، وقد لا تقع العقوبة المعينة، والوعيد المعين، كما قال شيخ الإسلام: لوجود حسنات عظيمة ماحية[9]، كما قال النبي ﷺ في قصة حاطب بن أبي بلتعة لما كتب كتابًا للمشركين يخبرهم فيها عن مسير النبي ﷺ إليهم، فقال النبي ﷺ لعمر لما استأذن النبي ﷺ أن يضرب عنقه، واتهمه بالنفاق: إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم[10] وقال في حق عثمان لما جهز جيش العسرة: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم[11]، وهكذا قد توجد مصائب مكفرة عظيمة، تقع للإنسان، فتكفر عنه الذنوب.

وأنه قال: لعن الله من غير منار الأرض[12]، وغيّر منار الأرض فيه خلاف بين أهل العلم في المراد، ومن أشهر ما قيل في ذلك: أنه غير منار الأرض، يعني: العلامات التي تحدد فيها الأرض، يعني: قرب أرضه ووسعها وأخذ من أرض جاره، أبعد حدود المزرعة، أو حدود كذا، فغير المعالم، قال أي: حدودها.

وأنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده[13]، بعضهم قال: البيضة المعروفة، مع أنه لا يقطع فيما دون ربع دينار، والبيضة لا تبلغ ربع دينار، فبعضهم قال: هذا على سبيل الزجر، وبيان قبح حاله، وليس المقصود بيان الحد.

وبعضهم يقول: البيضة هي التي يضعها المقاتل على رأسه الحديد، كالغطاء الذي يقيه ضرب السلاح بالرأس؛ وذلك يساوي أكثر من ربع دينار، وتقطع به اليد.

وقال: لعن الله من لعن والديه[14]، بلعنٍ مباشر، أو كان متسببًا؛ لأنه لما سُئل النبي ﷺ وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه[15]، فيكون متسببًا؛ ولهذا قال الله : وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].

ولعن الله من ذبح لغير الله[16]، كمن ذبح لصنم، أو لقبر، أو لشيطان، أو لجني، كمن أراد أن يسكن البيت فذبح للجن، أو نحو ذلك، كل هذا داخل فيه.

وأنه قال: من أحدث فيها يعني: المدينة النبوية حدثًا، يعني: بدعة، أو نحو ذلك أو آوى محدثًا يعني: إنسان فعل جريمة منكرة، أو فعل بدعة فآواه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين[17].

وأنه قال: اللهم العن لحيان، ورعلا، وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله[18]، فهؤلاء قنت النبي ﷺ يدعو عليهم في الفروض الخمسة شهرًا كاملاً؛ لأنهم قتلوا أصحابه من القراء، في قصة بئر معونة، غدروا بهم، وهم من قبائل سليم، فقتلوا من قتلوا، ودفعوا لقريش من دفعوا، في قصة مشهورة معلومة، فدعًا عليهم النبي ﷺ وقنت شهرًا، يدعو عليهم -عليه الصلاة والسلام-، حتى ترك ذلك بعده اللهم العن رعلاً حي من أحياء العرب وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله وهذه ثلاث قبائل من العرب.

وأنه قال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[19]، وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال[20]، سواء كان التشبه في المشية، أو في اللباس، أو في الشعر، أو كان بألوان الزينة والحلي، أو كان بطريقة الكلام، فالمرأة تتشبه بالرجل في لباسه، وفي كلامه، وحركاته، وقصة شعره، وما أشبه ذلك، أو تلبس لباس الرجل، أو الرجل يلبس لباس المرأة، كل هذا داخل فيه.

يقول النووي -رحمه الله-: "وجميع هذه الألفاظ في الصحيح، بعضها في صحيحي البخاري ومسلم، وبعضها في أحدهما، وإنما قصدت الاختصار بالإشارة إليها، وسأذكر معظمها في أبوابها من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى"[21].

إذًا هذا الباب حاصله: أنه يجوز اللعن باعتبار الوصف، أو الجنس، لعن الله من فعل كذا، لكن المعين لا يلعن، إلا ما ورد فيه لعن بعينه عن الشارع.

العنوهن فإنهن ملعونات[22]، وهذا لا يعني: لعن المعينة بنفسها، وكذلك المرأة حينما تتمنع عن زوجها، وتهجر فراشه، ونحو ذلك، تلعنها الملائكة حتى تصبح[23]، بعضهم قال: هذا دليل على جواز لعن المعين، والملائكة معصومون، فإذا لعنتها الملائكة جاز لنا أن نلعنها بعينها، والواقع: أن هذا لا دليل فيه، فالملائكة مأذون لهم بهذا، ولكن نحن لم يؤذن لنا، ثم إن هذه المرأة المعينة، قد لا تقع عليها هذه اللعنة لفقد شرط، أو لوجود مانع، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. شرح النووي على مسلم (11/185).
  2. إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/500).
  3. أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (1/75).
  4. فتح القدير للشوكاني (1/187).
  5. أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب ما جاء في المتأولين برقم (6937).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد برقم (5347) ومسلم في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله برقم (1597).
  7. أخرجه أحمد ط الرسالة في مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه برقم (3725) وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
  8. أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب مهر البغي والنكاح الفاسد برقم (5347).
  9. الاستقامة (1/348).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير باب الجاسوس يرقم (3007) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر -رضي الله عنهم- برقم (2494).
  11. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب المناقب برقم (3701) وحسنه الألباني.
  12. أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب لعن السارق إذا لم يسم برقم (6783) ومسلم في كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها برقم (1687).
  14. أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978).
  15. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه برقم (5973) ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها برقم (90).
  16. أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله برقم (1978).
  17. أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة برقم (1870) ومسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة. وفي كتاب العتق، باب تحريم تولي العتيق غير مواليه برقم (1370).
  18. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة برقم (675).
  19. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته برقم (4441) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد... برقم (529) واللفظ للبخاري.
  20. أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب في المخنثين برقم (1904) وصححه الألباني.
  21. رياض الصالحين ط الرسالة (ص: 443).
  22. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (7083) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف".
  23. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب إذا قال: أحدكم آمين والملائكة في السماء، آمين فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه برقم (3237) ومسلم في النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها برقم (1436).

مواد ذات صلة