الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نشرع في الكلام على الصَّلاة على النبي ﷺ بعد التَّشهد، وهذه الصِّيغ الواردة عن النبي ﷺ في الصَّلاة عليه وصفتها بعد التَّشهد قد تنوَّعت، ومن ذلك ما أورده المؤلفُ، وهو ما رواه كعبُ بن عُجرة، عن رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وذلك أنَّ كعبًا لقي ابنَ أبي ليلى، وابنُ أبي ليلى هو عبدالرحمن ابن أبي ليلى، من أصحاب رسول الله ﷺ ممن شهد أحدًا وما بعدها[محمد1] ، وهو في عداد الأنصار -رضي الله عنهم وعن المهاجرين-.
لقيه كعب بن عُجرة فقال: ألا أُهدي لك هديةً؟ هذا للاستفهام من أجل التَّشويق: خرج علينا رسولُ الله ﷺ فقلنا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ[1].
وهذا الحديث -حديث كعب بن عُجرة - مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين"، مع اختلافٍ في بعض ألفاظه.
يقول كعب لعبدالرحمن ابن أبي ليلى لما لقيه: ألا أُهدي لك هديةً سمعتُها من النبي ﷺ؟ فقلتُ: بلى، فأهداها لي -كما في بعض رواياته- فقال: سألنا رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله، كيف الصَّلاة عليكم أهل البيت؟ في بعض ألفاظه، وفي اللَّفظ الذي قبله أنَّهم قالوا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ .. إلى آخره.
هنا: كيف الصَّلاةُ عليكم أهل البيت؟ فإنَّ الله قد علَّمنا كيف نُسلِّم عليك. يعني: علمنا ذلك، الله أمر بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فهذا في كتاب الله -تبارك وتعالى- الأمر بذلك.
وجاء التَّعليم لصفة السَّلام عليه ﷺ على لسان رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في التَّشهد: السَّلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين[2]، هذا كلّه جاء في التَّشهد كما مضى، فهم يسألون: فإنَّ الله قد علّمنا كيف نُسلِّم عليك. وكانوا يسألون عن كيفية الصَّلاة على رسول الله ﷺ، فقال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ.
وذكر الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- روايةً قال: إنَّ إسنادها جيدٌ. يقول: لما نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، هذا السَّلام عليك قد عرفناه، فكيف الصَّلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ .. الحديث[3].
وفي لفظٍ عند مسلمٍ وغيره: أمرنا اللهُ أن نُصلِّي عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ فسكت -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى تمنينا أنَّه لم يُسأل، أو أنَّه لم يَسأل، يعني: الرجل، خشوا أن يكون ذلك قد كرهه رسولُ الله ﷺ، ثم قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ .. إلى آخره، وفي آخره: والسَّلام كما قد عَلِمْتُم، أو عُلِّمْتُم[4]، ضبطه بعضُهم بهذا، وضبطه بعضُهم بذاك.
حينما يقول: اللهم صلِّ على محمدٍ قلنا: بأنَّ صلاةَ الله تعالى على عبده بمعنى: أنَّه يذكر عبدَه في الملإ الأعلى، وأنَّ صلاةَ الملائكة على العبد بمعنى: الاستغفار، وأنَّ قولنا نحن: اللهم صلِّ على محمدٍ هذا بمعنى: السُّؤال والدُّعاء له بالرَّحمة.
هذا الفرق بين صلاة الله على العبد، وصلاة الملائكة، وصلاة المؤمنين، وهذا أحسن ما ذُكِرَ في الفرق بين هذه الأمور الثلاثة فيما ذهب إليه الحافظُ ابن القيم، وشرحه، وبيَّنه.
فهنا النبيُّ ﷺ نقول داعين له، سائلين: اللهم صلِّ على محمدٍ، نسأل ربنا -تبارك وتعالى- أن يُصلِّي عليه، والله أخبرنا أنَّه يُصلِّي عليه، والملائكة يُصلُّون عليه ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.
طيب، إذًا نحن لماذا نسأل ونقول: اللهم صلِّ على محمدٍ؟
يكون ذلك أولًا مما تعبدنا الله به.
الأمر الثاني: أنَّ صلاةَ الله على النبي ﷺ قد تكون مُرتبةً على سببٍ مما قضاه الله وقدَّره، وهو العليم الحكيم، أو أسباب، ومن ذلك: سؤال المؤمنين -كما ذكرنا-: اللهم ... آتِ محمدًا الوسيلة[5]، مع أنَّ هذا حاصلٌ له -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
ثم نحن أيضًا ننتفع بهذا: مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا[6]، فكلّ ذلك مما يحتاج إليه العبدُ، ويتقرَّب به إلى الله -تبارك وتعالى-، وهو أداءٌ لبعض حقِّه علينا -عليه الصَّلاة والسَّلام-، هذا هو المشروع؛ لأنَّ بعضَ الناس يسأل يقول: أنا أُريد أن أجعل صدقاتي للنبي ﷺ، هل هذا هو المطلوب؟ هل الصَّحابة كانوا يفعلون ذلك؟
الجواب: لا، لماذا؟ لأنَّ النبيَّ ﷺ هو الذي دلَّنا على ذلك جميعًا، ومن ثم فإنَّ كلَّ ما يعمله العاملون من أعمال البرِّ بجميع أنواعها: القوليَّة، والعمليَّة، والماليَّة للنبي ﷺ كأجرهم؛ لأنَّه هو الذي دلَّهم على هذا الهدى -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
الحاصل أنَّ هذه الرِّواية التي ذكرها الحافظُ ابن حجر أنَّهم سألوا لما نزلت هذه الآية، هذا يدلّ على أنَّ هؤلاء السَّائلين قد تنوَّعوا: فمنهم مَن سأل بعد نزول هذه الآية، كهذا الرجل الذي جاء فسأل النبيَّ ﷺ، وبعضهم من الصَّحابة المعروفين، كما جاء مُصرَّحًا به في بعض الرِّوايات، كلّ هؤلاء سألوا النبيَّ ﷺ: كيف نُصلِّي عليك؟ قد جاء هذا أيضًا عن قيس بن سعد بن عُبادة[7].
الشَّاهد: أنَّ النبي ﷺ علَّمهم ذلك: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، طيب، ما معنى: "وعلى آل محمدٍ"؟ نحن نطلب أن يُصلي الله على نبيِّه ﷺ وعلى آله، مَن هم آله؟ عرفنا معنى الصَّلاة على النبي ﷺ، فمَن هم آله؟
العلماء تكلَّموا في هذا كثيرًا في الآل، ومن أجمع ما رأيتُ، ومن أحسن ما رأيتُ، وأدقّ ما رأيتُ في الكلام على ذلك هو ما ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في مثل كتابه "جلاء الأفهام"، وذكر حاصلَ أقوال أهل العلم في معنى الآل[8]: آل النبي ﷺ، وأنَّ ذلك يرجع إلى أربعة أقوالٍ:
أما القول الأول: فهم القائلون بأنَّهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة، ومن هؤلاء الذين تحرم عليهم الصَّدقة؟ ليس هذا محلَّ اتِّفاقٍ، هذا وصفٌ جامعٌ: مَن تحرم عليهم الصَّدقة، طيب، مَن هم؟
اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوالٍ:
الأول: أنَّهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وهذا الذي ذهب إليه الشَّافعي، وأحمدُ في روايةٍ عنه، ونسبه الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- إلى الجمهور: أنَّهم بنو هاشم، وبنو المطلب[9].
القول الثاني: أخصُّ من هذا، وهو أنَّهم بنو هاشم، وهذا مذهب أبي حنيفة، والرِّواية الثانية عن الإمام أحمد -رحمه الله ورحم الجميع-، واختاره ابنُ القاسم من أصحاب الإمام مالك[10].
القول الثالث -وهو بعيدٌ والله أعلم-: أنَّهم بنو هاشم ومَن فوقهم إلى غالب[11]، وغالب هذا من أجداد النبي ﷺ كما هو معروفٌ، وهو في سلسلة النَّسب الشَّريف في آباء النبي ﷺ يكون رقم عشرة، هو العاشر من آباء النبي ﷺ، إذا عددتَ من عبدالله يكون هو العاشر، غالب.
فهذا بعض أهل العلم يقولون: إنَّه إلى غالب، معنى ذلك أنَّه يدخل بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو أمية، ومنهم عثمان بن عفّان ، فإنَّه يرجع إليهم، بنو أمية، وبنو نوفل، ومَن فوقهم إلى بني غالبٍ.
فكل هؤلاء يجتمع نسبُهم مع النبي ﷺ كما هو معلومٌ، وهذا قال به بعضُ أصحاب الإمام مالك، نسبه بعضُهم إلى أشهب، وبعضهم إلى أصبغ، لكن هذا بعيدٌ، والله تعالى أعلم.
وعامَّة أهل العلم على خلافه، لكن القول بأنَّهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة في الجملة، سواء قلنا: من بني هاشم، وبني المطلب، أو أنَّهم في خصوص بني هاشم، هذا الذي عليه عامَّة أهل العلم، وهو منصوص الشَّافعي -كما سبق-، وقول الإمام أحمد على اختلافٍ في الرِّواية عنه، وقول الأكثرين؛ جمهور أصحاب أحمد والشَّافعي على هذا -رحم الله الجميع-.
إذًا هذا هو القول الأول في تفسير الآل: أنهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة، واختلفوا في تفصيل هؤلاء مَن يكونون.
القول الثاني في الآل: أنَّهم ذُريته ﷺ، وأزواجه، الذُّريَّة والأزواج.
لاحظوا: ما الفرق بين هذا وما قبله؟
هناك يدخل بنو هاشم، أو بنو هاشم وبنو المطلب، وهناك مَن تحرم عليهم الصَّدقة أربعة أبياتٍ على المشهور: آل علي، وآل جعفر، وآل عباس، وآل حمزة. أربعة.
أما على هذا القول الثاني: أنهم ذُرية النبي ﷺ وأزواجه خاصَّة، يكونون ذُريته: أولاد عليٍّ من فاطمة: الحسن، والحسين، فهذا مع الزَّوجات.
هؤلاء العُلماء حينما يقولون مثلَ هذا عندهم أدلة، ومَن تأمَّل أقوالَ العُلماء في اختلافاتهم، ونظر في استدلالاتهم؛ فإنَّه أحيانًا قد يكون القولُ المستبعد بالنِّسبة إليه إذا بيَّن له وجهه ودليله قد يظنّ أنَّ هذا هو القول الصَّحيح، بعدما كان مُستبعدًا عنده.
الشَّاهد: أنَّ هؤلاء احتجُّوا بحديث أبي حميدٍ -رضي الله تعالى عنه-، وفيه -في نفس الحديث، حديث أبي حميدٍ- أنَّهم سألوا النبيَّ ﷺ: كيف نُصلي عليك؟ كما قلت: إنَّ ذلك جاء عن جماعةٍ من الصَّحابة، يسألون: كيف نُصلِّي عليك؟ فماذا قال؟
لاحظوا: هذا تفسيرٌ للصَّلاة عليه، هناك: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، هنا ماذا قال لهم؟ اللهم صلِّ على محمدٍ، وأزواجه، وذُريته[12]، ما في (آل).
فقالوا: إنَّ قولَه هنا: على محمدٍ، وأزواجه، وذُريته أنَّ الأزواجَ والذُّريةَ يُساوي: آل محمد، فقالوا: "الآل" هم الأزواج والذُّرية. هذا تفسيرٌ للحديث بقول النبي ﷺ، وهذا له وجهٌ كما ترون؛ فهذه جعلوها تقوم مقام تلك تمامًا، قالوا: هم الأزواج والذُّرية. قالوا: والآل والأهل سواء، وآل الرجل وأهله سواء، وهم الأزواج والذُّرية، بدليل هذا الحديث.
أمَّا أصحاب القول الثالث، فقولهم لا يخلو من بُعْدٍ حينما ذكروه بهذا الإطلاق هكذا، قالوا: "آله" هم أتباعه إلى يوم القيامة، أتباع النبي ﷺ، إذا قلتَ: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ. يعني: وعلى أتباع محمدٍ ﷺ، يعني: من أهل الإيمان. وهذا مرويٌّ عن جابر بن عبدالله ، واختاره بعضُ أصحاب الشَّافعي -رحم الله الجميع-، واختاره الإمامُ النَّووي -رحمه الله- أنَّهم أتباعه[13].
القول الرابع والأخير: أنَّ "الآل" هم الأتقياء من أُمَّته ﷺ، يعني: أنَّهم قيَّدوه بالتَّقوى، وهؤلاء ربما يحتجُّون بحديثٍ لا يصحّ، في أنَّ "آله" ﷺ هو كل تقيٍّ من أُمَّته[14]، لكن الحديثَ لا يصحّ.
فهذه الأقوال الأربعة أضعفها الأخيران: الثالث والرابع. والأول والثاني قويَّان، الأول عليه الجمهور: أنَّه مَن تحرم عليه الصَّدقة، وعليه عامَّة أهل العلم، والقول الثاني يدلّ عليه حديثُ أبي حميدٍ السَّاعدي -رضي الله تعالى عنه-.
والنبي ﷺ أخبر أنَّ الصَّدقةَ لا تحلّ لآل محمدٍ، فكيف يُقال: إنَّ "آله" هم أتباعه إلى يوم القيامة، أو هم الأتقياء من أُمَّته؟! الآل أخصُّ من هذا، لا تحلّ لهم الصَّدقة.
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فسَّر آل محمدٍ ﷺ قال: هم الذين تحرم عليهم الصَّدقة[15]، فإنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ الصَّدقةَ لا تحلّ لمحمدٍ، ولا لأهل بيته[16]، فهذا ترجيحٌ منه للقول الأول؛ بأنَّهم مَن تحرم عليهم الصَّدقة، الزَّوجات هم من آل الرجل، ومن أهله، والآل والأهل.
يعني: لو نظرنا الآن في قوله -تبارك وتعالى-: وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص:29]، موسى ﷺ مَن التي سارت معه؟ هي زوجته، وزوجة الرجل يُقال: أهله.
فهنا آل النبي ﷺ أزواجه، وبناته، وصهره عليّ -رضي الله تعالى عنه-، والأحفاد، والذُّريات، كلّ هؤلاء.
وفي قوله -تبارك وتعالى- عن قول الملائكة لإبراهيم ﷺ لما بشَّروه بالولد، وتعجَّبت امرأتُه من حصول الولد بعد تقادم العمر، مع العُقم، قالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:73]، مَن هم أهل البيت؟ الذين كانوا بالحضرة حينما قالت الملائكةُ هذا: إبراهيم مع زوجته، فهم أهل البيت.
والرجل داخلٌ في ذلك، الرجل نفسه كما في قوله -تبارك وتعالى-: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فرعون لا شكَّ أنَّه داخلٌ فيهم.
إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ [البقرة:248]، فُسِّر بموسى وهارون، مما ترك موسى وهارون -عليهما الصَّلاة والسَّلام-.
لكن إذا ذكر الرجل، وعطف عليه الآل؛ كان ذلك للمُغايرة، كما نقول: اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ. لكن حينما نقول: كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم[17]، كما في بعض الرِّوايات، فهذا يدل على المغايرة، لكن في بعضها: كما صليتَ على آل إبراهيم[18]، بدون: "على إبراهيم"، فإبراهيم يكون داخلًا فيه، وهذا مهمٌّ في التَّشبيه، كما سيأتي سؤالٌ يرد عليه وجوابه: كما صليتَ على آل إبراهيم، بدون ذكر إبراهيم ﷺ.
الخلاصة: الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ "الآل" يُطلق بإطلاقات مُتعددة، وهو بحسب المقام، فأضيق إطلاقات "الآل" هم ما جاء في حديث الكِساء، لما قال اللهُ : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، النبي ﷺ دعا فاطمة، وعليًّا، والحسن، والحسين، ووضع عليهم كساءً، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرِّجسَ وطهِّرهم تطهيرًا[19]، ولما استأذنته أمُّ المؤمنين أن تدخل معهم، النبي ﷺ اعتذر إليها بما قد علمتُم. فهذا أضيق إطلاقٍ لأهل البيت: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وما كان من ذُريتهم، هذا أضيق إطلاقٍ، وهو إطلاقٌ صحيحٌ لا يُنكر، ويدلّ عليه حديث الكِساء، وهو حديثٌ ثابتٌ وصحيحٌ.
الإطلاق الثاني أوسع من هذا، وهو مَن تحرم عليهم الصَّدقة، فيدخل فيهم هؤلاء: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين؛ يعني: لا تكون الذُّرية فقط، وإنما أيضًا مَن تحرم عليهم الصَّدقة: كآل عليٍّ، وآل جعفر، وآل عباس، وآل عقيل، هؤلاء الأربعة.
فهنا يكون إطلاقُ آل النبي ﷺ على ما هو أوسع؛ يعني: مَن تحرم عليهم الصَّدقة، هناك إطلاقٌ أوسع من هذا يدخل فيه أزواجُ النبي ﷺ، ما الدَّليل على هذا: أنَّ الآل يدخل فيه الأزواج؟
رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وهنا كما في قولنا في قصّة إبراهيم ﷺ أنَّ ذلك قيل في حقِّه، وفي حقِّ زوجته، فهي داخلةٌ معه بلا شكٍّ، وكذلك ما ذكرنا أيضًا من أنَّ زوجةَ الرجل يُقال لها: أهل.
وآية الأحزاب نفسها: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، هي في سياق ذكر الزَّوجات: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:32- 33]، هذه في زوجاته، السياق كله في زوجاته، والآية من أوَّلها في زوجاته، فهنَّ داخلات في هذا قطعًا، فالإطلاق الأوسع يدخل فيه الزَّوجات.
ويدلّ على هذا الحديث الذي ذكرتُه، وجوَّد إسنادَه الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-؛ حديث أبي حميدٍ: اللهم صلِّ على محمدٍ، وأزواجه، وذُريته[20]، فهذا بمعنى: آل محمدٍ.
وهناك أوسع الإطلاقات، وهو أتباعه إلى يوم القيامة.
فإذا قلنا: "اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ" فهنا يدخل فيه الإطلاقات هذه: يدخل فيه الإطلاق الضَّيق، ثم الذي أوسع منه، ثم الذي أوسع منه؛ يعني: الزَّوجات داخلات في هذا، بدليل حديث أبي حميدٍ، داخلات في هذا.
إذًا هو لا يختصّ بمَن تحرم عليهم الصَّدقة، فزوجاته داخلات، ولا مانعَ من أن يُقال: إنَّ أتباعَه يدخلون في هذا؛ لأنَّ "آل" الرجل في اللغة يدخل فيهم الأتباع.
وقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ يدخل فيه فرعون، ويدخل فيه أتباعُ فرعون، فيكون في مقامٍ بما يليق به، فإذا كان المقامُ مثلًا يتعلَّق بالصَّدقة، ومَن تحلّ له الصَّدقة، ومَن لا تحلّ له، فيُقال: لا تحلّ لآل محمدٍ، كما جاء في الحديث؛ فهنا تخرج الزَّوجات، ويخرج الأتباع، ويكون ذلك فيمَن تحرم عليهم الصَّدقة، وهؤلاء -كما قلتُ- أربعة أبياتٍ: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
هذا ما يتعلق بهذا القدر من صدر هذا الحديث، وبقيت فيه بقيةٌ -إن شاء الله تعالى- نُكملها في الليلة الآتية.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (6357)، ومسلم: كتاب الصَّلاة، باب الصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التَّشهد، برقم (406).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب التَّشهد في الآخرة، برقم (831)، ومسلم: كتاب الصَّلاة، باب التَّشهد في الصَّلاة، برقم (402).
- انظر: "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار" لابن حجر (2/199).
- أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب الصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التَّشهد، برقم (405).
- أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدعاء عند النِّداء، برقم (614).
- أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يُصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يسأل له الوسيلة، برقم (384).
- أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب الصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التَّشهد، برقم (405).
- انظر: "جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمدٍ خير الأنام" لابن القيم (ص210).
- انظر: "جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمدٍ خير الأنام" لابن القيم (ص210)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/354)، والموسوعة الكويتية (33/ 69)، و"المبدع في شرح المقنع" لابن مفلح (1/415).
- انظر: "جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمدٍ خير الأنام" لابن القيم (ص210)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/354)، و"مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحلّ مُشكلاتها" للرجراجي (2/304)، والموسوعة الكويتية (33/ 69).
- انظر: "جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمدٍ خير الأنام" لابن القيم (ص210).
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب هل يُصلَّى على غير النبي -صلى الله عليه وسلم-؟، برقم (6360).
- انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/76).
- أخرجه الطَّبراني في "المعجم الأوسط"، برقم (3332)، وضعَّفه الألباني في "الجامع الصغير"، برقم (1025).
- انظر: "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية" لابن تيمية (4/595).
- أخرجه ابنُ حبان في "صحيحه": كتاب التاريخ، باب كتب النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (6559)، وقال الألباني في "التعليقات الحسان": "صحيحٌ لغيره"، برقم (6525).
- أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3370).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (6357)، ومسلم: كتاب الصَّلاة، باب الصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التَّشهد، برقم (406).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، برقم (2669)، وصحَّحه الشيخ مقبل الوادعي في "الجامع الصحيح"، برقم (2604).
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب هل يُصلَّى على غير النبي -صلى الله عليه وسلم-؟، برقم (6360).
[محمد1](ابن أبي ليلى ليس من الصحابة، بل هو من كبار التابعين، قال ابن حجر: " ذكر العدوي النسابة عن ابن الكلبي- أنّ أبا ليلى شهد أحدا ومعه ابنه عبد الرحمن. قال ابن البرقيّ في رجال الموطأ في ترجمة عبد الرحمن بن أبي ليلى التابعي المشهور: أدرك عبد الرحمن النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، وكأنه اشتبه عليه بأبيه، وإلا فقد صرّح غيره بأنه ولد في عهد عمر. واختلف في صحة سماعه منه، وله مراسيل".[الإصابة: 4/299] (يُراجع).