الأربعاء 11 / جمادى الأولى / 1446 - 13 / نوفمبر 2024
(130) الصلاة على النبي بعد التشهد " ... إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"
تاريخ النشر: ١٧ / جمادى الأولى / ١٤٣٥
التحميل: 2743
مرات الإستماع: 1956

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

لم يزل الحديثُ متَّصلاً في الكلام على الصَّلاة على النبي ﷺ التي نقولها بعد التَّشهد، وكان آخر ما كنا نتحدَّث عنه في الليلة الماضية هو ما يتعلَّق بختم ذلك بهذين الاسمين الكريمين: الحميد، والمجيد: إنَّك حميدٌ مجيدٌ[1]، وقلنا: إنَّ الحميدَ هنا بمعنى: المحمود، وهذا الذي عليه عامَّةُ أهل العلم، وهو من الحمد.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر أنَّ أكثر ما يأتي على هذه الزِّنَة؛ يعني: فعيل في أسماء الله -تبارك وتعالى- فإنَّه يكون بمعنى: فاعل، "سميع" بمعنى: سامع، و"بصير" يعني: مُبصر، و"عليم" بمعنى: عالم، و"قدير" بمعنى: قادر، وهكذا أيضًا: العلي، والحكيم، والحليم، وهذا كثيرٌ، وهكذا ما كان من قبيل أو على زنة "فعول": كالغفور، والشَّكور، والصَّبور؛ بمعنى: الغافر، والشَّاكر، والصَّابر[2].

أمَّا "الحميد" فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يجزم بأنَّه لم يأتِ إلا بمعنى المحمود، والحميد أبلغ من المحمود؛ لأنَّها صيغة مُبالغة[3]، فذلك يدلّ على كثرة الحمد، لا سيّما أنَّ فعيلاً إذا عُدل به عن مفعول: حميد ومحمود، محمود على وزن: مفعول، فعُدل به عن مفعول إلى فعيل، فإنَّ ذلك يدلّ على أنَّ تلك الصِّفة قد صارت كالسَّجيَّة، والغريزة، والخلق اللَّازم، تقول: فلان كريم، فلان شريف، فلان ظريف. فهنا يكون ذلك سجيَّةً له، فهو يقول: إنَّ هذا من أبنية الغرائز؛ يعني: ما كان على وزن فعيل، أن تكون الصِّفةُ راسخةً، ثابتةً.

وأيضًا يذكر -رحمه الله- أنَّ الحميد هو مَن له من الصِّفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودًا، وإن لم يحمده غيره؛ يعني: فالله -تبارك وتعالى- حميدٌ؛ بمعنى: محمود، وإن لم يحمده أحدٌ من الخلق، فهو حميدٌ في نفسه بما له من الأوصاف الكاملة، له الكمال المطلق في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، أمَّا المحمود فهو مَن تعلَّق به حمدُ الحامدين.

كذلك أيضًا "المجيد" ونحو ذلك، كلّ هذا يدلّ على المبالغة، وذكر أنَّ "الحمدَ والمجدَ" يرجع إليهما الكمال كلّه، إلى هذين الاسمين المتضمنين لصفة الحمد والمجد، وذلك أنَّ الحمدَ يستلزم الثَّناء والمحبَّة للمحمود، فمَن أحببتَه ولم تُثْنِ عليه؛ لم تكن حامدًا له حتى تكون مُثنيًا عليه، محبًّا له، وهذا الثَّناءُ والحبُّ تبعٌ للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، مع الإحسان إلى الغير.

يقول: فإنَّ هذه هي أسباب المحبَّة، وكلَّما كانت هذه الصِّفات أجمع وأكمل؛ كان الحمدُ والحبُّ أتمّ وأعظم، والله -تبارك وتعالى- له الكمال المطلق الذي لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه، فالإحسان كلّه له، وهو منه -تبارك وتعالى-، فالله أحقّ بكلِّ حمدٍ، وبكل حبٍّ، من كل جهةٍ، فهو أهلٌ أن يُحبَّ لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه -تبارك وتعالى-، ولكلّ ما يصدر عنه.

وأمَّا المجد فذكر أنَّه مُستلزمٌ للعظمة، والسّعة، والجلال، والحمد يدلّ على صفات الإكرام، والله -تبارك وتعالى- ذو الجلال والإكرام، يقول: ولهذا يقرن -تبارك وتعالى- بين هذين النَّوعين كثيرًا في القرآن: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، إلى غير ذلك من الآيات[4].

ثم يذكر أنَّه لما كانت الصلاةُ على النبي ﷺ هي ثناء الله تعالى عليه، وتكريمه، والتَّنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبِّه وتقريبه -كما تقدّم-؛ كانت مُشتملةً على الحمد والمجد، فكأنَّ المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإنَّ الصلاةَ عليه هي نوع حمدٍ له وتمجيد، هذه حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما اسم: الحميد، والمجيد، فختم هذا بهما، هذه الصَّلاة على النبي ﷺ.

ولما كان المطلوبُ للنبي ﷺ الحمد والمجد بصلاة الله عليه؛ ختم هذا السؤال بهذين الاسمين: الحميد، والمجيد؛ من أجل أنَّ الدعاءَ يكون بأسماء الله -تبارك وتعالى- في كل مقامٍ بما يليق به، هذا بالإضافة إلى أنَّه لما كان المطلوبُ للنبي ﷺ الحمد والمجد، وكان ذلك حاصلاً له؛ ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للربِّ بطريق الأولى، فالنبي ﷺ لا شكَّ أنَّه محمودٌ، وله من صفات المجد ما هو معلومٌ، فالله أولى بذلك، فجاء وصفُ الله -تبارك وتعالى- في ختم هذه الصَّلاة على النبي ﷺ بأنَّه حميدٌ مجيدٌ، فهو الأحقّ بأوصاف الكمال؛ لأنَّه مانحها، وواهبها، ومُعطيها، ومُسديها.

وكذلك أيضًا لما طلب للنبيّ ﷺ الحمد والمجد بالصَّلاة عليه، وذلك يستلزم الثَّناء عليه؛ ختم هذا المطلوب بالثَّناء على مُرسله بالحمد والمجد، فقلنا: "إنَّك"؛ أي: يا الله، "حميد، مجيد"، فيكون هذا الدُّعاء مُتضمنًا لطلب الحمد والمجد للنبي ﷺ، والإخبار عن ثبوته للربِّ -تبارك وتعالى-، كما قال الحافظُ ابن القيم في النُّونية:

وهو المجيد صفاته أوصاف تعـ ظيمٍ فشأن الوصف أعظم شان[5]

ثم يقول: "اللهم بارك على محمدٍ"، نحن عرفنا معنى البركة، فهي تدلّ على كثرة الخير، ونمائه، ودوامه، واستمراره، وهنا "اللهم بارك على محمدٍ"؛ يعني: دُعاء له بكثرة الخير، والتَّشريف، والعطاء الذي أعطاه الله إياه من كراماته لنبيِّه ﷺ في الدنيا والآخرة، وأن يكون ذلك دائمًا، فإنَّ أصلَ هذه المادة كما ذكرنا يدل على الثُّبوت؛ ولهذا يُقال: برك البعيرُ؛ يعني: إذا أناخ في موضعه ولزمه، كما أنَّها تدل على الزِّيادة.

نقول: "اللهم بارك على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ"، عرفنا معنى "الآل": "كما باركتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم"، وصحَّ عند مسلمٍ وغيره زيادة: في العالمين[6]، يعني: أظهر الصَّلاة والبركة على محمدٍ ﷺ وعلى آله في العالمين، كما أظهرتهما على إبراهيم وآله في العالمين.

ولهذا فإنَّ ما ذكرناه في الليلة الماضية من الكلام على وجه التَّشبيه في الصَّلاة المطلوبة للنبي ﷺ كما صلَّى اللهُ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، قلنا: هذا يرد عليه سؤالٌ ذكرناه، وذكرنا الجوابَ عنه.

فبعض أهل العلم كان من أجوبتهم: أن لاحظوا هذه الزِّيادة في الرِّواية، فقالوا: المطلوب لما كان ما أُعطي إبراهيم ﷺ مُشتهرًا، معلومًا، ذائعًا، معروفًا عند العالمين، عند الأمم، وهذه الأمم تُقرّ بمنزلته وقدره، وما أعطاه الله وحباه؛ طُلب مثل ذلك في الاشتهار للنبيِّ ﷺ وآله.

هذا جوابٌ ذكره بعضُ أهل العلم، يُؤخذ من هذه الزيادة، أو أخذوه من هذه الزيادة.

هذا ما يتعلّق بهذه الصَّلاة على النبي ﷺ.

بعد ذلك أورد المؤلفُ حديثَ أبي حميدٍ السَّاعدي الذي أشرتُ إليه في ثنايا الكلام على حديثنا هذا؛ وذلك أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ، وعلى أزواجه وذُريته كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ. هذا مُخرَّجٌ في "الصحيحين"، واللفظ لمسلمٍ، هذه صيغة من صيغ الصَّلاة على النبي ﷺ بعد التَّشهد.

هذه الصِّيغة هل يُقال بأنَّ ذلك يمكن أن يُجمع مع ما قبله، ومع غيره من الصِّيغ الصَّحيحة الثابتة، فيُركّب من الجميع صيغة متَّحدة مع جميع الزِّيادات؟

الجواب: لا؛ لأنَّ هذا ليس من قبيل اختلاف الرِّوايات، وإنما هي صيغٌ قالها النبيُّ ﷺ في أحوالٍ وأوقاتٍ شتَّى؛ يعني: قالها النبيُّ ﷺ أو علَّمهم النبيُّ ﷺ في مقاماتٍ: قولوا كذا، فتارةً قال لهم هذا، وتارةً قال لهم الآخر، فعندها يُقال: إنَّ المشروع هو أن يُنوِّع المصلِّي: فتارةً يأتي بهذا، وتارةً يأتي بهذا، وتارةً يأتي بهذا.

أما خارج الصَّلاة فإنَّ الله -تبارك وتعالى- حينما أمر عباده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، لو أنَّ الإنسان قال: "اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ وعلى آله" مثلاً، "اللهم صلِّ على محمدٍ"؛ فإنَّ ذلك يُجزئه، فيكون قد صلَّى على النبي ﷺ، والنبي ﷺ يقول: البخيلُ مَن ذُكِرْتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ[7]، فنحن مأمورون بهذا، فلو قال: "صلَّى الله عليه وسلَّم" إذا سمع ذكره، أو المتكلم حينما يذكر النبيَّ ﷺ يقول: "صلَّى الله عليه وعلى آله وسلّم"، أو نحو ذلك؛ فهذا يُجزئه، فإن قال: "صلَّى الله عليه وسلَّم" أجزأ، فإن ذكر الآل فهو أكمل؛ لأنَّ النبي ﷺ ذكره فيما علَّم أصحابَه، لكن أكمل من ذلك كلّه مثلاً في ليلة الجمعة ويوم الجمعة أُمرنا بالصَّلاة على النبي ﷺ على وجه الخصوص؛ يعني: يكون ذلك أكثر.

فهنا لو أنَّه يُردد ويقول: "اللهم صلِّ على محمدٍ، اللهم صلِّ على محمدٍ"، ونحو ذلك، "اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آله"، أو "على آل محمدٍ"؛ فهذا يُجزئ، لكن الأكمل أن يأتي بمثل هذه الصِّيغ الكاملة التي علَّمها النبيُّ ﷺ أصحابَه، فيُرددها، مثلما يُقال مثلاً في الاستغفار، لو قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. هذا تحقق الاستغفار، ولكن لو أنَّه قال سيد الاستغفار، جاء به كاملاً، فهذا أكمل، وهكذا.

فهناك صِيغ مُجزئة، وهناك صيغ كاملة، فهنا في هذا الحديث مضى الكلامُ على أجزاءٍ منه أثناء الحديث عن حديثنا السَّابق، هنا قالوا للنبي ﷺ: يا رسول الله، كيف نُصلِّي عليك؟ ذكرنا أنَّه جاء بإسنادٍ جيدٍ، كما قال الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-، سبب هذا السُّؤال وهو أنَّه لما نزلت: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، سألوا، قالوا: يا رسول الله، هذا السَّلام عليك قد علمنا ما هو، فكيف تأمرنا أن نُصلِّي عليك؟ فقال رسولُ الله ﷺ: قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ[8]، يعني: "اللهم" عرفنا أنَّه: يا الله، وأنَّ الميم عِوض عن الياء، ياء النِّداء: يا الله، وأنَّهما لا يجتمعان، وبعضهم يقول: الميم هذه زائدة للتَّفخيم. وبعضهم يقول: تدلّ على الجمع؛ يعني: يا مَن اجتمعت له الأسماء الحسنى، والكمالات، يا الله، اللهم. هكذا قال بعضُهم.

وعلى كل حالٍ، اللهم صلِّ على محمدٍ، محمدٌ ﷺ عرفنا معنى الصَّلاة عليه، وهذا الاسم من أسمائه، بل هو أشهر أسمائه -عليه الصَّلاة والسلام-، وفي القرآن سورةٌ بهذا الاسم؛ سورة محمدٍ ﷺ، وهذا الاسم وغيره من أسماء النبي ﷺ هي ليست مجرد أعلام كأسمائنا، أسماؤنا مجرد أعلام، لا تدلّ على أوصافٍ ثابتةٍ لنا، فقد يُسمَّى الإنسانُ: صالحًا، ولا يكون كذلك، وقد يُسمَّى: شجاعًا، وليس كذلك، وقد يُسمَّى: سعيدًا، وليس كذلك، فأسماؤنا مجرد أعلامٍ نتعارف بها فقط، يُنادى بها الإنسان.

أمَّا أسماء الله ، وأسماء الرسول ﷺ، وأسماء القرآن، هذه الثلاثة فإنَّها أعلام مُتضمنة لأوصافٍ، أسماء الله هذا واضحٌ، وأسماء القرآن كذلك أيضًا: الفرقان؛ لأنَّه يُفرِّق بين الحقِّ والباطل، وأسماء النبي ﷺ كذلك؛ لأنَّه -عليه الصَّلاة والسلام- لما ذكر أسماءه، وذكر الحاشر، والعاقب.. إلى آخره بيَّن وجهَ ذلك، وما تضمّنه من المعنى.

فهنا اسمه ﷺ هذا الاسم المشهور: محمد، هذا من الحمد، يُقال في كتب السِّيرة: إنَّ الذي سمَّاه به هو جدّه عبدالمطلب، محمد، فهو يُحمد كثيرًا، فالنبي ﷺ محمودٌ بين الخلائق، ويذكر أهلُ السِّير البيتَ المشهور الذي ينسبونه لأبي طالب جدّ النبي ﷺ:

وشقَّ له من اسمه ليُجلّه فذو العرش محمودٌ وهذا محمَّد[9]

 مع أنَّ هذا البيتَ هو ضمن قصيدة لحسان بن ثابت يمدح النبيَّ ، فيحتمل أنَّه وقع توافقٌ، ويحتمل أنَّ حسان بن ثابت ضمَّن هذا البيت في قصيدته، وهو من قول أبي طالب، ويحتمل أنَّه لحسان أصلاً، وليس لأبي طالب -فالله أعلم-، وهذا لا يترتب عليه كبيرُ أثرٍ.

فهنا الله -تبارك وتعالى- جمع للنبي ﷺ من المحامد وصفات الحمد ما لم يجمعه لغيره، فهو الذي بيده لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود الذي يحمده عليه الأوَّلون والآخرون، وكذلك يُلهمه الله -تبارك وتعالى- عندما يسجد تحت العرش للشَّفاعة من مجامع الحمد مما لا يُحسنه قبل ذلك -عليه الصَّلاة والسلام- كما أخبر.

وكذلك أيضًا سُميت هذه الأُمَّة بالحمادين؛ لحمدهم على السَّراء والضَّراء: اللهم صلِّ على محمدٍ، ونقول: كما صليتَ على آل إبراهيم. وهذا مضى الكلامُ عليه، "وبارك على محمدٍ"، كلّ هذا مضى الكلامُ عليه، وعلى أزواجه، وذُريته، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد.

هنا الأزواج والذُّرية: أزواج جمع زوجٍ، والمرأة -كما ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ- أنَّه الأفصح والأشهر، أنَّه يُقال لها: زوج، وليس زوجة، هذا هو الأشهر، وهو الذي ورد في القرآن، ولم يرد سواه؛ يعني: ما ورد "زوجة" في القرآن، "زوجة" بالهاء: أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]؛ يعني: زوجته، فالتي قالت للنبيِّ ﷺ: "يا رسول الله، صلِّ عليَّ وعلى زوجي"، هنا تقصد زوجها، فالرجل يُقال له: زوج، والمرأة يُقال لها: زوج، فقال النبي ﷺ: صلَّى اللهُ عليكِ وعلى زوجك[10].

هذا هو المستعمل في القرآن، المرأة يُقال لها: زوج، والرجل يُقال له: زوج، ولكن "زوجة" لا يُقال، إنَّه لحنٌ، ولكنَّها لغةٌ قليلةٌ، وبعضهم يقول: ضعيفة؛ يعني: هي فصيحة، لكنَّها ليست كزوجٍ، فالقرآن جاء بالأفصح.

ومما يدلّ على أنها لغة قول الفرزدق، وهو شاعر ممن يُحتجّ بشعره؛ لأنَّه في زمن الاحتجاج:

فإنَّ الذي يسعى ليُفسد زوجتي عليَّ كساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يستبيلها[11]

قال: "زوجتي"، فهذا يدلّ على أنَّه استعمالٌ صحيحٌ، وصار هذا هو الشَّائع اليوم، مع أنَّ الأفصح هو ما جاء في القرآن، وما عليه كلام العرب في الأعمِّ الأغلب: أزواج النبي ﷺ وذُريته، الذُّرية هم الأولاد، وأولاد الأولاد، وما تناسل منهم، نسل الإنسان، وهل يدخل فيهم أولاد البنات، أو لا؟

بعض أهل العلم يقولون: يدخلون فيهم. الحافظ ابن حجر يقول: أولاد الأبناء والبنات كلّهم يدخلون في ذلك[12].

وهذه المسألة فيها كلامٌ معروفٌ لأهل العلم، ولكن أولاد فاطمة -رضي الله تعالى عنها ورضي عنهم أجمعين- الحسن، والحسين، هم من أولاد النبي ﷺ.

والحجاج بن يوسف لما بلغه أنَّ أبا عمرو ابن العلاء -وهو إمامٌ في اللغة، وإمامٌ في القراءات- يقول: إنَّ الحسن والحسين أبناء النبي ﷺ، قال: إمَّا أن تُثبت هذا، وإلا لأفعلنَّ بك. توعَّده، فبماذا احتجَّ؟ احتجَّ بآيةٍ من القرآن، لما ذكر اللهُ إبراهيم قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ إلى أن قال: وَعِيسَى [الأنعام:84-85]، فعيسى ولد بنتٍ، واضح؟ فهو من ذُرية إبراهيم بنصِّ القرآن.

الحجَّاج لما بلغه عن أبي عمرو ابن العلاء أنَّه يقول: إنَّ الحسن والحسين من ذُرية النبي ﷺ. قال: أثبت، وإلا. توعَّده، فاحتجَّ عليه بهذه من القرآن[13].

وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ قيل: الضَّمير يرجع إلى نوحٍ. وقيل: يرجع إلى إبراهيم.

المقصود أنَّه عدَّه من ذُريته، وهو ولد بنتٍ، الذي هو عيسى ابن مريم، ونسبها يرجع إلى إسحاق بن إبراهيم -عليهم السَّلام-.

وأمَّا قول الشَّاعر:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهُنَّ أبناء الرِّجال الأباعد[14]

فهذا قول شاعرٍ ليس بوحيٍ، قول قائلٍ مجهول، ولا عبرةَ به.

وعند أبي حنيفة وجماعة أنَّه لا يدخل فيه أولاد البنات، إلا أولاد بنات النبي ﷺ؛ لأنهم يُنسبون إليه في الكفاءة وغيرها، والمقصود هنا أولاد فاطمة -رضي الله عنها-، وكذا من غيرها من بناته، لكن بعضهنَّ لم يعقب كما هو معلومٌ، وبعضهنَّ انقطع عقبها.

فالمقصود أنَّ ذُريته يدخل فيهم الحسن والحسين بلا شكٍّ -رضي الله عن الجميع- ومَن تناسل منهم.

"كما صليتَ على إبراهيم"، وقلنا: إنَّ ذاك يعني: وأزواجه وذُريته هو بمنزلةٍ، "وعلى آل محمدٍ"، وقد فسَّرنا هذه الجملة، وقلنا: إنها وُضعت موضعها، "كما صليتَ على إبراهيم"، هكذا في بعض النُّسَخ، وفي بعضها: "كما صليتَ على آل إبراهيم".

وهنا ذكرنا السّؤال السَّابق، وكلام أهل العلم فيه، في الجواب عن وجه التَّشبيه، ومما يُذكر في هذا الباب ما أجاب به القاضي عياض: بأنَّ الآل مُقحم، كما في قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي موسى: إنَّه أُعطي مزمارًا من مزامير آل داود، والمقصود مزامير داود[15]، هذا ذكرناه بالأمس: أنَّ الآل ولو لم يقل: إنَّه مُقحم، فإنَّ الآل يدخل فيهم الرجل نفسه: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهو فرعون ومَن معه؛ لأنَّه هو الأصل المقصود، فالنبي ﷺ هو الأصل المقصود في الصَّلاة.

وهكذا حينما نقول: "وعلى آل إبراهيم"، طيِّب، وإبراهيم بناءً على هذه الرِّواية: "وعلى آل إبراهيم"، لم يذكر إبراهيم ، فيُقال: هو داخلٌ في ذلك، وأنَّ آله تبعٌ له.

"بارك" يعني: زدْ في البركة والخير، كما قلنا الكثير على آل محمدٍ وأزواجه وذُريته: "كما باركتَ على آل إبراهيم".

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أجاب عن السؤال الذي أشرتُ إليه بجوابٍ، وهو من جملة ما ذكرتُه سابقًا، لكن لمعرفة قوله -رحمه الله-، فهو يرى أنَّ الأحسن أن يُقال: بأنَّه ﷺ من آل إبراهيم، وأنَّه قد ثبت ذلك عن ابن عباسٍ في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:33]، قال: محمدٌ من آل إبراهيم.

يقول ابنُ القيم: فكأنَّه أمرنا أن نُصلِّي على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، خصوصًا بقدر ما صلّينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عمومًا[16]، يعني: نكون طلبنا صلاةً عليه، بالإضافة إلى صلاةٍ أخرى كصلاته -تبارك وتعالى- على إبراهيم، فيحصل لآله ما يليق بهم، ويبقى الباقي كلّه له ﷺ، وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم؛ يعني: أنَّ المطلوبَ للنبي ﷺ أكثر وأفضل مما لإبراهيم .

هذا والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3370).
  2. انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/19).
  3. انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص315).
  4. انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص316-317).
  5. انظر: "القصيدة النونية" لابن القيم (ص203).
  6. أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب الصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد التَّشهد، برقم (405).
  7. أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى": كتاب فضائل القرآن، ذكر الاختلاف، برقم (8046)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (2877).
  8. انظر: "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار" لابن حجر (2/199).
  9. انظر: "الجليس الصالح الكافي والأنيس النَّاصح الشَّافي" للنّهرواني (ص287).
  10. أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (15281)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان" برقم (912).
  11. انظر: "أدب الكاتب" لابن قتيبة (ص425).
  12. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/120) (11/160).
  13. انظر: "معترك الأقران في إعجاز القرآن" للسيوطي (2/181).
  14. انظر: "محاضرات الأدباء ومحاورات الشُّعراء والبُلغاء" للأصفهاني (1/178).
  15. انظر: "شرح الشفا" للقاضي عياض (ص148).
  16. انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص290).

مواد ذات صلة