الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
الدُّعاء والذكر الثاني الذي أورده المؤلفُ فيما يتَّصل بالهمِّ والحزن: هو ما جاء من حديث أنس بن مالكٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: كان النبيُّ ﷺ يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدَّين، وغلبة الرِّجال[1]، هذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه".
وعرفنا معنى الاستعاذة، وقوله: اللهم أي: يا الله، إني أعوذ بك فهو يتعوَّذ، بمعنى: يلجأ ويعتصم بالله -تبارك وتعالى- مما يُحاذره ويخافه، فهنا يلجأ إلى الله -تبارك وتعالى- ويعتصم به من هذه المذكورات الثَّمان.
يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، وعرفنا معنى الهمِّ والحزن، وما ذكره أهلُ العلم في ذلك؛ من قول بعضهم: بأنَّ الحزنَ هو الغمّ على الفائت، وبعضهم يقول: الحزن هو غمٌّ على ما فات، والحزن يُقابل السُّرور والفرح، تقول: فلانٌ حزينٌ، بصرف النَّظر عن كون ذلك يتَّصل بأمرٍ مضى، أو لا يتَّصل به، والفرق بينهما عرفناه.
وبعضهم يقول: بأنَّ الهمَّ يكون لأمرٍ مُستقبلٍ، هذا هو المشهور، يعني: مما يتوقعه من وقوع المكروه، أو فوات المحبوب، فيحمل همًّا، وأمَّا الحزن فيكون لأمرٍ قد وقع وفات ومضى، فالهمّ للمُستقبل، والحزن للماضي.
وبعضهم يُفرق بينهما باعتبار أنَّ الهمَّ أشدُّ وأوقع في النَّفس من الحزن؛ لما يحصل من الغمِّ بسببه. إلى آخر ما ذكروه.
والمشهور كما قلتُ: أنَّ الهمَّ يكون للمُستقبل، والحزن لأمرٍ مضى، وهذا الذي يُعاني منه أكثر الخلق، فهم يترددون بين آفتين: أمور ماضية يحزنون من أجلها، أو أمور يتخوَّفونها في المستقبل: من فوات المحبوب، أو وقوع المكروه، فيقع لهم الهمُّ، وهذا الهمُّ هو الذي يُعبِّر عنه أهلُ العصر: بالقلق الذي يعصف بحياة الناس، فتترحل عنهم الراحةُ والسَّعادةُ، ولا يطيب لهم العيش، ولا يهنؤون بطعامٍ، ولا شرابٍ، ولا نومٍ، إذا تعاظم ذلك في نفوسهم، وكلّ ذلك قد مضى الكلامُ عليه.
فاستعاذ من الهمِّ والحزن، وهذا يدلّ على أنَّ ذلك شديد، وأنَّ المؤمن ينبغي أن يتوقَّاه، وقد قال ابنُ القيم -رحمه الله-: "والمقصود أنَّ النبي ﷺ جعل الحزنَ مما يُستعاذ منه؛ وذلك لأنَّ الحزنَ يُضعف القلب، ويُوهِن العزم، ويضرّ الإرادة، ولا شيء أحبّ إلى الشيطان من حزن المؤمن"[2]؛ فتتكدر عليه حياته، وأنَّه نقصٌ في حياة الإنسان؛ ولذلك نفى الله -تبارك وتعالى- عن أهل الجنة الحزنَ، وهم إذا دخلوها قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34]، فهذه الدَّار هي دار الأكدار: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، لا بدَّ له من هذا، لكن عليه أن يُعالج نفسه، وأن يُدافع ذلك، وألا يستسلم.
وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أنَّ الهمومَ التي تُثقل الإنسان ثلاثة:
الأول: إمَّا لأمرٍ مضى، فهذا صار من قبيل التاريخ والماضي الذي لا يمكن استرجاعه، فهذا حمل.
والثاني: أمر مُستقبل، فهذا لم يُخلق بعد، ولا يدري الإنسانُ ما الله صانعٌ فيه، ولا يدري الإنسان هل يعيش حتى يُدرك هذا الذي يتخوّفه، أو لا يعيش؟ إذًا ليس عليه أن يحمل همَّه، فالمستقبل بيد الله -تبارك وتعالى-.
والثالث: وهو اللَّحظة التي يعيشها، وهي حياته الحقيقية، ولكن هذه اللَّحظة لو نظر فإنَّه قد لا يجد ما يُثقله في لحظته هذه، وإنما هو يتذكر أمورًا ماضية فيحزن، أو يتوقّع المكاره في المستقبل فيحزن، فتتكدر عليه معيشتُه وراحتُه، فتبقى حياتُه بين هذا وهذا.
وقلنا: بأنَّ العاقلَ ينبغي عليه أن يطرح الفائت، وأن يدع المستقبل لله -تبارك وتعالى-؛ فقد يقع، وقد لا يقع، وقد يُدرك، وقد لا يُدرك، ولكن عليه أن يتعامل مع لحظته التي يعيش فيها، ويكون على حالٍ مرضيةٍ، وعلى طاعةٍ واستقامةٍ.
قال: والعجز والكسل العجز: هو عدم القُدرة على الخير، وهو ترك ما يجب فعله، وأمَّا الكسل: فهو عدم انبعاث النفس للخير، وقلّة الرغبة فيه، مع إمكانه، فهو يستطيع، ولكنَّه يكسل؛ إذا أراد أن يُصلي فإنَّه يكسل، وإذا أراد أن يصوم يكسل، وإذا أراد أن يعمل شيئًا من الخير يكسل، فهذا الكسل يُقعده، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن المنافقين بأنَّهم: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، فالكسل في الطَّاعات أمرٌ مذمومٌ، وإنما يكون بسبب تثبيط الشَّيطان، أو بسبب الاسترسال مع دواعي النَّفس التي تجذبه إلى الراحة، وقد قيل: مَن رافق الراحة فارق الراحة في وقت الراحة.
ولهذا بعض الناس إذا أراد أن يدعو على البعيد دعاءً مُبطنًا بسوءٍ: دعا عليه بأن يكون مُستريحًا في الوقت الذي يتعب فيه الناس، معنى هذا: أنَّهم يتعبون في الحصاد وجني الثِّمار، وما إلى ذلك، ويكون مُرتاحًا، بمعنى: ليس عنده شيء.
فمَن رافق الراحة فارق الراحة في وقت الراحة، الذي يخلد إلى الأرض في الدنيا، ويكسل عن طاعة الله ؛ لا تحصل له راحة في عاقبة الأمر، فيحتاج الإنسانُ إلى الجدِّ، وأن تكون عنده رغبة في الخير، وعزيمة صادقة، وهذا له دوافعه، وما يُقويه، وينشّط النفس له.
قال: والبُخل والجبن يعني: وأعوذ بك من البُخل والجبن، والجبن يُقابل الشَّجاعة، فالشَّجاعة تكون بدافع النفس الغضبيَّة، فهذا الجبان يكون خوَّارًا في مواطن الإقدام؛ خوفًا على نفسه، وخوفًا على مُهجته، فيضنّ بالنفس عن فعل ما يجب في الوقت الذي يجب، والبخل قرين الجبن؛ لأنَّه نوعٌ منه، فالبخل يُقابل الكرم؛ لأنَّ الكرم شجاعة النَّفس، والبذل والعطاء، أمَّا الجبان فإذا أراد أن يبذل فكما ذكر النبيُّ ﷺ: مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديدٍ، من ثديهما إلى تراقيهما، فأمَّا المنفق فلا يُنفق إلا سبغت -أو وفرت- على جلده، حتى تُخفي بنانه، وتعفو أثره، وأمَّا البخيل فلا يريد أن يُنفق شيئًا إلا لزقت كلُّ حلقةٍ مكانها، فهو يُوسعها ولا تتسع[3]، يعني: يكون كالذي غلّت يداه إلى عنقه -نسأل الله العافية-، فإذا أراد أن يقدم ويبذل ويتصدَّق ويُحسن إلى الآخرين تجبن نفسُه عن ذلك، وتنقبض؛ فيكفّ، ويترك المكارم، ويترك معالي الأمور، ويترك أداء الحقوق والواجبات، كلّ ذلك بُخلاً، فيمنع الحقوق الواجبة والمستحبّة، ويمنع الإحسان، ولا يصل منه إحسانٌ إلى الآخرين، ويمنع السَّائلين، ولا يُعطي ما يفضل عن حاجته، وكذلك البُخل.
قد يكونان غريزة في الإنسان، كأنَّه يُطبع على هذا، وبعض الناس يُطبع على الكرم والشَّجاعة والبذل، ويفرح ويسرّ بذلك، ولا يجد نفسه إلا بهذا، وأخبار هؤلاء كثيرة.
وقد تكلَّمتُ عن الجود في كلامٍ مُطولٍ، وذكرتُ من أخبار هؤلاء أشياء مُستفيضة، حيث إنَّ بعضَهم لا يمكن أن يأكل وحده، ولا يطيب له مقام إلا بوجود الأضياف، وأنَّ الكرام والأجواد من العرب كانوا يُقيمون ويسكنون وينزلون في أعالي الأرض.
وقد تكلمتُ على هذا أيضًا عند الكلام على قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، فالزكاء: نماء، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، التَّدسية هي حطٌّ لها، وقلنا: بأنَّ العرب تقول: إنَّ أهل الشُّح والبخل واللؤم يسكنون الأسافل؛ لئلا يراهم أحدٌ، ولا يرى الضيفُ نارًا، فيقصد هؤلاء للقِرَى، ونحو ذلك.
فهذان -نسأل الله العافية- الجبن والبخل قد يكونان غريزةً، وقد يعرض ذلك للإنسان وليس بغريزةٍ له، لكن بحسب ما يُوجَد من الدَّواعي والصَّوارف، ومَن قوي إيمانُه لم يكد يظهر منه هذا ولا هذا.
والنَّووي -رحمه الله- يذكر علَّة استعاذة النبي ﷺ من الجبن والبُخل، فيقول: "وأمَّا استعاذته ﷺ من الجبن والبُخل، فلما فيهما من التَّقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإغلاظ على العُصاة؛ ولأنَّه بشجاعة النفس وقوَّتها المعتدلة تتمّ العبادات، ويقوم بنصر المظلوم، والجهاد، وبالسَّلامة من البخل يقوم بحقوق المال، وينبعث للإنفاق والجود، ولمكارم الأخلاق، ويمتنع من الطَّمع فيما ليس له"[4].
قال: وضلع الدَّين، وغلبة الرِّجال الضّلع بمعنى: ثقل الدَّين وشدّته؛ وذلك حين لا يجد ما يُوفي به الغُرماء، لا سيّما مع المطالبة، وقد قال بعضُ السَّلف: "ما دخل همُّ الدَّين قلبًا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه"[5] -نسأل الله العافية-، يعني: هو نقصٌ مُستمرٌّ دائمٌ، يأخذ شعبةً من عقله؛ لذلك قالوا: "الدَّين شين الدِّين"[6].
ولما سُئل بعضُ الحفَّاظ: بماذا حصَّلتَ هذا العلم؟ قال: بطرد الهمِّ؛ لأنَّ الهمَّ يتفرَّق معه القلبُ؛ فتجد الإنسان يُمسك الكتابَ ويقرأ صفحةً وصفحتين وثلاثًا وأربعًا، وأحيانًا يجلس العصرية كاملةً على صفحةٍ، لا يُجاوزها؛ لأنَّه مهمومٌ، والقلب ليس معه.
وقد حدَّثني بعضُهم: أنَّه بقي في سفرٍ، وهو مهمومٌ في تلك السَّفرة الطَّويلة طول الوقت، لم يُجاوز صفحةً واحدةً؛ وذلك أنَّه لا يجد قلبَه.
ضلع الدَّين أصل الضّلع: الاعوجاج والميل، فكأنَّه يُثقله حتى يميل صاحبُه، تقول: فلانٌ يضلع الدَّابة، وتضلع الشَّاة، أي: تميل بعرجٍ، ونحو ذلك، فهذا الدَّين يُثقل الإنسان، فلا يمشي سويًّا، وإنما يكون مشيُه ليس على استقامةٍ، فتجد هذا الإنسان يتعثر، ويختفي من الناس، ويذهب ويلوذ عنهم، ويُصلِّي في مسجدٍ بعيدٍ، وقد يُصلي في البيت، وقد يُسافر إلى بلدٍ آخر لا يعرفه فيها أحدٌ، ويتحمّل الغُربة في سبيل أنَّه لا يُقابل أحدًا من هؤلاء الذين يُطالبونه بحقوقهم وأموالهم.
وغلبة الرِّجال يعني: قهر الرِّجال، وشدّة تسلط الرِّجال عليه، والمقصود هنا على سبيل الظلم والعدوان، أو أنَّ ذلك يتَّصل بما قبله؛ أنَّ غلبةَ الرجال ممن لهم حقٌّ في دَينٍ، ونحوه، فهذا استعاذ منه النبيُّ ﷺ لما يُوقع من الوهن في النَّفس.
ولهذا يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: بأنَّ النبيَّ ﷺ استعاذ في هذا الحديث من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان[7]؛ فالهمّ والحزن قرينان، وهم من آلام الروح ومُعذباتها، الهمّ والحزن لا يقعانِ على الجسد، وإنما على النَّفس.
ثم ذكر الفرقَ بينهما: أنَّ الهمَّ توقّع مكروه في المستقبل، والحزن لأمرٍ فائتٍ، أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح، فإن تعلّق ذلك بالماضي يُقال له: الحزن.
ثم يقول: والعجز والكسل قرينان، وهما من أسباب الألم؛ لأنهما يستلزمان فوات المحبوب؛ فالعجز يستلزم عدم القُدرة، والكسل يستلزم عدم إرادته، فتتألم الروح لفواته بحسب تعلّقها به، والتذاذها بإدراكه لو يحصل[8]، يكسل عن الأعمال الصَّالحة، فإذا جاء يوم القيامة وجد صناديق فارغة، وأوقات طويلة ذهبت بالجلوس هنا وهناك، والاضطجاع، وتضييع الأوقات، والتَّمدد والتَّرهل، والناس قد جاءوا بأعمالٍ، وشمَّروا.
وترد عليه مثل هذه الليالي العشر، وموسم كبير للطَّاعة، فلا يتغير شيءٌ، كأنها ليست بعشرٍ، وكأنَّه ليس بموسم عبادةٍ.
نقول له: لماذا لا تصوم وتقرأ القرآن؟ فيكسل، ويفوته هذا الخير، فيأتي الناسُ بالأرباح العظيمة، ويأتي هذا بخيبةٍ.
وقل مثل ذلك في المزاولات والأعمال الدُّنيوية، هذا الإنسان يكسل، ولا يريد أن يخرج من بيته باكرًا من أجل تجارةٍ، أو عملٍ، أو صناعةٍ، أو غير ذلك، فلا يرجع في آخر النَّهار بكبير طائلٍ؛ لأنَّه ينام إلى الظهر، أو إلى العصر، ثم بعد ذلك يخرج، ولا يرجع بنتيجةٍ.
نحن نقول لطلابنا في الجامعة: بأن هؤلاء الذين يجلسون على مقاعد الدِّراسة منذ المراحل الأولى في التَّعليم، وهذا الطالب الذي يجلس في الأخير -آخر مقعد-، ولربما يستعرض قوَّته أمام هؤلاء الطلاب النُّجباء الصِّغار الذين لم يتخلَّفوا سنةً في تعليمهم، ونحو ذلك، وهو لا يرفع لهذه الدِّراسة رأسًا، ولا يفتح كتابًا، ولا يعمل شيئًا من شأنه أن يرتفع به، النتيجة ما هي؟! وهم يعملون في مكانٍ واحدٍ؛ فهذا يعمل بوَّابًا، وهذا يكون مُديرًا في هذا المكان الذي يعمل فيه، وهؤلاء في هذا المكان -إن كان مستشفى- أطباء، يروحون ويأتون، وهذا هو البوَّاب الذي يفتح لهم الباب ويغلق، وهم في فصلٍ دراسيٍّ واحدٍ، فما الذي جعل هذا بهذه المثابة؟!
ويذهب كل صباحٍ على قدميه مسافات بعيدة، وعلى أجورٍ زهيدةٍ، لو قيل له منذ البداية وهم على مقاعد الدِّراسة: أنت ستكون كذا، وسنجعلك كذا، ونُعطيك كذا، وأنت نُعطيك كذا؛ لغضب أشدَّ الغضب، وأخذته الأنفةُ، لكنَّه فعل ما من شأنه أن يُوصله إلى هذه النَّتيجة؛ هذا الكسل.
وكذلك أيضًا الجبن والبُخل، يقول: قرينان؛ لأنَّهما عدم النَّفع بالمال والبدن، وهما من أسباب الألم؛ لأنَّ الجبان تفوته محبوبات ومفرّحات وملذوذات عظيمة، لا تُنال إلا بالبذل والشَّجاعة، والبخل يحول بينه وبينها أيضًا.
فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام[9]؛ ولذلك انظر إلى الكريم الشَّهم الذي قد فتح بيتَه ومجلسه، ويُنفق ويبذل، ويستضيف الناس، تجد أنَّه من أكثر الناس انشراحًا، ومن أعظمهم فألاً، بينما تجد هذا البخيل الشَّحيح من أكثر الناس انقباضًا، وسوء ظنٍّ، ويتوقع المكروه دائمًا، كالجبان أيضًا الذي يتخوّف من لا شيء، فهو يعيش دائمًا في مخاوف وقلق وضيق، يتوقّع المكاره، ثم بعد ذلك تنقضي حياتُه ولم تحصل له هذه المكاره، وما قُدِّر عليه سيجري، ولكن نفسُه تأبى؛ لأنَّه جبان، بينما تجد الشُّجاع مُنطلق حتى في أسوأ الظُّروف والأحوال.
يقول ابنُ القيم -رحمه الله-: "وضلع الدَّين، وقهر الرِّجال قرينان، وهما مُؤلمان للنَّفس، مُعذِّبان لها: أحدهما: قهرٌ بحقٍّ، وهو ضلع الدَّين، والثاني: قهرٌ بباطلٍ، وهو غلبة الرِّجال"[10]. يقول: "وأيضًا فضلع الدَّين قهرٌ بسببٍ من العبد في الغالب، وغلبة الرِّجال قهرٌ بغير اختياره"[11].
وبعض أهل العلم؛ كالكرماني -من شُراح الصَّحيح- يقول: "وهذا الدُّعاء من جوامع الكلم، لما قالوا: أنواع الرَّذائل ثلاثة: نفسانية، وبدنية، وخارجية. والأول بحسب القوى التي للإنسان: العقلية، والغضبية، والشَّهوية، ثلاثٌ أيضًا: فالهمّ والحزن تتعلّق بالعقليَّة، والجبن بالغضبيَّة، والبُخل بالشَّهويَّة، والعجز والكسل بالبدنيَّة. والثاني يكون عند سلامة الأعضاء، وتمام الآلات والقوى، والأول عند نُقصان عضوٍ، ونحوه. والضّلع والغلبة للخارجية، والأول مالي، والثاني جاهي، والدُّعاء مُشتملٌ على الكلِّ"[12].
على كل حالٍ، هذه النَّفس تحتاج إلى فقهٍ في التَّعامل معها، ويحتاج الإنسانُ إلى طريقةٍ لرفعها، ولا يسترسل مع دواعيها، ولا يسترسل أيضًا مع دواعي الفكر التي تقوده إلى الهمِّ والحزن، ولا مع دواعي النَّفس التي تقوده إلى الرذائل؛ من البخل والشُّح والجبن، وما إلى ذلك، فإنَّ النفس تجذبه إلى مثل هذه الأمور بطينتها وثقلها؛ فيُمسك المال، ويجبن عن المكارم، ويكسل عن الطَّاعات والخيرات والأعمال الجادّة، ومعالي الأمور؛ فتحصل له بسبب ذلك الخسارة الكبيرة.
وهذه الحياة الدنيا هي مجالٌ وميدانٌ واسعٌ للعمل والجدِّ والتَّسابق والتَّنافس والمسارعة؛ لأنَّ هذه الحياة هي فرصة ينطلق الإنسانُ فيها، فيخرج من بطن أمه مُنطلقًا بلا توقفٍ إلى الممات، فينبغي أن يكون هذا المشوار إلى هذه الغاية التي لا يعرف متى تكون النهاية؟ فيستغلّ كل لحظةٍ، وكل نَفَسٍ، بحيث إذا وصل يكون قد حصل أكبر قدرٍ من المكاسب والأرباح، فهي مُسابقة تصل إلى تلك الغاية المجهولة بالنسبة إليك، وانظر أكبر قدرٍ من التَّحصيل والحصاد تحمله معك.
والبعض أخذ الموضوع كأنَّه لا يعنيه، وجلس في مكانه، ولا يُسابق، ولا يُنافس، ولا يتحرَّك، فإذا جاء الوقتُ المعلوم، وهذه الحياة تسير به، سواء كان واقفًا، أو جالِسًا، أو يمشي، لا تتوقف، فتصير به مثل راكب سفينةٍ إلى الأجل، ثم بعد ذلك يُفضي إلى الله ببضاعةٍ مُزجاةٍ، والآخرة دارٌ لا تصلح للمفاليس.
نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسّير، باب مَن غزا بصبيٍّ للخدمة، برقم (2679).
- "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص279).
- أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب مثل المتصدّق والبخيل، برقم (1352).
- "شرح النووي على مسلم" (17/29-30).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/174).
- أورده في "مسند الشهاب" القضاعي، برقم (31)، وفي "معرفة الصحابة"، برقم (5435) مرفوعًا، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (6777).
- "بدائع الفوائد" (2/207).
- "بدائع الفوائد" (2/207).
- "بدائع الفوائد" (2/207).
- "بدائع الفوائد" (2/207).
- "بدائع الفوائد" (2/207).
- "الكواكب الدَّراري في شرح صحيح البخاري" (22/159).